"النُزهة"، أي الفسحة المخصصة داخل السجن لتنشق بعض الهواء والإفادة من دفء الشمس، خارج حدود الزنزانة، هو عنوان المشروع الذي نفّدته جمعية مهرجان الصورة، ذاكرة، في سجن بربر الخازن للنساء في بيروت.
استمرّت ورشات التدريب على التصوير الفوتوغرافي طوال سنة كاملة، شاركت فيها نحو 40 سجينة من جنسيات مختلفة. ر
مى المشروع إلى استخدام التصوير لتطوير مهارات السجينات الفنيّة والشخصّية، والتخفيف من وطأة العيش داخل السجن.
ساعدت الكاميرا السجينات على إلقاء نظرة مغايرة على المكان الذي يعشن فيه، وعلى التعبير عنه في معرض تقيمه الجمعية في مركزها في دار المصوّر، من 16 الشهر الجاري إلى 22 منه.
سيُتيح المعرض للزوّار التعرف على عالم السجن، لا من خلال صور تنشرها وسائل الإعلام بين حين وآخر، بل من خلال عيون ساكناته (يمكن الاطلاع على بعض صور المعرض في آخر الموضوع).
في ما يلي نص يضيء على هذه التجربة، كتبته ماريسول رفاعي، إحدى العاملات في المشروع.
"دعارة، سرقة، تجارة مخدرات، جرائم قتل، جرائم اختطاف. كلمات مرعبة نظنّ أن لا علاقة تربطنا بها. نخالها آتية من عالم الروايات التي نقرأها أو من تلك الأفلام التي نشاهدها أوقات الفراغ. ولكن لحظة. القاضي أصدر حكمه. لا مجال للعودة إلى الوراء. منتصف شهر آب. نهار السبت. الساعة الثانية عشرة ظهراً. شعري الذي حرصت على تصفيفه للمناسبة يلتصق بجبيني من شدة الحر. أشعر بقطرات العرق تتساقط، واحدة تلو الأخرى، على ذراعَيّ. عصبيّة سائق التاكسي، وصوت الشيخ المتصاعد من راديو السيارة لا يساعداني على تهدئة هواجسي. بعد بضع دقائق سأدخل إلى السجن. كل أسبوع، على امتداد سنة. عدت أتساءل حول صواب خياري… “دعارة”، “سرقة”، “قتل”... تستولي هذه الكلمات، من جديد، على أفكاري!
في الداخل، الجو بارد وجاف على العكس تماماً من الخارج. ها أنا بين رجال الشرطة. عملية تفتيش عادية. باب حديديّ، باب آخر، مفاتيح كبيرة، وأخيراً، ممر طويل... إضاءة بيضاء، وصمت مربك… تتقاطع نظراتي مع عينين تحدقان بي من خلف الشباك الصغير لإحدى الحجرات. لا أتمكن من تحديد ما تقولانه. النظرة حادة، ولكنها ليست عدائية. ليست لطيفة أيضاً. نظرة امرأة في الخمسين، سأعرف لاحقاً أنها تدعى ر.، أم لأربعة أولاد في مثل عمري تقريباً، ومتهمة بالمشاركة في جريمة قتل.
“الصورة انعكاس للضوء. للحصول على النتيجة الأفضل، لا بد من التحكم بثلاثة عناصر في الكاميرا…”، أقول وحولي تتحلّق عشر فتيات يشكلن معاً نصف دائرة. أثيوبيات، لبنانيات، سيريلانكيات، وفليبينيات… أنظر إلى عيونهن المحدقة بي. ويبدو لي أن ما أقوله هراء. “سرعة الفتحة”، “فتحة العدسة“، ”الآيزو”، “الفوكوس". ما هذا!
مجدداً، تستحوذ علي تلك الكلمات اللعينة: سرقة، فرار، عنف، تزوير… لا أستطيع التوقف عن التفكير في ما قد فعلته هذه النساء، من عمري، وأصغر حتى، لينتهي بهنّ الأمر هنا، في السجن.
تمر الأسابيع فتتعمق العلاقة بين أولئك النساء وبين الكاميرا، التي يحصلن عليها مرة واحدة في الأسبوع، مدّة ساعتين هي عمر زيارتنا لهنّ. غ. تميزت بسرعة عن الأخريات.
تُعلّق الكاميرا على رقبتها وتتمشى دقائق طولية، ذهاباً وإياباً في هذا الفناء المتعفن الذي يطل على الزنازين. تتوقف أحياناً، تجد فرسيتها. كوب بلاستيكي من القهوة، عنكبوت مسحوق في إحدى الزوايا، حمالات صدر فاقعة منشورة على حبل غسيل… وكليككك!
في المرة الأولى التي رأيت هـ. لفتني شعرها الأسود البرّاق. في المرة الثانية، سألتها إن كانت تلميذة جديدة. سخرت مني، وعلّقت: “ظننت أن المصور يتعرف على الناس من خلال عيونهم، لا من خلال وجوههم”. كانت قد ارتدت الحجاب، فلم أتعرف عليها. من أسبوع إلى آخر، كان تطور تلمذاتي ملحوظاً. إذا ما وضعنا التقنية جانباً، وبعضهن كنّ يتمكَنّ منها على العكس من البعض الآخر، بحسب مزاجهن، رغباتهن، والمجهود الذي كن يبذلنه، كان إدراكهن للمكان أكثر ما يبهرني. القضبان التي تحيط بالفناء تتيح التقاط صورٍ خياليّة. بقعة المياه المائلة إلى الخضرة تتحوّل، بلعبة ضوء، إلى مرآة تنعكس فيها رجل فتاة تنفخ سيجارتها في الزاوية.
غ. تبلغ من العمر 23 عاماً. الصور التي تلتقطها كانت أهمّ ما يحفزنا على النهوض باكراً كل سبت والتوجه إلى ثكنة بربر الخازن حيث سجن النساء في بيروت. غ. شابة فاتنة. فيها مزيج من أنوثة مربكة وشيء من الأمومة. بتواضع، ومن دون أي شفقة، كانت تمنح عاطفتها إلى كل فتاة تفقد ثقتها بنفسها في لحظة ما، بيضاء كانت أو سوداء، محجبة أم سافرة. لا فرق. تمسك بيد زميلتها وتشدّ عليها، تمسح دموعها… هي باختصار، نجمة السجن!
الصور التي التقطتها كانت تفيض بهذا الحب الخالص للآخر، وبهذه الثقة الكبيرة بالنفس التي تسكنها. أضفت غ. على السجن تلك اللمسة الفنية التي يصعب العثور عليها في مكانٍ مماثل. ر. امرأة خمسينية. لها أربعة أطفال، اثنان منهما متزوجان ويعيشان في الخارج. ابنها الأصغر نجح في امتحانات البكالوريا هذا العام. لم تشارك ر. في دروس التصوير. هي عميدة السجينات. قضت في السجن عشر سنوات.
عشر سنوات طوال لم تبتسم فيها مرة. لم تقترب من أحد. واظبت فقط على تطريز مئات المناديل الصغيرة، من شتّى الاشكال. “أريد أن أخرج من هذا المكان كما دخلت إليه. لن تصبح أي من السجينات صديقة لي، لا أقبل التقرب من أحد. لن يلوثني هذا السجن. سأبقى طاهرة، نقية، ومحترمة”. تمسكت ر. بالحياة من خلال حرصها على النظافة، والترتيب، والنظام. تقضي ساعات كاملة تغسل، تنظف، تلمع كل زاوية من زنزانتها. “لن يلوثني هذا السجن”.
هـ. تبلغ من العمر 34 عاماً. سبقتها والدتها إلى لبنان. أتت منذ عشرين سنة لتعمل لدى إحدى عائلات بيروت البورجوازية. “أورثتني أمّي حبّها للأعمال المنزلية، لكيّ قمصان يفوق سعر كل منها راتبي بخمسة أضعاف، ولتنظيف الحمّامات”. لحقت هـ. والدتها إلى بلاد الأرز “لتحافظ على إرث المهنة”. يصعب علي أن أبتسم دائماً لدعاباتها ويسلّيها ذلك. في الحقيقة، كل شيء يسلّيها، لا سيما نحن! نحن الفتيات الآتيات من عائلات ميسورة، لنعطي دروساً في التصوير “للعاملات” التي رماهم أهلنا في السجن بسبب سرقة ساعة، أو قلم ماسكرا، أو شيز كايك… أو أيّ شيء آخر. الاحتكاك الجسدي، اللمسات، السلام باليد، قبلة على خد زميل، احتضان صديق... كل تلك الحركات التي تشكل جزءاً من روتين يومياتنا، تتحوّل في السجن إلى شيء آخر لا يمكن أن نفهمه بسهولة.
اللمسات تصير ضرورات. قد يشعر الزائر الذي يسكتشف المكان للمرة الأولى بالإرتباك، لأنه ينقل معايير العالم الخرجي إلى هذا المكان. ولكنه سريعاً ما يعتاد المعايير الجديدة. هنا، في لمسات تلك النسوة وتشابك أيديهنّ شيء من المقاومة. لن أنسى تلك السجينة التي قالت لي منذ أول يوم أنها لا تهتم بالتصوير، ولكنها داومت على الوصول قبل الأخريات إلى حصة التصوير. كانت تجلس قربي تمسك بيدي ولا تتركها إلّا بعد انقضاء ساعتين، عندما ينتهي الدرس.
ر. أقدم السجينات، تلك التي لم تتقرب يوماً من أحد، والتي أرادت أن تبقى "طاهرة، نقية، ومحترمة"، أسرّت لي في أحد الأيام، وهي تنشر الغسيل، برغبة غريبة تعتريها. قالت لي: “أول ما سأفعله عندما أخرج من هذا المكان، هو التوجه إلى البحر، وحيدة، لأصرخ أمامه وأخبره بكل ما لم أقله خلال هذه السنوات العشر”. عام كامل انقضى. غالبية تلميذاتنا خرجنَ من السجن وربما لن نراهنّ مرة أخرى. عندما كنا نصل صباح كل سبت إلى الممر البارد، كن ينتظرن بلهفة خلف شبابيك زنازينهنّ حتى تفتح الحارسة الأبواب. أشعرننا بأننا كنّا متنفسهنّ الوحيد.
الآن، والمشروع قد شارف الانتهاء، أشعر بأنني سأفتقدهن أكثر مما سيفتقدنني. لحسن الحظ! هذا يعني أنهنّ استعدنَ حريّتهنّ وأن حياتهن بدأت من جديد. مع كاميرا أو من دونها، لا يهم! سرعة الفتحة، الفوكوس، الآيزو… لم تكن في النهاية سوى كلمات تعلقن بها، لإسكات كلمات أخرى مزعجة تتردد في رؤوسهن. رغم ذلك، أنا واثقة من أن بعضهن ستصبحن مصوّرات رائعات. إحداهنّ بالأخص. هذا، بالذات، انتصارنا الأجمل". نشر الموضوع باللغة الإنغليزية على موقع Mashallah News.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...