شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
معتقلون لبنانيون سابقون يروون عن الجحيم الذي عاشوه في سجن تدمر

معتقلون لبنانيون سابقون يروون عن الجحيم الذي عاشوه في سجن تدمر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 يونيو 201902:22 ص

كثيراً ما توصف تجربة الاعتقال في سجن تدمر بتجربة المكوث في جهنم. هذا ما يحاول أن يوثّق له فيلم (تدمر)، الذي عُرض مؤخراً في المعهد الفرنسي في بيروت.

الفيلم من إخراج (مونيكا بورغمان ولقمان سليم) المؤسّسان لمنظمة (أمم)، وهي منظمةٌ إنسانيّة تعمل على موضوع الذاكرة وأرشيف الحرب اللبنانيّة. الفيلم يصف يوميّات الاعتقال وأهوال الرعب التي يعايشها السجناء في هذا المكان.

يظهر سجن تدمر في الفيلم كونه مملكةً مشيّدةً على ممارسات العنف، التعذيب، وسلوكيّات الجنون. الممثّلون – المؤدّون هم خمسة وعشرون سجيناً لبنانيّاً وفلسطينيّاً سابقاً في سجن تدمر، استطاعوا الخروج من السجن إثر عفوٍ عام صدر بعد وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد، من قِبَل الرئيس بشار الأسد في العام 2000. تراوحت مدّة سجنهم بين ست سنوات وثلاث عشرة سنة، يطلقون على حقيقة خروجهم حدث "المعجزة".

تريلر الفيلم:

بداية الفيلم، نرى الفريق العامل على تحقيق الفيلم وهو يبني المكان الافتراضي الذي سيبنونه على شكل سجن تدمر، ليتمّ تصوير الفيلم فيه. اختاروا مدرسةً مهجورةً على أطراف مدينة بيروت، بنوا بالباطون غرفة الاحتجاز، صنعوا فتحاً داخل الباطون، تلك التي كان السجّانون يراقبون المساجين من خلالها، ثبّتوا القضبان الحديديّة، الباب الحديدي المكتوم للزنزانة، وصنعوا من الاسفنج الأسود قضبان الجَلْد والعصي التي يستعملها السجّانون في الضرب. هكذا جهّزوا الأدوات والمكان ليرووا حكايات اعتقالهم ويوميّات سجنهم، وتقاسموا أدوار الماضي فيما بينهم، فمنهم أربعة سيضطلعون بأداء دوري السجّان والجلّاد، بينما على الباقين استعادة دور ومشاعر الضحايا.

كثيراً ما توصف تجربة الاعتقال في سجن تدمر بتجربة المكوث في جهنم. هذا ما يحاول أن يوثّق له فيلم (تدمر)، الذي عُرض مؤخراً في المعهد الفرنسي في بيروت

خمسة وعشرون سجيناً لبنانيّاً وفلسطينيّاً سابقاً في سجن تدمر تراوحت مدّة سجنهم بين ست سنوات وثلاث عشرة سنة، يتحدثون عن تجربتهم ويطلقون على خروجهم حدث "المعجزة".

فيلمُ عن سجن تدمر يضعنا أمام أسئلةٍ عن العنف الإنساني، وعن الغاية والجدوى من الممارسات الإنسانيّة في القمع والتعذيب، تلك التي ابتكرها الإنسان ومارسها عبر كامل الحضارات، وعبر العصور.

تمّ إهداء الفيلم إلى كلِّ أولئك الذين عايشوا تجربة الاعتقال في سجن تدمر، ولكن أيضاً إلى العديد من المواطنين اللبنانين المختفين قسراً منذ فترة الحرب اللبنانيّة، والذين ترجّح التقديرات أنهم ما يزالون في السجون السوريّة.

كتبت الناقدة جيانين جالكه في صحيفة L’orient le jour: "إنه فيلم عن الحياة، أو عن اللاحياة التي يعانيها كلُّ من دخل سجن تدمر سيء السمعة، حيث السجّانون تحوّلوا إلى خبراء في التعذيب وفي تحقير الكرامة الإنسانيّة بطرقٍ ممنهجة"

بأسلوبٍ قاتم، وبإيقاعٍ بطيء يشابه العذابات التي عاشها المحتجزون، يسير بنا الفيلم في عوالم من القلق، الرعب، والخوف التي يعيد الممثلون أداءها، كونها اليوميّات التي رافقت سنوات احتجازهم. إن استعادة الأحداث والتجارب القاسية التي عايشها هؤلاء الممثّلون – المعتقلون يقود المتلقّي إلى السؤال عن أثر استعادة هذه المشاعر وهذه التجارب: هل هذه الاستعادة عبر الفنّ قادرة على تخليصهم من ذاكرة الألم؟ هل هي قادرة على تطهيرهم من المشاعر الدفينة المرتبطة بهذه التجربة؟

مهما كانت الأجوبة على هذه الأسئلة فإن استعادة هذه التجارب بآلامها ومخاوفها تتطلّب من المؤدّين في الفيلم قَدْراً كبيراً من الشجاعة، ودرجةً عاليةً من الإيمان بدور الفنّ كإمكانيةٍ تسمح لهم التعريف بقضيّتهم وتوثيقها، وتفتح أفق النضال لتخليص مختفين ومعتقلين آخرين، مازالوا يعيشون المصير نفسه.

يتبع الفيلمَ نوعان من أنواع السرد: السرد عبر إعادة تمثيل المشاهد والأحداث، والسرد عبر الشهادات المباشرة المرويّة من قبل المعتقلين السابقين، حين يجلسون على كرسي مقابل الكاميرا في غرفةٍ معدّةٍ للتصوير السينمائي، ويروون شفاهياً، وبخطابٍ مباشر للكاميرا أحداث وتجارب يصعب تصويرها عبر طريقة السرد الأولى، أي بالتجسيد المباشر.

من أساليب التعذيب نتعرّف على (دولاب الاستقبال)، وهي تقنية من تقنيات التعذيب حيث يُجبر فيها المسجون على الدخول عبر إطار دولاب سيارة، لكي يتمّ جلده بسهولة. وهنا نتعرّف على أنواع السياط منها تلك التي تجلد بأسلاك من حديد، كابلات ثنائيّة أو ثلاثيّة أو رباعيّة. يُجلد السجين عند استقباله بين 250 – 300 جلدة وعليه هو أن يعدّها حتى النهاية، وفي حال أخطأ السجين العدّ، يعيد تلقي الجلدات منذ البداية.


مشاهد أخرى في الفيلم تشرح لنا عن فترة (التنفّس) التي تُمنح للسجناء لكن ضمن شروطٍ لا تبعد عنهم أثر الرعب والتعذيب، حيث من الممكن أن يتعرّضوا للضرب من قبل السجّانين، في أيّة لحظة. في نشاط التنفّس هذا، الذي يُفترض أن يكون فترة راحة للسجناء، يجبرون على الجلوس على ركبهم قبالة الحائط، الظهر منحنٍ، الرأس بين الساقين، ومغمضي الأعين. تصف مشاهد الفيلم أيضاً طريقة خروج ودخول المساجين إلى الزنزانة، يسيرون معاً مطرقي الرؤوس إلى الأرض، ممسكين بأيدي بعضهم البعض، يتعرّضون للسياط دون سبب عند الدخول والخروج، وذلك بغاية تجريدهم من إنسانيّتهم، دفعهم إلى الطاعة، وجعلهم أسهل للانقياد.

يقول أحد المعتقلين السابقين المشاركين في الفيلم (موسى صعب): "ما كنت أخشاه أكثر، هو جلسة حلاقة الشعر الاسبوعيّة. كانوا يجبروننا على حلاقة الرموش، يمرّرون آلة الحلاقة على الرموش. وفي الليل، كان من المؤلم إغماض العينين، لأن شعرات الرموش تقسى وتتداخل لتؤلم العينين. كانت يلي يوم الحلاقة أيام بلا نوم، لأن إطباق الجفون بعد الحلاقة يصبح مؤلماً. كان عليَّ النوم بعينين مفتوحتين"

بقي موسى صعب لخمس سنوات في الحبس الإفرادي، مسكوناً بهواجس الأصوات التي تصل إلى غرفة احتجازه المنعزلة. يرتعد وحيداً في زنزانته، يجلس بوضعية الجنين على أمل التخلّص من هواجسه ومخاوفه. لم يكن لديه من يتواصل معه، فوجد نفسه مضطرّاً ليجعل من النمل، الصراصير، والذباب الذي يزور زنزانته أصدقاء له، يقول: "كنت أرغب التأكّد من إمكانية التواصل بيني وبين الآخرين، كنت أتساءل هل مازال بإمكاني التعبير عن نفسي؟ هل ما يزال بإمكان الآخرين فهم ما أقول؟"

يصف موسى صعب بدقةٍ أفكاره حين كان يحسد الحشرات على كونها قادرة على التنقّل، بينما تزداد كراهيته لانتمائه للجماعة الإنسانيّة بسبب الأوضاع الصعبة التي كان يعايشها في السجن، التي كانت تدفعه لتمنّي الانتماء لأنواع كائناتٍ أخرى، غير الإنسان. أما المشارك (علي أبو دهن) فقد جسّد على الشاشة المشهد الذي يجبر فيه على لعق الأرض المبلّلة بالماء الوسخ والطين.

يجسّد المشاركون في الفيلم مشهداً آخر مؤثراً، وهو كيفية تعامل السجناء مع البيضة الوحيدة التي تقدّم لهم، يجري تقطيع البيضة إلى قطعٍ صغيرةٍ باستعمال خيطٍ من القماش، لأن أيّ أدوات أخرى ممنوعة، يحاول القائم بعملية التقطيع أن يكون عادلاً ما أمكنه، لكن كثرة القطع التي ستكون عليها البيضة تجعل من المهمة في غاية الصعوبة. أما عن طريقة توزيع القطع، فكان يُغمض أحد السجناء عينيه، ولا يرى القطعة التي يشير إليها سجين آخر من البيضة. مغمض العينان يسمّي كلّ قطعة باسمٍ لا على التعيين، وبهذه الطريقة من الحظّ يتمّ توزيع قطع البيضة على عدد المساجين الكبير، لتحقيق أكبر قَدْرٍ من العدالة بين الأسماء.

حكاية أخرى تتعلّق بالطعام في السجن رواها علي أبو دهن: في يوم عيد حزب البعث، كانت إدارة السجن توزّع قدوراً من الرز المطبوخ مع الدجاج. كان أبو دهن يتلصّص من ثقبٍ في باب الزنزانة إلى الممرّ، حيث حمل العساكر القدور ووضعوها عند باب الزنزانات. لقد رأى من خلال الثقب، أن أحد السجّانين العسكر شتم من هم في الزنزانات من المسجونين، وتبوّل فوق قدور الرز والدجاج التي ستدخل بعد لحظات إلى زنزانته.

عاش علي أبو دهن يومها صراعاً بين أن يخبر أصدقاء زنزانته بالحقيقة، ويحرمهم من تناول الوجبة الوحيدة الشهية التي تقدّم لهم خلال السنة؟ أم يخفي عنهم ما يعرف؟ وماذا إن أخبر المسجونين أن قدور الرز والدجاج قد تمّ التبوّل عليها من قبل أحد الحراس؟ ألن يمنعهم هذا جميعاً من الأكل؟ ألن يعرف حينها السجّانون أن أحداً كان يتلصّص عليهم عبر ثقب باب الزنزانة؟ هذا ما سيعرّض أبو دهن إلى التعذيب حدّ الموت إن أخبر أصدقاءه بما رأى.

نعم، التعذيب حدّ الموت. هذا ما يروي عنه المشارك (سعد الدين سيف الدين)، يبيّن كيف يُترك الموتى، من أولئك الذين لم يحتملوا أسلوب المعاملة وطرق التعذيب، كانوا يتركون جثثاً إلى جانب الأحياء في الزنزانة المحشورة أصلاً بالأجساد. الجثث تبقى في الزنزانة أيّاماً قبل أن يتخذ المسؤولون الإداريّون القرار بدفنها. يقول سعد الدين: "خلال السنوات الخمس التي قضيتها في الزنزانة، شاركت بتكفين أكثر من 700 جثة".

في بداية الفيلم، يوضّح صانعو الفيلم أن الحكايات والشهادات التي تروى في الفيلم ليست إلا جزءاً يسيراً من العذابات والأهوال التي لاقتها الشخصيات الظاهرة في الفيلم.

يقول (ريمون بوبان) أحد المشاركين في الفيلم: "نادراً ما يخرج السجناء أحياء من سجن تدمر، الكثير يفارقون الحياة بسبب الضرب والتعذيب"، أمضى (ريمون بوبان) أحد عشر عاماً في السجون السورية، منها خمسة أعوام في سجن تدمر.

الفيلم يُعيد الإضاءة على شروط الاعتقال، الاحتجاز، وقضاء العقوبات في السجون السوريّة، عبر إعادة التجسيد الحي، وبطريقة رواية الشهادات، يضع الفيلمُ المتلقّي أمام أسئلةٍ عن العنف الإنساني، وعن الغاية والجدوى من الممارسات الإنسانيّة في القمع والتعذيب، تلك التي ابتكرها الإنسان ومارسها عبر كامل الحضارات، وعبر العصور.

تعتمد هذه المقالة بشكل أساسي على نصٍّ كتب عن الفيلم من قبل (جيانين جالكيه) في موقع L’orient Le jour. (رابط النص)

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard