تمر الأيام بتثاقل، وفي نهاية كل واحد منها أتعجب أنه أخيراً مر بسلام. يمر اليوم أثقل مما يمر الأسبوع وأطول منه. وبالنسبة لشخص مثلي، فعليه أن يحسب حاصل ضرب أربعة تقاطعات مع بعضها هذه الأيام (فتاة+ رهاب اجتماعي+ الحظر المنزلي+ الخوف من كورونا).
عليّ أن أعترف أن الأيام الأولى لأول موجة لـ"كوفيد 19" كانت أهون على شخص مثلي؛ مستقل عن العائلة ويخرج بالكاد في الأسبوع مرة واحدة يلتقي فيها بالأصدقاء. وحين يلتقيهم يهرع هرباً منهم بعد ساعة أو ساعتين على الأكثر. لا يجيد الحديث والانخراط وسط المجموعة. وأكثر التجمعات أماناً بالنسبة له هي التي لا تزيد عن ثلاثة أشخاص أحدهم أنا. يتفهم بعض الأصدقاء ذلك الأمر ويتعجب منه البعض الآخر؛ إذ كيف يمكن لصحافية مفترض عليها الانخراط وسط المجتمع أن تكون منزوية عنه.
وبحسب طمأنة صديقي السوري الوسيم، إن كورونا نعمة على أمثالنا من معتزلي المجتمع، إذ لن يؤنبنا ضميرنا تجاه مناسبات اجتماعية أو تجمعات عائلية أو نزهات فوّتناها مع الأصدقاء. فالجميع يفوت كل المناسبات وقت الجائحة. كما أننا سنرتاح من جلد ذواتنا بسبب عدم توطيدنا لعلاقاتنا الاجتماعية. وسيجرب الأصدقاء غير الانعزاليين ما نعيشه يومياً.
من البديهي لفتاة تعيش في مصر أن تكره الشوارع المكتظة بالناس. فالتحرش سيكون رفيقها أينما تحركت
كنت أخصص في الموجة الأولى، جدولاً زمنياً مستقراً إلى حد ما، أستيقظ في الصباح الباكر أتناول فطوري وقهوتي على أنغام موسيقى محببة، وغالباً ما تكون أم كلثوم، تليها ممارسة رياضة داخل المنزل لنصف ساعة، ثم أخذ قسط من راحة، والاستماع لأحد دروس اللغة الفرنسية لمدة ساعة، تليها أحد حلقات بودكاست متنوعة تطلعني على أفكار مختلفة، تساعدني في عملي الصحفي وتبقيني على اطلاع بمجريات الأحداث التي أختارها بعيداً عن كآبة ما تفرضه أخبار كورونا على الجميع والتي اخترت الابتعاد عنها حماية لصحتي العقلية من فرط القلق.
لكن هذا الروتين سرعان ما تغير بعد أشهر قليلة؛ فتلك النزهة الاختيارية التي كنت أقوم بها مرة في الأسبوع أصبحت لا أقوم بها البتة. اشتقت للضوضاء التي كنت أهرب منها إلى الهدوء وللأُنس مع الناس في الطرقات، على الرغم من أنني كنت أفضل المشي في الشوارع الخاوية عن المشي في طرق مكتظة بهم. تسلل الملل إلى روتيني فتقلص هذا، ثم سرعان ما زاد الاكتئاب وزاد الانزواء والبعد عن البشر حتى في وسائل التواصل الاجتماعي.
في أعقاب الموجة الثانية، كنا قد تكيفنا على الوضع واعتدنا إجراءات السلامة والحماية من "كوفيد 19"؛ أصبحت الكمامة مثلها مثل الحقيبة، ضرورة، والكحول المعقّم لا يفارق يدي إن خرجت. لكن شيئاً ما قد تغير أيضاً وهو العلاقة بالناس.
فبالعودة إلى التقاطعات التي ذكرتها سابقاً، سيكون من البديهي لفتاة تعيش في مصر أن تكره الشوارع المكتظة بالناس. فالتحرش سيكون رفيقها أينما تحركت. وستظل تتطلع إلى العيون جميعها لتنظر أيها تحدق إلى صدرها أو خصرها، أو من سيقترب منها ليلمسها أو من تتحرك شفته ولسانه وهو واقفاً أو ماشياً بجوارها أو أمامها. تلك الـ6 أعين التي نسير بها (اثنتان من الأمام واثنتان من جوار الأذن واثنتان من الخلف) ستصبح اثنتين فقط. لكن أجواء كورونا جعلت الشوارع خاوية، مما جعلها أكثر أماناً لنا كفتيات. إنه أمان لم يقطعه سوى عودة الناس إلى الخروج للشوارع مرة أخرى.
سيكون بديهياً أيضاً في تقاطعي الثاني، أن تكره، فتاة ناجية من حوادث تحرش مختلفة، الناس والمجتمع، ولا تحبذ أن تلتقيهم. فكلما التقتهم زادت تجاربها تجربة سلبية جديدة تضيف إليها وجعا وألماً، ما يجعل الرهاب الاجتماعي ما قبل كورونا هو نفسه بعده لكنه بات مضاعفاً.
صار وجود الناس يخيفني ويرعبني، إن لم يكن لحوادث سلبية تأتي من القريب قبل الغريب، فستكون بسبب الخوف من العدوى بكورونا. وصارت النزهة القصيرة لنصف ساعة عبارة عن خليط من الخوف والقلق والتوتر والترقب
أوجاع نفسية عديدة فرضتها ليالي الحظر بصحبة كوب من الشاي ونافذة نصف مفتوحة أتلصص من خلالها على شارع خاوي، أستمتع بالتسكع أحياناً بمفردي، فزاد الاكتئاب وحاولت طبيبتي النفسية أن تجعلني أخرج صباحاً للنزهة ولو لشراء أغراض من البقالة على عدة مرات. لكني لم أستطع، كنت أفضل دوماً الخروج ليلاً وعلى فترات متباعدة، وأختار الشوارع الفارغة من الناس. وإذا تعرضت لنظرة واحدة أجري للبيت ولا أخرج لعشرة أيام متتالية.
صار وجود الناس يخيفني ويرعبني، إن لم يكن لحوادث سلبية تأتي من القريب قبل الغريب، فستكون بسبب الخوف من العدوى بكورونا. وصارت النزهة القصيرة لنصف ساعة عبارة عن خليط من الخوف والقلق والتوتر والترقب والتطلع يدور داخل رأسي وعقلي.
بالعودة إلى صديقي السوري الوسيم ذاك، فلم تؤثر به الموجة الأولى من كورونا، وربما استطاعت الثانية أن تزعزع ثقته بانعزاليته وانطوائه. لكن الموجة الثالثة أكدت على أنه ملّ من ساعات الانتظار الطويلة والبقاء داخل المنزل. لكن صديقي المصري الانعزالي، يمجد انطوائيته ولا يزال، رغم ثلاث موجات نعيشها من جائحة كورونا، يحب وحدته ويقدس بعده عن الناس ويتعجب ممن يرغب في أن يكون اجتماعياً ويتندر في نكات لطيفة على الاجتماعيين ورفقتهم.
أخبر طبيبتي النفسية أنني صرت أكثر ارتباطاً بالمنزل ولا أعلم السبب، رغم أن لدي الآن خيار الخروج مع أخذ احتياطاتي الواجبة من الفايروس. إلا أنني أفضل الجلوس في المنزل وأمل من صحبة الأصدقاء لأكثر من ساعة، فتخبرني أنه أمر طبيعي بسبب ما فرضه عام ويزيد من الفايروس. ونصحتني ألا أطاوع ما تفرضه الوحدة التي أعيشها كفتاة مستقلة، عليّ أن أنزه نفسي ولو بمعدل ثلاث مرات أسبوعياً. لكن ذلك لم يحدث ويبدو أن الوباء، إلى حين انقضائه، سيكون أحدث تغييراً كبيراً في نفسيتنا وصحتنا العقلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...