"الحياة بالنسبة لي لم تكن أكثر من قريتنا الصغيرة التي يتشاطر أهاليها نمط العيش، وأعظم مشهدٍ كان يمكن أن أشاهده والد صديقتي الثري وهو يصطحبها بسيارته إلى معهد المدينة الذي بُني على أطرافها، مشهد لا أستطيع إخراجه من رأسي حين أعود في الثامنة مساءً إلى سريري الذي تشاركني فيه زميلتي في المبيت الثانوي".
هكذا كانت تتلخّص الحياة بالنسبة للفتاة الريفية ياسمين يوسف قبل أن تغادر قريتها بضواحي محافظة الكاف (شمال غربي تونس).
ياسمين: تونس كوكب آخر
تتذكر ياسمين يوسف، 56 عاما تدرس اللغة الفرنسية، نشأتها في عائلةٍ فقيرةٍ، تقتات رؤوس الأغنام، التي كانت ترعاها عندما ينشغل والدها بزراعة حقلهم، وتحلم أن تكمل دراستها، وتحصل على وظيفةٍ تساعد بها عائلتها.
ولكن منذ أن التحقت بالمعهد الثانوي الذي يبعد حوالي 20 كيلومترا عن منزلهم، بدأت أحلامها تكبر شيئاً فشيئاً، واضطرت إلى الالتحاق بالمبيت، لتزور عائلتها كل نهاية أسبوع.
تتذكر ياسمين في حديثها لرصيف 22 اللحظة التي مثلت نقطة تحول كبير في شخصيتها، التحاقها بالجامعة في العاصمة تونس، قلب حياتها رأسا على عقب، فلم تكد تمرّ أيامٌ قليلةٌ حتى صُدمت بالأجواء الجديدة، واكتشفت حينها "حياة خارج الحياة"، واستوعبت الفاقة والحرمان الذي يضرب قريتها وعائلتها.
تقول ياسمين: "كل شيء هناك لا يشبه حياتي السابقة، حتّى الملابس ليست نفسها، وكأنّي كنت أعيش في بلدٍ آخر، بل كوكبٍ آخر".
فوارق اجتماعية شاسعة، نمط عيش مدهش، تحرر الفتيات ليس عيباً، كل تلك عاشته كـ"صدمات"، صنعت منها فتاة أخرى في غضون شهرين فقط، قررت أن تتمرد على عادات مجتمعها الريفي، بحسب روايتها.
في البداية، تخلصت من أول "حواجزها"، طريقة لبسها، ثم لاحقاً تحررت مما سمَّته "عقدة حياء الريفيات"، وانخرطت في المنظمة الطلابية، واتخّذت مبدأ "العدالة الاجتماعية" شعاراً لها، ودافعت عن زملائها في الجامعة الذين يشبهونها في مشوارها، ورأت فيهم نفسها حين قدمت حديثاً إلى الجامعة، ثم انخرطت لاحقاً في حزب يساري، وتزوَّجت من "رفيق"، ومازالت تحلم بتحقيق "العدالة الاجتماعية في تونس".
محافظة الكاف، التي جاءت منها ياسمين تتميز بوجود مناطق ريفية زراعية واسعة، وتعتبر ثاني أفقر محافظة في تونس بنسبة 34.2%، حسب ما أظهرته المعطيات الرسمية لـ"المعهد الوطني للإحصاء".
"كل شيء هناك لا يشبه حياتي السابقة، حتّى الملابس ليست نفسها، وكأنّي كنت أعيش في بلدٍ آخر، بل كوكبٍ آخر".
"ملاك" من الحجاب إلى البناطيل الضيّقة
أما ملاك حبيب، متخصصة في التجارة والأعمال 31 عاما، فتنحدر من عائلة ميسورة الحال، وشديدة المحافظ. لا يسمحون لملاك وأخواتها بخلع الحجاب، منذ كنّ في الرابعة عشر من عمرهنّ، ونشأن على المواظبة على الفروض الدينيّة، وعدم التخلّي عنها تحت أيّ ظرفٍ، خوفاً من العقاب في الآخرة.
اقتنعت ملاك بكلّ ما لقنّته إيّاها العائلة، وحافظت عليه، إلى أن أنهت الثانوية بمحافظة نابل (شمال شرقي تونس)، والتحقت بإحدى الجامعات في العاصمة.
في البداية، وجدت مشقة في مفارقة والدتها، وإمضاء الليالي "الطوال" بعيداً عنها، لكنّها اعتادت على ذلك سريعاً، وبدا غريباً أن تشعر بالمسؤولية والاستقلالية في آن واحدٍ، رغم أنّها لم تكن اجتماعيةً بالقدر الذي يسمح لها بتكوين صداقاتٍ بسهولةٍ.
كانت تلتقي مع أصدقائها بعد كل درس، في كافتيريا الجامعة، يشربون القهوة، ويتبادلون الأحاديث والنّكات، وتتجلجل الضحكات، تشعر بالوحدة أحياناً، وبصعوبة التأقلم مع العالم الجديد، المختلف عن الأجواء العائلية المحافظة، وبدأت تلقي باللّوم على طريقة تربيتها.
تصف ملاك لـ"رصيف 22" حالتها النفسية تلك بأنها كانت مرتبكةٌ جدّاً في الشهرين الأوّلين، لم تكن تعرف كيف تدرس أو كيف تتصرّف مع أصدقائها في مناخ مختلط.
ومرّت الأيام، وباتت "ملاك" تلقى مشقة في مقاومة العالم الجديد، فكل غدوةٍ أو روحةٍ داخل الجامعة يحمل "فتنة" تُهدد شخصيتها المتدينة المحافظة، يستفزها للمقاومة، والصمود.
وتضيف ملاك أنّها قرّرت بعد تفكيرٍ مضنٍ أن تتحدّى نفسها، وأن تصنع "ملاك جديدة" تستطيع العيش مع كلّ هذا الاختلاف، فبدأت بمحيطها المصغّر داخل المبيت، وكوّنت صداقات، ساعدتها لاحقاً، من خلال السهرات معهنّ، في التعرّف على "نواميس هذا العالم الجديد".
بداية التغيّر، كان بالإعلان عن حفلةٍ موسيقيةٍ كبيرةٍ اُقيمت بالعاصمة أحيتها إحدى المغنيات الشهيرات، واُعلن عن تخفيض لمن يريد الدخول من الطلّاب كتشجيعٍ لهم على الحضور، استبدلت ملاك فستانها الطويل بسروالٍ ضيّقٍ، بدا غريباً لأصدقائها الجدد، لكنّه أقرب إليها، وبعدها راجعت كلّ قيودها، واندمجت مع زملائها وأصدقائها، وصارت تهتم أكثر بقضايا تخصّ دراستها، ومستقبلها، وحتّى الشأن العام.
طريق طويل خاضته ملاك نحو الاستقلال والتحرر، من تربية محافظة، الالتزام بالحجاب، والخوف من عقاب الآخرة، مرورا بالارتباك والتخبط، ثم انتهاءً بلبس البناطيل الضيقة، والسمر مع الأصدقاء، والسهر في الحفلات، والاهتمام بالشأن العام.
"دافعت عن طموحي، وسافرت، وربحت"
زينة الحداد هي الأخرى، شابّةٌ أزعجتها قيود عائلتها وإخوتها الذكور بمحافظة قبلي (جنوب تونس)، ضيّقوا عليها الحريّة في اللباس، والخروج من المنزل، وتدخّلوا حتّى في اختيار صديقاتها، وفق ما حكته لـ"رصيف 22"، إلى الدرجة التي عارضوا فيها فكرة مواصلة دراستها بعد الباكالوريا، بحجّة أنّه من غير المعقول أن تعيش وحيدةً وبعيدة عن منزل الأسرة.
استرجعت حريّتها حال وطأت قدماها محافظة سوسة الساحلية، وشاركت في الحركات الحقوقية نقمة على قيود المجتمع
قاومت زينة، وهدّدت بقتل نفسها إن حرموها من مواصلة دراستها الجامعية، فكان لها ما أرادت بعد مقاومة أشهرٍ.
تقول زينة بلغة شاعرية حالمة إنّها استرجعت حريّتها حال وطأت قدماها محافظة سوسة الساحلية، حيث اختارت أن تدرس الحقوق، لأنّها كانت تحلم دائماً أن تلبس الروب الأسود المخصّص للمحامين، وأن يصدح صوتها داخل أسوار المحاكم بالحقّ، وإنّها غيّرت كل ما كانت ترفضه في محيطها الأسري، حتّى أنّها شاركت في جميع التحرّكات الطلاّبية المتعلّقة بالحقوق والحريّات من فرط نقمتها على قيود المجتمع.
تقول زينة عن نفسها أنها اليوم، وهي محامية عمرها 49 عاما، حقّقت حلمها، وعائلتها باتت سعيدةٌ بنجاحها.
ويوثّق التاريخ إنّ الجالية اليهودية أعطت المحاماة التونسية أول مرسّمةٍ في جدول المحامين وهي جوليات ماجة زيرح، التي التحقت بالمهنة في عام 1916، فيما هيمن المحامون الرجال على القطاع، إلى أن نجحت الحقوقية اليسارية راضية النصراوي في الفوز بمقعد أوّل امرأةٍ بمجلس الهيئة الوطنية من خلال انتخابات 1989.
وتحكي كتب التاريخ أنّ المرأة لعبت منذ فترة استعمار فرنسا لتونس سنة 1881، أدواراً فاعلة لا تقلّ أهميّة عن دور الرجل، وشاركت في بناء الدولة، وطالبت بتونس حرّةً، كما ساهمت في دفعها لمسار التحرّر، من خلال تحرّكها ضمن أطرٍ عديدةٍ، مثل الجمعيات والأحزاب واتحادات الشغل والنقابات وضمن مواقع نضالية متعدّدة.
تراكم نضالات المرأة، وخروجها من إطار الأسرة إلى الإطار العام المتمثل في المجتمع، أكسبها عدّة أدوارٍ ضمن سياقات تاريخية متتالية، حقّقت خلالها مكاسب عدّةٍ، أبرزها مجلة الأحوال الشخصية، التي سارع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة إلى إصدارها بعد مرور سنةً على الاستقلال، لتكون دستور الأسرة الأول في العالم العربي، وتطوّرت لاحقاً وفق مقتضيات كلّ مرحلةٍ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...