كتبت فتحية العسّال مسرحيتها "سجن النساء" عام 1993، ولكنها لاقت شهرة واسعة بعدما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني بنفس الاسم عام 2014، وكتبت السيناريو والحوار مريم نعوم وهالة الزغندي والإخراج لكاملة أبو ذكري.
تدور أحداث النص المسرحي للعسّال حول عالم السجن، حيث اختارت الكاتبة أن تدور أحداث نصّها عن مجموعة أشخاص مختلفين.
فاستقطبت جنس النساء ووضعته في مكان "السجن" لترصد أفعالهن وما ترتب على وجودهن داخل السجن، ومزجت بين مجموعة كبيرة من السيدات، يختلفن في المستوى المادي والفكري والجنايات التي جاءت بها كل منهن وجمعتهن داخل مكان واحد.
نظرة عامة
تدور أحداث النص المسرحي حول دخول سلوى الصحفية والناشطة السياسية للسجن برفقة صديقتها ليلى، التي لم تكن على علاقة بعالم السياسة، ولكنها أُخذت مع سلوى إلى السجن عندما كانت في منزل سلوى ذاهبة إليها لتستنجد بها من ضرب زوجها سليم لها.
تبدأ الأحداث داخل عالم السجن بمجرد ذهاب كل منهما إليه، أي أن من قبل دخولهما كان ذلك العالم قائماً بأحداثه، ولكن سلوى وليلى هما من تسببا في الكشف عما يدور فيه من أحداث.
تنخرط سلوى بنساء السجن بشكل أسرع، ويتكشّف من حوارها مع السجينات والسجّانات إنها لم تكن المرة الأولى لها إنما الثالثة، تظل ليلى في ذهولها لمواجهتها لذلك العالم الغريب الذي لم تدخله من قبل، وبعد مرور فترة قصيرة تأتي إليهما منى، ناشطة سياسية في العشرين من عمرها تسكن مع ليلى وسلوى زنزاناتهما، ومع مرور الوقت تندمج السجينات وتنكشف العلاقات فيما بينهن: علاقات الودّ والحب، الصراع والكره.
كتبت فتحية العسّال مسرحيتها "سجن النساء" عام 1993، فاستقطبت جنس النساء ووضعته في مكان "السجن" لترصد أفعالهن وما ترتب على وجودهن داخل السجن
يظهر عالم قائم بذاته، به مشاعر وحكايات أفراح وأحزان يتخلله طقوس مبهجة وصراخ ومشاجرات. تقوم أغلب السجينات بسرد حكاياتهن في شكل مونولوج لكشف أسباب مجيئهن السجن.
ومع مرور الوقت تتغير بعض الأفكار ويتعلّم كل منهن من الأخريات، حتى يصل التغير إلى ليلى التي كانت تسير في كنف زوجها سليم، لتعي وتكشف حقيقته وتصارح نفسها بها، وتنتهي المسرحية بلحظة التكشّف الصادقة التي تخلع فيها باروكتها وتصبح نفسها بعد غياب طويل.
أثر التصنيف الجنائي على شخصيات المسرحية
تناولت العسّال في مسرحيتها شرائح مجتمعية متعددة من النساء، ما بين التصنيف الطبقي (النساء الفقيرات والنساء اللاتي ينتمين لطبقة وشرائح عليا من المجتمع) والتصنيف الجنائي (المرأة القاتلة، السارقة، العاملة بالجنس، المسجونة على ذمة قضايا نصب، السياسية، وحتى المرأة المظلومة التي تدخل السجن نتيجة لظلم أو تآمر) كما جاء في كتاب هويدا صالح "مقاربات في النقد الفني".
تعتبر الشخصيات الثلاث (سلوى، ليلى، منى) بمثابة المحور الأساسي لسير الأحداث. سلوى، المناضلة السياسية التي تدافع عن حقوق الوطن، ومنى، الشابة المتحمسة التي تقاتل فداء الوطن، أي أن بين سلوى وليلى عوامل عدة مشتركة تجعلهما أكثر قدرة على التواصل معاً.
اللقاء الأول فيما بينها داخل السجن لم يكن اللقاء الأول لمنى بسلوى، بل كان هناك لقاء سابق تم عن طريق وسيط الجورنال الذي تكتب فيه سلوى أفكارها عن المرأة وحقوقها. ومع تطور العلاقة، ترى سلوى في منى ابنتها هدى، وتتمنى منى أن تكون والدتها تحمل صفات سلوى، كما ترى سلوى في منى شبابها وحيويتها.
تُشكّل كل من سلوى ومنى وليلى مثلثاً درامياً يتصدّر النص، لكن يبقى في ذلك المثلث وضلعيه المشتركين، ضلع ثالث غير مشترك معهما ولا مع جماعة السجن بأكملها.
تظهر ليلى في البداية بشكل فجّ بالملابس والألوان والمساحيق التي تضعها على وجهها ولون شعرها فاقع الصفار، وتظهر أيضاً ضعيفة، مهلهلة، ممزقة الملابس نتيجة ضرب زوجها لها، أي لتؤسس من البداية لشخصيتها صفة الضعف التي لا تتوافق مع شخصية سلوى الثائرة، وشخصية منى الشابة المتمردة النشيطة.
ووفقاً للتقسيم الجنائي، جناية ليلى هي جناية سياسية، وهنا تظهر المفارقة، كونها امرأة تبدو غير مهتمة منذ البداية بالأحوال والأحداث السياسية التي تدور في البلاد وتُسجن في قضية سياسية!
حيث يشكل السجن أداة الحاكم لتطويع المعترضين عليه، وأكثر ما يخشاه الحـاكم هو تواجد "مناضلين" مثقفين، أصحاب رأي وفكر حر مجتمعين في سجن واحد، لأن ذلك مدعاة لتوحّدهم ولاستمرار نشاطهم داخل المؤسسة، وبالتالي يجب العمل على عزل الموقوفين عن بعض، بحيث تكون العقوبة فردية وعاملة على التفريد، كما يقول علي منصوري في "البطل السجين السياسي في الرواية العربية المعاصرة".
وهذا ما ينطبق على كل من سلوى ومنى، بينما لا ينطبق على ليلى تماماً، مما يجعل ليلى شخصية مثيرة للبحث.
دور الرجل في سجن النساء
عّرف عالم الاجتماع مانويل كاستلز النظام الأبوي بأنه: "نموذج لسلطة الرجال المؤسسة وسط الأسرة، والتي تتدخل في كل التنظيم الاجتماعي". وعُرّف أيضاً بأنه المجتمع الذي تقتضي ثقافته جعل السلطة في يد كبير العائلة؛ لاعتقاده بتفوّق الرجال بدنياً واجتماعياً، وانخفاض مركز المرأة.
تناولت فتحية العسّال في مسرحية "سجن النساء" شرائح مجتمعية متعددة من النساء، طبقياً (النساء الفقيرات والثريّات) وجنائياً (القاتلة، السارقة، العاملة بالجنس، المسجونة على ذمة قضايا نصب، السياسية، والمتآمر عليها)
كما يشير مصطلح النظام الأبوي إلى "علاقات القوة التي تخضع في إطارها مصالح المرأة لمصالح الرجل. وتتخذ هذه العلاقات صوراً متعددة، بدءاً من تقسيم العمل على أساس الجنس، والتنظيم الاجتماعي لعملية الإنجاب، إلى المعايير الداخلية للأنوثة التي نعيش بها، وتستند السلطة الأبوية إلى المعنى الاجتماعي الذي يتم إضفاؤه على الفروق الجنسية والبيولوجية".
ويتمثل النظام الأبوي داخل النص في جميع الرجال المذكورين على لسان الشخصيات، حيث يتكشف من الحوار أن جميعهن سُجنّ بسبب الرجل في المقام الأول.
ومنها يتضح أن "الرجل" هو العامل الرئيسي في جمع كل هؤلاء النسوة داخل مكان واحد، رغم تعدد المواقف، حتى بالنسبة لشخصية ليلى، فهي لم تكن أمينة "مُنظمة الحركة السياسية" كما ظنّت المباحث، بل هي صديقة الطفولة لسلوى، ولو كانت أعطت للمباحث إثبات شخصية يدلّ على هويتها الحقيقة لما أستمر حبسها، ولكنها صممت على ألا تدلو بهويتها الحقيقية وتُسجن خوفاً من زوجها سليم.
وعلى الرغم من أن الرجل هو العامل الأساسي في حبس هؤلاء النسوة إلا أن كلاً منهن مازالت تتبنى الفكر الذكوري، أو كما يطلق عليها النسويات "البرمجة الذكورية".
وعلى الرغم من أن الرجل هو العامل الأساسي في حبس هؤلاء النسوة إلا أن كلاً منهن مازالت تتبنى الفكر الذكوري، أو كما يطلق عليها النسويات "البرمجة الذكورية"
حيث ترى النسويات أن المجتمع الذكوري قد يفرض بعض المهام ويخصّ بها الرجل ويفرض البعض الآخر ويخصّ بها النساء، من أجل الحصول على أهداف عدة من قِبل الرجال.
جاء في "النظريات النقدية المعاصرة، للويس تايسون: "فقد لاحظت النسويات أنه قد جرى استخدام الاعتقاد بأن الرجال متفوقون على النساء لتبرير الاستحواذ على مراكز القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمحافظة عليها، أي الحفاظ على إضعاف النساء، فالمكانة المتدنية التي احتلتها النساء في المجتمع الذكوري، قد تكونت ثقافياً وليس بيولوجياً".
وهذا يعود وفقاً للأدوار التي يمليها المجتمع على كل من الذكر والأنثى منذ مراحلهم الأولى، وهو ما يعرف بالفرق بين SEX وGENDER، فالأولى هي التي تشير إلى التكوين البيولوجي للذكر والأنثى، بينما الثانية تشير إلى البرمجة الثقافية كالمذكر والمؤنث.
بتعبير آخر، لا تولد النساء مؤنثات ولا يولد الرجال مذكرين، بينما مفردات الجنس هذه قد قام المجتمع بتشكيلها، حسب تايسون.
فتبنّت كل امرأة داخل السجن ما أملاه عليها المجتمع الذكوري من مفاهيم حول "غشاء البكارة والحفاظ عليه من أجل الرجل، الاهتمام بالنظافة الشخصية والجسد من أجل الرجل، الحياة في كنف الرجل أهون من الحياة التي تعيشها المرأة من دونه، تفضيل إنجاب الذكور عن الإناث، وغيرها.
ولم تقتصر تلك المفاهيم على السجينات غير المثقفات، بل طالت شخصية سلوى "النموذج المثقف" بالمسرحية. يظهر هذا في بعض الجمل الحوارية الأخرى التي تؤكد على تبني الجميع المفهوم الذكوري بشكل أو بآخر: "أنصاف: يا ساتر مال شعرك كله قمل كدا ليه؟ عدلات: حانظفه لمين يا حسرة".
أي أن نظافة المرأة بشكل عام أمر غير ضروري في حالة عدم وجود رجل يستمتع بها.
أثر الطفولة
في مقال بعنوان "خلف أسوار الصمت، مقدمة نص سجن النساء"، كتبت نهاد صليحة: "استخدمت الكاتبة المونولوجات الفردية الكاشفة لملامح الشخصيات النسائية لتعبر كل منهن عن معاناتها وصراعها مع واقعها"، أي لتفصح عن مكنون كل شخصية وما تحمله من أفكار تكوّنت نتيجة مجموعة من المواقف التي مرت بها كل منهن.
تشير كلمة SEX إلى التكوين البيولوجي للذكر والأنثى، بينما تشير كلمة GENDER إلى البرمجة الثقافية كالمذكر والمؤنث، وبتعبير آخر لا تولد النساء مؤنثات ولا يولد الرجال مذكرين، بينما مفردات الجنس هذه قد قام المجتمع بتشكيلها
وتظهر أغلب الأفكار مُتشكلة منذ المراحل الأولى لدى السجينات وهي "مرحلة الطفولة"، حيث أثرت مرحلة الطفولة في الكثير منهن، بل وكان كل ما تلاها من أحداث يرتكز عليها حتى أتت كل منهن إلى السجن.
ومع العودة إلى مفهوم النظام الأبوي نجد أن مرحلة الطفولة بُنيت عند الجميع وفقاً لتلك الأدوار الجندرية التي قسّمها المجتمع، لذا الأفكار التي تبناها النساء هي نتيجة ما أملاه عليهن المجتمع في طفولتهن.
منذ بداية المسرحية وسلوى تتحدث عن كمال، زوجها المناضل الذي كافح معها وعاونها في مواجهة الظلم، ولكن حتى نهاية المسرحية لم يظهر كمال ولو لمرة واحدة، وعلى ذكر الشخصيات التي ذُكرت ولم تظهر حتى النهاية، شخصية أمينة، قائدة الحركة السياسية التي تنتمي إليها سلوى، فهي تذكر أثناء الحوار، بينما لم تظهر قط لتسليم نفسها محاولة أن تخرج ليلى –المسجونة بدلاً منها- من السجن.
ليكون كل من كمال وأمينة نموذجين مناضلين وقويين، لكن فقط بالـ"قول"، لا موقف واضح لهما ولا دور مؤثر في سير الأحداث، مما يجعل الأمر فيه جزء من الشك حول صدق قضيتهما وما يتبنيان من أفكار.
وعلى نفس الوتيرة تتحدث منى عن حبيبها الذي يساندها في خطواتها، لكن دون ظهور مشهد واحد له يدفع الأحداث أو يغير منها، بينما في المواجهة، تظهر شخصية سليم، زوج ليلى الذي تذكر في البداية أنه متسلط يقوم بضربها وإهانتها.
جاء في "تجليات العنف ضد المرأة في الأدبين الإسرائيلي والعربي" لشيماء فاضل والخزعلي حمودي: "حدد الباحثون في دراساتهم عن الرجل الذي مارس العنف ضد المرأة، فقد توصلوا إلى تحديد أنماط معينة يتصف بها الرجل العنيف وهي:
-الرجل المسيطر الذي يعامل شريكته كما لو كانت شيئاً مملوكاً له ويسعى بسلوكه العنيف إلى تحقيق السيطرة التامة عليها.
"حدد الباحثون في دراساتهم عن الرجل الذي مارس العنف ضد المرأةبثلاث أنماط: الرجل المسيطر، الرجل المتناقض انفعالياً والمهذّب المزيّف"
-الرجل المتناقض انفعالياً، والذي يعيش عادة مشاعر حادة ومتناقضة إزاء المرأة الزوجة، الابنة أو الأخت، وتغلب عليه الانفعالية للشريكة فيحاول بإخلاص الحصول على رضاها وعفوها عن ثورات الغضب والعنف التي لا سيطرة عليها.
-المهذّب المزيّف، وهو الرجل الذي يسعى في سلوكه إلى تحسين صورته في أعين الآخرين على حساب عفويته، ما يزيد مشاعر القلق التي تتراكم إلى أن تحين لها فرصة الانطلاق في ثورة غضب، يتم من خلالها تفريغ التوتر عن طريق سلوك العنف والعدوان".
ومع النظر إلى شخصية سليم، نجده الرجل الوحيد من بين أزواج كافة السجينات الذي يظهر في الأحداث بل ويؤثر فيها، لذا كان يجب التوقف عند ظهور سليم وعدم ظهور كمال وحبيب منى وأي رجل آخر من أزواج السجينات.
فسليم يمزج بين النموذجين الأول الثالث من الرجال الذين توصلوا إليهم الباحثين كما تم الذكر، فهو يمثل الرجل المسيطر الذي يعامل شريكته كما لو كانت شيئاً مملوكاً له، ويسعى بسلوكه العنيف لتحقيق السيطرة التامة عليها.
ينفذ ذلك بشتى الطرق، مرة بالمداعبة، مرات أخرى بالضرب والإهانة، ويمثل أيضاً الرجل الذي يسعى في سلوكه لتحسين صورته في أعين الآخرين، فهو يظهر كرجل أعمال ناجح، متزوج من امرأة جميلة حتى يتمكن من تحقيق مكاسبه من خلال صورته المثالية التي يصدرها للجميع.
ومع تتبع طريقة تعامل سليم مع زوجته ليلى نرى إنها طريقة مليئة بالعنف الجسدي، ولكن لم يقتصر العنف الجسدي على ليلى وحدها، بل شاركتها فيه الكثير من السجينات أيضاً، فبطريقة أو بأخرى تعرضت كل واحدة لحوادث عنيفة، سواء مع الأزواج أو مع الرجال بشكل عام.
فظهور شخصية سليم وعدم ظهور باقي الرجال كان بمثابة التعويض عنهم، أي أن سليم ظهر كنموذج مُمثل لكل هؤلاء الرجال الذين مارسوا العنف على النساء.
نتائج سيادة النظام الأبوي
شكل الجسد يعتبر محوراً هاماً داخل النص، مُورس عليه أنواع عدة من العنف، ترتب عليها نتائج مختلفة، فمنهن من احتقرت جسدها واستخدمته لكسب الرزق عن طريق الرقص عارية، ومنهم من سلمت جسدها لرجل ليلة واحدة كي تنقذ صديقتها من المرض، وغيرها من الوسائل التي تؤكد على عدم احترامهن لجسدهن، نظراً لما تلقوه من السلطة الذكورية والعنف الذي تعرضن له.
ليصبح الجسد رخيصاً، لا غاية منه ولا هدف سوى كسب محبة الرجال أو كسب الرزق، في الوقت الذي تعاملت معه ليلى على إنه شيء رديء، تصيغه وفقاً لما يريد أن يكون عليه زوجها "جوزي عايزني أتخن... أرفع... أتخن... أقصر... أطول..."، وتعاملت أخريات على كونه سلعة أو شيء حقير أو ملك لرجل لم يأتِ بعد، ويجب الحفاظ على بكارته حتى يسلم الشرف.
السجن ليس مجرد مكان
"أن أهمية المكان تتجلى من خلال علاقاته مع باقي عناصر النص الأدبي، فهو متلاحم معها لا يعيش معزولاً وإنما يدخل في علاقات متعددة، وعدم النظر إليه ضمن العلاقات والصلات التي يقيمها النص يجعل من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به الفضاء"، حسب حنان بوقرة في "جماليات المكان والزمان في رواية الفضيلة للمنفلوطي".
مفهوم السجن لا يقتصر على الأسوار، بل يشمل مفاهيم عدّة، كالحصار النفسي أو العزلة وغيرها من المشاعر المُرهقة: "السجن هو الظلمة يا حبيبتي اللي تبقى فيها الست مننا. السجن كسرة القلب وغدر الزمن. السجن هو الحيرة والقهرة
"فالمكان عنصر لا غنى عنه في العمل الأدبي حيث يؤثر المكان على كل العناصر المكونة للعمل ويصبح عنصراً فعالاً في السرد، فالأحداث لا بد لها من مكان تجري فيه، والشخصيات تربطها علاقات عميقة بالمكان الذي تتحرك فيه".
وكما ذكرنا أن المكان الذي تدور فيه أحداث المسرحية هو "السجن"، لذا كان لابد من التطرق للسجن كفضاء تدور فيه الأحداث، وأثره على شخصيات المسرحية.
فالسجن كمكان يعتبر "عالماً قائماً بذاته، يدخله السجين ليعيش فيه ردحاً من الزمن يطول أو يكثر، يعيش ضمن حيز مكاني محدد وغالباً ما يكون أربعة جدران متناهية في الطول أو القصر أو العرض، إذا ما كان السجن انفرادياً، أو متناهية في الكبر إذا ما كان جماعياً.
ليصبح السجن ضرباً عن الصورة الديكتاتورية، حيث يذكر السجين بأنه شاذ يشكل خطراً على مؤسسة السجن وعلى قيم المجتمع لأنه خارق لقدسية النظام في الداخل وفي الخارج، كافر بكل القواميس يحل فيه التعذيب والجلد والإلزام والحجر والقتل"، حسب علي منصوري.
كما أن السجن يعتبر مكان مغلق، وفقاً لتصنيفات الأماكن في شكلها العام، ويعرف المكان المغلق "إنه مكان عائق للحرية ونشاط الإنسان وانتقاله من مكان إلى آخر"، حسب حنان بوقرة.
أي يتضح من ذلك المقتطف أن مفهوم السجن لم يقتصر حد الأسوار والمكان الذي يطلق عليه سجن، بل من الممكن أن يخرج عن ذلك الإطار ليشمل مفاهيم عدة كالحصار النفسي أو العزلة وغيرها من المشاعر النفسية المُرهقة.
كما ذُكر على لسان شفيقة –إحدى السجينات- عن السجن بمفهوم مغاير عن كونه مكان مادي للحبس، في حوارها مع ليلى، "شفيقة: السجن هو الظلمة يا حبيبتي اللي تبقى فيها الست مننا. السجن كسرة القلب وغدر الزمن. السجن هو الحيرة والقهرة... أنا عشت جوا سجن الغيرة...
السجن كفضاء مادي، وكشعور معنوي
يعتبر فضاء الأحداث "السجن"، بمثابة البطل الرئيسي للمسرحية، حيث تدور جميع أحداث النص بداخله، وينتج عن وجوده إقامة علاقات فيما بين النسوة تساهم في تصاعد الحدث حتى بلوغ النهاية، حيث يمثل السجن كفضاء مادي ومؤسسة تسعى لتحقيق أهداف الإصلاح والتأهيل.
أما عن السجن كشعور معنوي، فتظهر شخصية ليلى منذ مراحلها الأولى التي روت كافة تفاصيلها داخل فضاء السجن، تتبنى دور التابع للرجل، بداية من والدها الذي ذكرت إنها كانت ترى بعينه وتنطق بصوته، وصولاً لزوجها الذي رأت فيه في البداية شخص مماثل لشخصية الأب.
وعندما اكتشفت أنه كان يخدعها فقط للوصول لقلبها وإتمام زواجه منها، ظلت متبنية دور التابع غير القادر على الفعل، وبقيت في خداع دائم لنفسها وهي عالمة بخيانة زوجها لها.
ترتدي ما يريدها أن ترتديه وتشكل جسدها كما يحلو لزوجها أن يراه، تتبعه وتنفذ أوامره تتحمل إهانته لها وهي كاشفة من داخلها لكل مساوئه لكن كانت غير قادرة على الفعل لشعورها بأنها ضعيفة من دون رجل، لأنه وفقاً لما تلقته من النظام الأبوي "أن طاعة الزوج من طاعة الرب".
تكتشف ليلى في نهاية مسرحية فتحية العسّال "سجن النساء"، أنها كانت سجينة النظام الذي بدأ بالأب وتبعه الزوج، وكان السجن هو من حررها من التبعية للنظام الأبوي
وعلى الرغم من أن رغبتها في عدم الإدلاء بهويتها الحقيقية كان خوفاً من زوجها سليم، إلا أن ذلك الفعل هو ما ترتب عليه استمرار وجودها داخل عالم السجن المادي، الذي بعد أن انخرطت فيه وسمعت حكايات النساء وتأثرت بأفكار سلوى ومنى، ولحظة إنجاب إنصاف ومواجهتها لإلهام.
كل هذا جعلها تتحرّر من سلطة النظام الأبوي "السجن الداخلي"، وتعود كما كانت دون قيد من رجل يتحكم فيها على كافة المستويات، سواء كان تحكماً خارجياً وفقاً للشكل وطريقة الملابس والمظهر العام، أو داخلياً في أفكارها ومعتقداتها ورغبتها.
أي حدوث التشارك وتبادل الخبرات بينها وبين السجينات دفعها نحو استعادة ذاتها من جديد، حيث تمثل منظومة السجن "مدرسة يتبادل فيها الآراء حول العديد من القضايا، كما أن السجن يسعى لتحسين أسلوب الحياة عن طريق تنظيم العمل والمهمات اليومية"، حسب المنصوري.
حيث يجب أن يوضع في الاعتبار أن "هناك ارتباط بين السجين وبيئة السجن التي تؤثر على سلوكه تأثيراً قد يكون سلبياً أو إيجابياً، فلا يُغفل أن السجين يتأثر بالجو العام للسجن وارتباطه بالنزلاء الآخرين، وأن بيئة السجن من العوامل المباشرة التي تؤثر على سلوك النزيل".
فكما ذكرت ليلى في بداية المسرحية أن سليم زرع فيها الخوف من سلوى "محرّج عليا معرفكيش... البراغيت... ما هو مسمي السياسة براغيت...". أما عن نهاية المسرحية التي تأتي كاشفة عن علاقة قوية وطيدة بين ليلى وسلوى، توضح عن أن ليلى قد تحررت من سجن سليم على كافة المستويات، مظهراً وفكراً.
مثلاً، على المستوى الخارجي، حيث "تخلع الباروكة الصفراء وإذ بشعرها أسود ناعم تفرده وتهزه في زهو"، لتؤكد على التحرر الكامل من سطوة النظام الأبوي.
فمثلما مثّل سليم النظام الأبوي عامة لهؤلاء النسوة، كذلك يكون التحرر الذي طال ليلى التي تمثل هي الأخرى نموذج لكافة نساء المسرحية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة الوصول لنفس مصير ليلى، فمثلما بحثت ليلى عما بداخلها وتحررت، من الممكن أن يلحق ذلك التحرر الباقيات إن أردن ذلك!
أما على مستوى طريقة الكلام التي تنم عن المستوى الداخلي وطريقة التفكير، فإذا وُضعت مقارنة بين الجمل التي كانت تنطقها ليلى في البداية وجملها في النهاية، نجد شخصية جديدة متحررة مثقفة، ولكن التثقيف لم يكن بجديد عليها، فهي كانت مثقفة ونشيطة قبل زواجها من سليم كما ذكرت معها سلوى.
فليلى لم تتحول من النقيض للنقيض بل عادت لما كانت عليه، والفارق إنها ازدادت خبرة بعد تجربتها مع سليم وتجربتها داخل السجن مع هؤلاء النسوة.
ليكشف ذلك أن ليلى قبل دخولها مكان السجن كانت مسجونة أيضاً بين أكناف النظام الأبوي، الذي بدأ بالأب وأكمله الزوج، وأن ليلى بعد دخولها مكان السجن قد تحررت من سجن النظام الأبوي، ومكان السجن هو من ساعدها في التحرر من سجنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه