شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أذواق فاسدة وخمور رديئة... من أحاديث الساقي في بارات مصر

أذواق فاسدة وخمور رديئة... من أحاديث الساقي في بارات مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 23 مايو 202103:35 م

تناقض كبير بين طقوس شرب الخمر كما قرأتها في حكايات ونوادر الكتب التراثية، مثل كتاب "حلبة الكميت"، لشمس الدين النواجي، كرس فصلاً كاملاً لوصف الساقي، خادم القوم وحارس اللذة، وبين واقع من قابلتهم في مصر.

ذكر النواجي في الكتاب صفات للساقي، وبعض الأشعار التي مدحته، وبينما كان الشعراء يصفون الخمر بالشمس أو النور أو الإشراقة، كان الساقي يوصف بأنه بدر الدجى أو صاحب هذا النور وحامله، مثل قول السري الرفا الموصلي:

خذوا من العيش فالأعمار فانية، والدهر منصرف والعيش منقرض

في حامل الكأس عن بدر الدجى خلف، وفي المدامة من شمس الضحى عوض

لا تستطيع الآن أن تلمس هذه العلاقة الحميمية بين شارب الخمر وساقيها، فقد تسربت كثير من الأفكار إلى هذا المثلث، الخمر وساقيها وشاربها، تسببت في تغير كل الأشياء، من نوع الخمر لطريقة الشرب، وحتى اسم الساقي نفسه اختفى، بكل ما يحمل من دلالات لإرواء الظمآن ونجدته، لـ"البار مان"، وتغير وضع الساقي وإحساسه، خاصة نظرته لنفسه ولمهنته.

إذا ذكر الساقي تخيلته بوابة لعالم آخر خفي، أو وجه ثان للمدينة، في البداية صدمت أن هذا لم يكن سهلاً، فأغلبهم رفض التحدث إلي، إلا أنني في النهاية تمكنت من الوصول لبعضهم/ن.

"ملعون حاملها وشاربها"

نادر لبيب، حاصل على دبلوم سياحة وفنادق (27 عاماً)، من القاهرة، حاورته على فترات متقطعة، كانت بداية دخوله إلى هذا المجال عام 2010، وهو مستمر كـ"بارمان" حتى الآن.

بادر لبيب بالحديث، قبل حتى أن أطرح عليه سؤالاً، قائلاً: "مبدئياً بس، أنا عندي 27 سنة، ومسلم مش مسيحي، اسمي نادر محمد".

عمل نادر في أكثر من مكان في مصر، مثل فندق "فيرمونت هليوبوليس تاورز"، و"الفور سيزون" وغيرهما، كما عمل في رواندا، ولكنه يرى أن تجربة "الفور سيزون" هي الأهم، إذ تعرف من خلالها على "معلمه".

يقول لرصيف22: "عندما كنت في الفور سيزونز قابلت شخصاً أردنياً، يسمى أحمد الرمحي المشهور بـ"راي"، كان متخصصاً بالمناسبات، فكانت إدارة الفندق تتواصل معه، ويصبح هو المسؤول عن كل شيء من إحضار أنواع الكحول، إلى فريق التقديم وأنواع الكوكتيلات، ويعمل عروض للناس".

بالنسبة إلى نادر، غيّر الرمحي الفكرة النمطية عن رئيس السقاة أو "البارتندر"، باعتبار أن مهمته فقط ملء الأكواب، ولكنه أكثر من ذلك، يجب أن يكون مثقفاً، لديه معرفة واسعة في مجاله، فصاحب ذلك العمل يعتبر مهماً في الخارج.

يقطع حديثنا صوت جرس الباب، فيخبرني نادر بتلقائية أن عامل الصيانة أتى ليصلح الغسالة، أو أن جدته تريد منه إصلاح الدش حالاً، فيستأذن مني للذهاب لدقائق أو ساعات ثم يعود مرة أخرى.

أصبح نادر و"راي" صديقين سريعاً، وعلمه كل أسرار المهنة، وضمه لفريقه، وحين قرر نادر أن يترك المنزل بعد انفصال والديه، ومشاكله مع أبيه، طلب منه "راي" الإقامة معه بشقته، ومنذ ذلك الحين صار واحداً من الفريق.

يرى نادر أن مهنة "البارتندر" في مصر تعامل باستهانة، وأن أغلب العاملين في هذه المهنة لا يعرفون قواعدها وأصولها، يقول: "يجب أن تكون شخصية البارمان قوية ليثق فيه الزبون، ويمنع أي شيء مخالف، مثل أن يحاول شخص مضايقة زبونة، أو عاملة من الفريق، ليس مجرد شخص يملأ الأكواب فقط".

تدرب نادر على كيفية الاستجابة لكل موقف، لو تكلم زبون معه بطريقة معينة كيف يرد عليه، والضحك بأسلوب معين، وهي مهارات لا يلتفت لها العاملون في مصر إلا بنسبة ضئيلة.

نادر "بارمان" يعمل في بارات بالقاهرة، لا يشرب الخمور إلا تذوقاً، للتأكد من الكوكتيلات التي يعدها، يقول عن نفسه وزبائنه: "كله زي بعضه، ملعون حاملها وشاربها وساقيها" 

أما عن الزبائن، فيرى أن زبائنه المصريين لا يفرقون بين أنواع الكحول، ولا يهتمون لذلك حتى، فقلما التقى "زبوناً محترماً"، فأغلبهم إما يشربون كنوع من التفاخر، أو "بيشربوا عشان ينسوا".

لا يفضل نادر شرب الخمر من الأساس، بل يكرهها، ولكن بعد التعرض لأكثر من مشكلة لأنه لا يختبر طعم الكوكتيلات التي يعدها، صار يتذوق فقط حتى يتأكد من أن معايير الكوكتيل مضبوطة.

يرفض نادر العمل في رمضان ويراه "قراراً سليماً"، وعن المشاعر المرتبطة بالدين، سواءً ما يخصه هو أو الزبائن، يقول: "محدش من الزبائن عمره نظر لي نظرة متدنية، ليه يعني ما كله زي بعضه، ملعون حاملها وشاربها وساقيها".

"حبيت المجال بس حرام"

عمل مينا لطفي (23 عاماً)، حاصل على بكالوريوس خدمة اجتماعية، يسكن في القاهرة، بمهنة الساقي "البارمان" حوالي أربعة أعوام، ويعمل حالياً محاسباً في شركة خاصة.

عكس نادر، كان مينا بخيلاً جداً في كلامه، حكى لي عن تجربته باختصار شديد، وكيف حقق فيها نجاحاً سريعاً، حتى كان الناس يطلبونه بالاسم، ويرى نفسه "بارمان" شاطراً، يستطيع الإجابة عن أي سؤال يسأله الزبون، ويقدم العديد من الخيارات.

أحب مينا المهنة حتى بات يتطوع في عرس أو حفلة لمزج الكوكتيل على سبيل المتعة، وكان عائد العمل مجزياً له، يقول: "هذا أكثر مجال رأيت نفسي فيه".

من جهة أخرى، يشعر أنه غير مرتاح من الناحية الدينية، يقول: "أمواله كثيرة ولكنها تذهب سريعاً لأنها فلوس حرام".

كان لمينا زميلات يعملن معه في هذا المجال، يرى أن أغلبهن لسن محترفات، وإنما يتم توظيفهن لجذب الانتباه وفق مبدأ "الوردة على التربيزة"، وحين طلبت منه أن يعرفني على إحداهن، قال إن هذا أمر شبه مستحيل، فهو خارج المجال الآن، كما أنه سيكون طلباً محرجاً، لأن أغلبهن يعملن دون علم عائلاتهن.

هل يمكن أن يعود للمهنة مرة أخرى؟ نفى، فهو راض بعمله الآن، يقول: "ضميري مرتاح، حتى لو محفظتي زعلانة".

حواس فاسدة وخمور رديئة

بينما كنت أبحث عن فتاة أو سيدة كانت قد عملت من قبل في هذا المجال، ترضى أن تنقل لي خبرتها دون خجل أو خوف، تذكرت بيتين لأبي نواس، هما:

فقلت لها ما الاسم والسعر بيني

لنا سعرها كيما نزورك ما عشنا

فقالت لنا حنونُ اِسمي وَسِعرها

ثَلاث بتسع هكذا غيركم بعنا

ترددت الأبيات في عقلي مثل السحر، حتى استطعت أن أتواصل مع "ألكس"، هكذا تطلق على نفسها، ولم تفصح عن اسمها الحقيقي.

حكت لي ألكس (40 عاماً) كيف افتتحت هي وصديقتها ملهى "نايت كلوب"، في بيروت، لم تكن شريكة مالية، لكنها كانت مسؤولة عن البار كاملاً، ثم انتقلت إلى القاهرة، واستمرت في عملها كساقية.

تحب "ألكس" عملها كساقية خمور، ولا تخجل منه أو تراه حراماً،  تقول: "اللي شايف الخمرة حرام، ومع ذلك لسه شغال فيها، شخص مريض"

تعرضت ألكس لمشاكل عدة، أبرزها التحرش، تقول: "تطلب الأمر الكثير من الحكمة لتجنب المشاكل، أما من ناحية العمل نفسه وصنع الكوكتيلات تحديداً، فقد تطلب الكثير من المذاكرة، والقراءة، والتجريب".

تحب "ألكس" المجال، فالأمر بالنسبة لها ليس مادياً فقط، ولا تخجل منه أو تراه حراماً، كما أنها تحب الكحول، على عكس أغلب من قابلتهم، الذين يتذوقونه مجبرين، تقول: "اللي شايف الخمرة وشربها والشغل فيها حرام، ومع ذلك لسه شغال فيها، شخص مريض".

أضافت: "لا أخاف، ماذا يمكن أن يحدث. بيني وبين الزبون على الأقل متران، خليه يجرب يمد إيده ناحيتي، مش هيقدر يوصلي، وهيتهزق ويترمي برا".

ربما كانت "ألكس" مختلفة عن أغلب من قابلتهم، لكنها اتفقت مع الرأي الغالب، "المصريين مبيعرفوش يشربوا"، ترجع الأمر لعدة أسباب، أهمها أن أنواع الخمور التى تصنع بمصر معظمها رديء، بالتالي فسدت حاسة التذوق عند المصريين من الأصل، و"الشرب" يحتاج تدريباً لتتعلم أصوله، وتعوّد جسدك ورأسك على طعم وتأثير معينين.

خرجت من لقاء ألكس، وتساءلت: ربما تحوّل الساقي سببه في الأصل تغير الشارب، فبعد أن كانت الخمر هي الشمس والضياء، تخرج الناس من ظلمات أنفسهم، أصبحت تستخدم للنسيان، والساقي يساعدهم على الهروب من واقعهم. ولكن تُرى هل يُنسى هو؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard