شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"تونسيات تحررن جنسياً ولكن المجتمع محافظ"... عن "التصفيح" و"الترقيع"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 31 مايو 202004:03 م

"عندما لم تنزل قطرات دم ليلة الدخلة، شكّك زوجي في عذريتي، صفعني، شدّني من شعري وجذبني من فراش غرفة النوم وصولاً إلى باب المنزل وهو يصيح: عاهرة.. عاهرة"، تقول منى (30 عاماً)، وتعمل في مجال الخياطة، عن ليلة زفافها.

لم تكن منى تعرف أنها "مصفَّحة"، وأن ذلك هو سبب عدم فض بكارتها، تقول عن عادة "التصفح" متنهدة: "من العادات المتوارثة في مسقط رأسي بـمدينة كسرى "تقع شرقي مدينة مكثر بمحافظة سليانة، في الشمال الغربي التونسي"، أن تقوم النسوة إذا ما أنجبن بنات بتصفيحهن من أجل حماية عفتهن والحفاظ على شرفهن، وهذا ما حدث معي بالضبط، لكن انقلب السحر على الساحر!"

"التصفيح حماية من..."

التّصفيح هو إحدى العادات القديمة التي توارثها التونسيون تحت مبرر حماية "عفة" الفتاة، وحراستها إلى يوم زفافها، وتتمّ أبرز طقوس عملية التصفيح، التي تشرف عليها عادة امرأة مُسنّة، ضالعة في هذه العمليات، تُعرف في المنطقة التي تقطن بها بقدرتها على "غلق" الفتيات، بجرحهن قبل بلوغهن سبع جروح على فخذهن الأيسر، ثم تغمس سبع حبات من الزبيب أو القمح أو التمر المجفف في الدم الذي ينزف من الجرح، وتأكلها الفتاة وهي تردد: "أنا حيط وولد الناس خيط"، أي أنا حائط، في إشارة إلى غشاء البكارة الذي يغدو منيعاً بعد التصفيح، ومن يمسّني لا قدرة له على فضّ بكارتي.

"مع ضغط عائلتينا في الخارج، اضطررت إلى جرح يدي لأبقّع القميص، وبمجرّد تقديمه إليهم انطلقت الزغاريد، وطوّقت حماتي خصرها بالقميص وبدأت ترقص على أنغام "المزود" متباهية بـ"شرف" ابنتها، ورافقتها الرقصة والدتي مفتخرة بـ"فحولة" ابنها"

تقول الخالة خديجة (86 عاماً)، التي سبق أن قامت بعشرات العمليات من التصفيح، مبررة تلك العادة في منطقة ريفية في معتمدية طبرية: "في السابق لم تكن القوانين حازمة، وسارية كما هو الحال في يومنا هذا ضدّ المغتصب، وكانت تكثر حالات الاغتصاب، يقابلها صمت مشين من عائلة البنت خوفاً من الفضيحة، لذلك تلجأ أغلب الأسر إلى تصفيح بناتهن لحفظهن سالمات إلى يوم زفافهن".

تشرد قليلاً ثم تتابع: "أيام الاحتلال الفرنسي لتونس، كان الجنود الفرنسيون يسبون الشابات التونسيات ويغتصبوهن، وحدهن المصفّحات ينجُون من بطشهم، وهنا تكمن أهميّة التصفيح بوضع حدّ للاغتصاب".

وتتمّ عملية التصفيح، حسب الخالة خديجة، بناء على قواعد معيّنة ودقيقة، دونها لا تنجح. ولعلّ أبرز هذه الشروط "الزجرية"، أن تكون الفتاة غير بالغة بعد، ويستحسن أن تكون صغيرة السن، وغير مدركة لما يحدث لتكون طيّعة، كما أن عملية التصفيح تستوجب أن تقام في منزل خال من أي ذَكَر، وأن تكون المرأة القائمة عليها ملقّبة بأحد الأسماء ذات المرجعية الإسلامية على غرار: خديجة، فاطمة أو عائشة..

"من أهمّ شروط عملية التصفيح أن تتمّ بسريّة تامة، وأن تبقى المرأة التي قامت بالعملية على قيد الحياة، أو أن تورّث طريقة التصفيح التي قامت بها إلى امرأة أخرى، لتقوم ب"فتح" الفتاة قبيل زفافها، وإلا فلن تتمكن من المعاشرة الزوجية"، تقول الخالة خديجة لرصيف22.

"السوريّة" أو ختم "الشرف"

"السوريّة" وتعني في العامية التونسية "القميص"، تمثّل في الموروث التونسي الفيصل في إقرار ما إذا كانت البنت "شريفة" أم لا.

تقف أسرتا العريسين في الخارج تترقّبان بفضول خروج العريس من غرفة نومه ملوّحا بـ"السوريّة" البيضاء التي تمثّل ختم الشرف، فإذا كانت مبقّعة بقطرات دم صلُحت العروس، وإن كانت ناصعة البياض تكون الصّدمة.

يقول خالد، اسم مستعار (47 سنة)، لرصيف22: "تزوّجت في الـ35 عن قصّة حبّ دامت سبع سنوات، وكدت أخسر حبيبتي بسبب هذه العادات البالية".

يحكي خالد، وهو مالك لـ"كشك" من مدينة المرناقية في محافظة منوبة، لرصيف22: "ليلة زفافي وجدت نفسي عاجزاً، لا أدري كيف أفسّر لك ذلك، لكنني لم أفهم ما يحدث ساعتها، زوجتي أحبّها بشكل لا يوصف، ومع ذلك فشلت، نعم فشلت في أول علاقة لي معها، أحسست بإحراج كبير أمامها، خاصّة وأنّ الوقت يداهمنا، وأنّ عائلتينا في انتظار "السوريّة" في الخارج".

يبتلع خالد ريقه ثم يتابع همساً، كي لا تسمعنا ابنته التي تلعب بالقرب منّا، "مع ضغط عائلتينا في الخارج، اضطررت إلى جرح يدي لأبقّع القميص، وأسلمه إليهم، وأُسكت فضولهم، وبمجرّد تقديمه إليهم انطلقت الزغاريد، وطوّقت حماتي خصرها بالقميص، وبدأت ترقص على أنغام "المزود" متباهية بـ"شرف" ابنتها، ورافقتها الرقصة والدتي مفتخرة بـ"فحولة" ابنها".

يصمت خالد قليلاً ثم يتابع: "تركتهم في أجواء التبجّح وعدت إلى زوجتي التي وجدتها جالسة القرفصاء، ورأسها محشور بين ركبتيها، وقبل أن أنبس ببنت شفة قالت لي: "هذا ليس خطؤك.. أنا مصفّحة"، دون أن أدخل في تفاصيل ما حدث حينها، لم أتمكّن من معاشرة زوجتي إلا بعد أسبوعين استغرقناهما في البحث عن العجوز التي قامت بغلقها حتى تعيد فتحها".

يلتفت خالد إلى ابنته، ويتابع: "أستغرب حقاً لجوء أسر تونسية إلى اعتماد مثل هذه الشعوذات على فلذات أكبادهن، عندما تكبر ابنتي قليلاً، سأسعى برفقة والدتها إلى الإحاطة بها جنسانيّاً، وتوعيتها قدر الإمكان لحماية جسدها بنفسها، ولن تكون في حاجة إلى ترّهات المشعوذات للحفاظ على نفسها".

من "التصفيح" إلى "الترقيع"

مع تراجع القيام بعمليات "التصفيح" التي تحول دون فقدان من مارسن الجنس أو تعرّضن للاغتصاب لعذريتهن، خاصة بالمدن، أضحت نسبة كبيرة من الفتيات تلجأن إلى أساليب حديثة تنقذ "شرفهن" بعد أن "خسرن عذريتهن"، سواء عن قصد أو دون قصد.

"أجريت الصيف الماضي أكثر من 30 عملية رتق لغشاء البكارة لشابات، تتراوح أعمارهنّ بين الـ25 والـ35" يقول د.عماد (اسم مستعار) الطبيب الأخصائي في طب النساء والتوليد، الذي فضّل إخفاء هويته، نظراً لأنّ عمليات "الرتق" ممنوعة في القانون التونسي.

ويوضح د.عماد لرصيف22: "يتمثل الترقيع بإجراء جراحي يهدف لإعادة بناء غشاء البكارة ليعود إلى حالته العذرية، وهو تدخل بسيط يمثّل إحدى التقنيات لتجميع ما تبقّى من الغشاء، وخياطتها معاً بواسطة خيوط قابلة للانحلال بعد الالتئام"، مشيراً إلى أنّ زمن إجراء العملية لا يتجاوز ساعة واحدة.

"كل سنة يرتفع عدد المقبلات على عمليات رتق الغشاء".

"كل سنة، يرتفع عدد المقبلات على عمليات رتق الغشاء، ويتضاعف عددهن غالباً انطلاقاً من شهر إيار/ مايو إلى غاية شهر آب/ أغسطس، نظراً لكثرة الأعراس خلال هذه الفترة"، مستدركاً، أنّ هذه السنة تعتبر سنة استثنائية عن سابقاتها لأن عدد المقبلات على العمليات انخفض كثيراً بسبب الحجر الصحي العام، الذي فرضته جائحة كورونا، يقول: "منذ سبع سنوات، هذا أول إيار/ مايو يمرّ عليّ دون القيام بأي عملية رتق".

ويتابع الطبيب، الذي يقوم بعمليات رتق غشاء البكارة في إحدى المصحّات الخاصة في العاصمة: "عدد كبير من المقبلات على عمليات الرتق يأتين برفقة أمهاتهن، اللاتي تبدو عليهن مشاعر مختلطة بين القلق، والإحساس بالخجل والعار، وعلى الرغم من أن ذلك ليس من مهامي، فإنني أحاول دائماً تهدئة روعهن، وطمأنتهن قدر الإمكان"، مشيراً إلى أن نجاح العملية مضمون.

"التونسيات تغيرن والعادات مستمرة"

من المنظور السوسيولوجي، يؤكّد الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي، لرصيف22، أنّ ارتباط الشرف بالعذرية مسألة لا تزال موجودة في المجتمعات ذات البنية التقليدية الذكورية، "وفق المعتقدات والتمثلات في المجتمعات التقليدية، المرأة الشريفة هي المرأة التي لم تقم بعلاقات جنسية قبل الزواج والعكس صحيح".

ويضيف غربالي أن "المجتمع التونسي، ككل المجتمعات التقليدية، لايزال يعتقد أن المرأة العذراء هي المرأة الشريفة، وأن شرفها لا يعنيها هي كشخص بل هو شرف الجماعة، وهنا نذكر مسألة "السوريّة" التي لا تزال معتمدة في بعض الأرياف، والتي تمثّل حجّة على أن عائلة العروس شريفة، نظراً لأنها نجحت في تربية ابنتها على احترام المعايير".

"كل سنة، يرتفع عدد المقبلات على عمليات رتق الغشاء، ويتضاعف عددهن غالباً انطلاقاً من شهر إيار/ مايو إلى غاية شهر آب/ أغسطس، نظراً لكثرة الأعراس خلال هذه الفترة"

"إنّ الجسد والقيم يشكّلان الثقافة الاجتماعية، لذلك نجد النساء يتقمصن دورهن بأن يكن "شريفات" أي "عذراوات"، وفق المفهوم التقليدي، كما يُبرمَج الرجال منذ ولادتهم على ضرورة الزواج من امرأة بِكر. هي أفكار تترسّخ عبر التربية والتنشئة الاجتماعية"، حسب الباحث في علم الاجتماع، الذي يشير إلى أن "إثبات العذرية لا يكون إلا بالدم الذي يمثل طقس عبور وانتقال للفتاة من صبيّة إلى امرأة في إطار المؤسسات (الزواج)".

ويستدرك غربالي، معلقاً على زيادة عمليات رتق غشاء البكارة، أن "المجتمع التونسي لم يعد مجتمعاً تقليدياً، وتأقلم مع التغيرات الاجتماعية، فنجد المرأة خرجت لسوق العمل، وأصبح بإمكانها الاستقلال إلى حدٍّ ما عن المؤسسات التقليدية، وتوفرت لها إمكانية إقامة العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج، وبالتي أصبحت العلاقة الجنسية مسألة مُفردنة، لكن في المقابل لا يزال الفرد "في إشارة إلى المرأة" يعيش بين منظومتَيْ قيم متناقضتين في نفس الوقت: منظومة قيم تقليدية قائمة على العذرية والشرف في مفهومه المحدود والنسبيّ، ومنظومة قيم حديثة قائمة على الفردانيّة وحرية الجسد".

ويوضّح فؤاد غربالي أن "المرأة تعيش في تعارض بين هاتين المنظومتين: فهي غالباً ما تختار العيش وفقاً لمنظومة القيم الحديثة بما فيها من حريّات، وإذا ما فقدت عذريتها، فهي تسارع إلى رتقها من أجل أن تحافظ على تذكرة العودة إلى منظومة القيم التقليدية، لأنها على إدراك تام بأنها عندما تقرر الزواج ستتزوج من رجل يشترط أن تكون عذراء".

"عمليات الرتق هي تذكرة عودة المرأة للقيم التقليدية".

"عندما تقوم المرأة بعملية رتق غشاء البكارة، كأنها تمارس شكلاً من أشكال التفاوض مع مجموعة من القيم التقليدية التي لا تزال موجودة"، يقول السوسيولوجي، موضّحاً أن "المجتمع هو عبارة عن منظومات تناقض تتعايش مع بعضها، والمرأة ليست سوى تمثّلاً مصغّراً لهذا المجتمع".

ويردف الباحث في علم الاجتماع لرصيف22 أن "في تجربة التحديث الاجتماعي في تونس، أرادت دولة الاستقلال، ما بعد 1956، أن تكسر البنى التقليدية، لكنها لم تتمكن من كسرها كلها، فخلقت فرداً ممزقاً بين قيم المجتمع التقليدية التي مازالت موجودة فيه، وقيم المجتمع الحديثة".

ويعلق غربالي على عمليات "الرتق" في تونس قائلاً: "ليست لدينا معطيات ملموسة، ودراسات ميدانية تثبت تزايدها، بَيْدَ أنّ المعطى الوحيد الملموس هو أن نسبة الفتيات اللاتي يقمن بعمليات رتق البكارة مرتفع، ما يفسّر أن نسبة العلاقات الجنسية خارج إطار مؤسسة الزواج مرتفعة، يُفسَّرُ ذلك بتراجع نسبة الإقبال على الزواج، إذ يصل معدل سن الزواج للذكور 35 سنة وللإناث 29 سنة، ولا يرتبط ذلك بالظروف الاقتصادية فحسب، بل أيضاً بالقيم الفردانية التي أضحى يفضّلها الشباب التونسي، الذي بات يختار الاستقلالية على التكبيل بمؤسسة الزواج".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image