شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أخاف على عائلتي من الانحلال في تونس"... زوجات كالأرامل ورجال مهاجرون دائماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 30 مايو 202104:32 م

تتجوّل عفاف (36 عاماً) من محافظة مدنين جنوب تونس، في السوق الأسبوعية على عجلة من أمرها، تشتري ملابس جديدة لها ولأطفالها، استعداداً لحضور زفاف أخي زوجها، تسرع الخطى نحو صالون الحلاقة لفرد شعرها، فهي تريد أن تكون في أجمل مظهر أمام الحضور، وخاصة أمام زوجها الذي لم يرها منذ تسعة أشهر تقريباً.

يقيم زوجها بالعاصمة تونس، يعمل بقالاً، ولا يعود إلى محافظته إلا في الأعياد والمناسبات العائلية، حال الكثيرين من رجال المناطق الداخلية في تونس.

"الغربة والعمل سرقاه منا".

تقول عفاف: "تزوجت منذ 6 سنوات تقريباً، ولا أذكر أن زوجي بقي معنا أكثر من أسبوعين متتاليين، فالغربة والعمل سرقاه منا".

يعرف الزواج بأنه مؤسسة تبنى على أسس عدة، من بينها زوج وزوجة وأولاد، والعيش معاً تحت سقف واحد في السراء والضراء، ولكن كثيرين من المناطق الداخلية في تونس اضطرتهم البطالة والتهميش إلى الإخلال بقواعد مؤسسة الزواج.

على مضض يغادر الرجال بيوتهم وزوجاتهم للذهاب إلى العمل في المدن الكبرى والعاصمة، وعادة ما تكون أعمالهم غير منظمة، ولا يتمتعون فيها بإجازات أو عطل إلا للضرورة القصوى.

"الخبز مرّ"، يقول الزوج محمد (55 عاماً)، "فتحت هذا المحل في تونس منذ عقدين تقريباً، وأصبحت معروفاً لدى الزبائن، وأحس أنني خذلتهم وأنني سأخسرهم عندما أغلقه حتى لبضعة أيام في العيد، لأن المنافسين هنا كثر".

لا يريد محمد (55 عاماً) ويعمل بقالاً في تونس العاصمة، أن يأتي بعائلته للعيش معه، خوفاً عليهم من "مظاهر الانحلال الأخلاقي"، ولا يستطيع المكوث طويلاً معهم، لأن "المنافسة شديدة"

غلوّ ثمن الإيجارات في العاصمة، إضافة إلى ما يعتبره محمد "مظاهر الانحلال الأخلاقي"، دفعاه إلى ترك زوجته وأبنائه، يقول: "أريد تربية سليمة لأبنائي".

محمد هو أصيل جزيرة جربة من محافظة مدنين في أقصى جنوب البلاد، أب لخمسة أبناء، ولا يعود إلى بيته إلا في المناسبات العائلية أو الأعياد.

تفتقر المناطق الداخلية التونسية إلى مواطن الشغل بسبب التمييز الذي عمده النظام بعد الاستقلال، ما دفع الرجال في تلك المناطق إلى الهجرة نحو العاصمة.

يتصدّر البحث عن العمل قائمة دوافع الهجرة الداخلية في تونس بنسبة 20.7%، وقد حقق إقليم تونس الكبرى في الفترة الممتدة بين 2009 و2014 صافي هجرة ناهز 46 ألف مواطن، إضافة إلى الوسط والجنوب الشرقي، اللذين استقطبا 119.6 ألف من إجمالي عدد الوافدين على الأقاليم الساحليّة، والبالغ عددهم 360.8 ألف.

وسجّلت المناطق الغربيّة للبلاد حصيلة هجرة تراوحت بين 34.8 ألف ساكن في الشمال الغربي، و39.5 ألف في الوسط الغربي، و5800 بالنسبة للجنوب الغربي.

"أبكي لساعات طويلة"

لم تعد سماح (38 عاماً) من محافظة تطاوين، تعول على زوجها في إدارة شؤون البيت ولا الأطفال. تقول لرصيف22، وعلامات الحسرة على محياها: "رغم أن زوجي طيب، يعاملني معاملة حسنة ولا توجد مشاكل بيننا، إلا أنني أتمنى أحياناً لو لم أتزوج، فزوجي يعمل بالعاصمة ولا يعود إلينا إلا في المناسبات والأعياد لمدة قصيرة لا تتجاوز أياماً، وقد تعبت من مسؤولية إدارة شؤون البيت وتربية الأطفال وحيدة، كأنني مطلقة أو أرملة، لا فرق أبداً".

تشاركها دليلة (50 عاماً) من محافظة سليانة في الشمال الغربي، مشاعرها. تروي لرصيف22: "أذكر جيداً أن زوجي تركني في الأسبوع الأول من زواجنا، وعاد إلى محافظة المنستير الساحلية للعمل هناك".

"كنت أعاني من الوحدة والخوف، وكان زوجي يرسل لي بعض الأموال، ورسالة مكتوبة مرّة كل شهر، يعبر فيها عن شوقه وحبه لي، لكن ذلك لا يعوّض وجوده بجانبي".

تطلق دليلة تنهيدة من الأعماق، وتضيف: "زوجي متزوج بعمله ليس بي، فقد أنجبت أبنائي الأربعة، ولم يكن حاضراً، وأذكر أنه أرسل لي رسالة عندما قرب موعد ولادتي بابنتي الصغرى، يطلب فيه مني أن أسميها 'أمل'، ولكن الرسالة وصلتني بعد أسبوع من ولادتي، وحينها كنت قد سميت ابنتي خولة".

يأتي زوج دليلة في فترات متباعدة ولا يمكث أكثر من أسبوع، بالإضافة إلى الأعياد والأفراح، كحال البقية، تقول دليلة: "لا يمكنني أن أنسى بكاء أطفالي على غياب والدهم، وكان في كل مرة يرحل فيها للعمل في ولايات بعيدة عنا، أظل أبكي لساعات طويلة، ودائماً ما أشعر بالوحدة والخوف من المجتمع الذكوري الذي لا يرحم امرأة تعيش وحيدة".

"موسم الرجال"

سلّطت المخرجة التونسية مفيدة التلاتلي الضوء على معاناة النسوة بسبب هجرة أزواجهن، في فيلمها "موسم الرجال"، الذي تدور قصته حول نساء جزيرة جربة، في محافظة مدنين جنوب تونس، وهجرة رجالهن وتفرقهم بعيداً عنهن للعمل، خاصة في التجارة والصناعات الحرفية التقليدية.

وركّزت المخرجة على نساء الجزيرة اللاتي يشتهرن بصبرهن وتحمّلهن ابتعاد أزواجهن عنهن، واللاتي يعرفن كذلك بقيامهن بالواجبات المنزلية أثناء غياب الأزواج، بإعداد السجّاد والمنتجات التقليدية التي يأخذها الرجال لبيعها عند عودتهم أثناء كل موسم.

تعيش زوجات في المناطق الداخلية التونسية حياتها كالأرامل، محرومات من الأنشطة الاقتصادية المجزية، ومن حميمية الرجال، ومتحملات وحدهن مسؤولية العائلة

يُرجع الباحث في علم الاجتماع، نجيب بوطالب، أسباب خلل الهجرة الداخلية إلى "النظام السياسي المركزي، الذي ساد عدة أقطار عربية ومنها تونس، منذ القرن 19 إلى منتصف القرن العشرين، في تمركز الأنشطة الاقتصادية والإدارية والخدمات في المدن الكبرى والعاصمة".

"أدى هذا التمركز إلى جذب قوة العمل الذكورية إلى المدن الكبرى، وخاصة تونس وسوسة وصفاقس، كما ساهم تهميش الأرياف والقرى في المناطق الداخلية في إضعاف الموارد الاقتصادية لدى سكان المناطق الريفية، التي ظلت تابعة تبعية مطلقة".

ويضيف بوطالب: "منذ عقود، كان المهاجرون من الذكور يتركون عائلاتهم ويضحّون بالبقاء شهوراً بل سنوات دون العودة الى بلد النشأة، بسبب سوء وسائل النقل وضعف المعاشات والمنح التي يحصلون عليها في أعمال ومهن هامشية بالعاصمة وغيرها".

وعن حياة المرأة، فهي من ناحية محرومة من النشاط الاقتصادي الذي يجعلها مستقلة، أو مساوية للرجل، وكذلك من التجارب الحميمية مع زوجها، ومن ناحية أخرى تتحمل وحيدة أعباء البيت والعائلة، يقول بوطالب: "كانت المرأة، زوجة، أمّاً أو جدة، تقوم بأدوار جليلة في القرية، ممثلة في تربية الأطفال ورعاية الحيوانات وشؤون الأسرة، لذلك تشير الدراسات إلى أن المرأة في هذه الجهات كانت ولا تزال تلعب أدواراً كبيرة في إدارة شؤون الأسرة في ظل غياب الرجال، وقد تأكّد ذلك وتدعّم مع توسع هجرة أبناء هذه المناطق إلى الجزائر وليبيا وفرنسا وباقي الدول الأوروبية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image