عندما نسمع لفظ "المحرقة" أو حتى نقوم بكتابته عبر محركات البحث على الإنترنت، فإن أول ما يخطر على بالنا، ويظهر أمام أعيننا "الهولوكوست"، الإبادة الجماعية ليهود أوروبا، قبيل الحرب العالمية الثانية.
أما في عام 2021، فقد عادت كلمة المحرقة تتردد من جديد، ولكن بشكل مختلف، في حرق جثث موتى كورونا بالهند.
على الرغم من أن بعض الدول مثل الهند، ونيبال، وسريلانكا تعتبر المحرقة طقساً دينياً لدفن موتاهم، فقد ظلت بعيدة عن أنظار المجتمعات الأخرى في العالم، حتى أن مخرجي الهند كانوا دوماً يفضلون ظهور مشاهد "حرق الجثث" بشكل رمزي، لا يؤذي مُشاهد الدراما وسينما بوليوود، ذلك الذي لا يتبع تلك الطقوس إلى أن اجتاحنا وباء كورونا.
في هذا السياق، اختبر البعض من المقيمين في الهند صدمة الارتطام بالواقع، ومعايشة تلك الثقافة رغماً عنهم ليضاعف هذا كله من مخاوفهم تجاه كورونا، ويتحول العالم في نظرهم الى مشهد مصغر، ذكرهم بنار جهنم التي قرأوا عنها في كتبهم المقدسة، وأثرت في نظرتهم للثقافة والمجتمع الهنديين.
"مشهد ليوم القيامة"
منى خان، مغربية (33 عاماً) تسكن في حي باندرا، في مدينة مومباي مع زوجها الهندي، وطفلين، الأكبر صبي (تسع سنوات)، والصغرى فتاة (ثلاث سنوات)، تقول عن بداية علاقتها مع المجتمع الهندي: "كنت أسمع كثيراً عن الثقافة الهندوسية قبل أن أتزوج من رجل هندي، وحتى بعد زواجي، وانتقالي للعيش معه في الهند منذ خمس سنوات".
وتضيف: "قضينا سنوات زواجنا الأولى في دبي نظراً لظروف عمل زوجي، لم أجد فروقاً كبيرة بين الثقافة الهندية وثقافتنا، وهذا بالطبع لأنني متزوجة من مسلم، ولدينا ثقافة ذات خلفية دينية، وبالتالي عشت هنا في مومباي حياة هادئة".
"شاهدت تلك الجثث حتى تفحمت تماماً، واختلط مشهد النيران في عيني برائحة اللحم المشوي ومادة الكيروسين، مما جعلني أعتقد أنني في مشهد يوم القيامة"
تعاملت منى مع العديد من الهندوس، وأصبحوا أصدقاء للأسرة بحكم الجيرة، أو الاحتكاك حتى جاء يوم 13 نيسان/ أبريل الماضي، تقول عنه: "أراه يوماً فاصلاً في حياتي بأكملها، فمنذ حدثت أزمة كورونا حتى الآن، كنت أتعامل مع الأمر على أنه وباء فقط، ولكن في هذا اليوم كدت أفقد عقلي مع تزايد الحالات وأعداد الوفيات إلى حد جعل المحارق التى يستخدمها الهندوس في حرق موتاهم كاملة العدد".
توفيت أسرة كاملة في الحي الذي تسكن فيه منى، تأثراً بكورونا، فقام الأهالي بحرق جثث أفراد تلك الأسرة في الشارع على مرأى الجميع، تقول: "لأول مرة في حياتي أرى حريقاً لأشخاص أمامي، وبرضا أهاليهم والمجتمع".
وتتابع لرصيف22: "شاهدت تلك الجثث حتى تفحمت تماماً، واختلط مشهد النيران في عيني برائحة اللحم المشوي ومادة الكيروسين، مما جعلني أعتقد أنني في مشهد يوم القيامة، لم أتحمل كثيراً، واستسلمت للإغماء، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعاني من الاكتئاب، وأنتظر أن يعود الطيران مرة أخرى لأسافر إلى أهلي في المغرب".
لا تنوي منى مغادرة الهند بشكل نهائي، تقول: "أعتقد أنني بحاجة للعودة إلى بلدي، ورؤية كل شيء طبيعي أمام عيني مرة أخرى حتى يعود لي إيماني بأننا ما زلنا نحيا على الأرض، وهذا المشهد لم يكن نهاية العالم ويوم الحساب".
صراخ وحرق
كانت شامشار محمت، تركية مسلمة (21 عاماً)، وتدرس التكنولوجيا بجامعة "بونا" الهندية، ترفض الذهاب إلى المقابر بشكل قاطع، حتى عند وفاة أبيها وجدتها، تقول لرصيف22: "كنت أعتقد أن رؤية أي منهما جثة هامدة مستسلمة، والبعض يضعهما داخل مكان مظلم، ويغطيهما بالتراب أمر مؤلم للغاية".
وتكمل: "أنا تركية، ومن أصل كازاخستاني، وكلتا الدولتين تتبع الدين الإسلامي، بالنسبة لنا الدفن هو المكان الطبيعي للجثث بعد الموت".
تدرس شامشار في الهند منذ ثلاث سنوات، وأحست بانسجام كبير مع زملائها الهنود، وبات لديها صديقان مقربان، كلاهما هندي، وصديقة أخرى، وأحياناً كانوا يذهبون معها لزيارة أحد المساجد، وتذهب هي معهم إلى معابدهم، ولكن رؤيتها للجثث المحروقة، تجربة تصفها بأنها "الأشد إيلاماً للنفس والقلب والعقل".
وتحكي: "سقط والد صديقي المقرب أرجيت ميتاً بفعل فيروس كورونا، واتفقنا أنا وشريا صديقتي أن نذهب لمواساته في مراسم الدفن والعزاء، وهنا شاهدت أبشع مشهد في نظري، وجدت الأب أو عمي كما كنت ألقبه مستلقياً بين الأخشاب دون حراك، ومغطى بسائل له رائحة الكحول، بينما يحمل البعض مشاعل، ويضرمون النار في جثته".
وتضيف: "كنت غير مصدقة، لدرجة جعلتني أصرخ في أرجيت أن يجعلهم يتوقفون عن حرق والده مما سبب له إحراجاً، وهو يحاول تهدئتي بالرغم من حزنه على والده، وبالفعل أخذتني شريا بعيداً، ولكنني لم أتوقف عن الصراخ إلا بعد فترة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحلم بهذا المشهد، ولم يفارقني حتى وأنا مستيقظة".
"أصبحتُ نباتية"
أما أنا، كاتبة هذا المقال، التي أتاحت لها مهنتها أن تزور بلاداً في القارات الأربع أسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكنت أعتقد أنني اكتسبت موهبة فريدة في التناغم والتجانس مع أي عادات وتقاليد، وشاهدت بشراً يعيشون حياتهم وسط جزيرة من الثلوج في الأرجنتين، وتعاملت مع البدو في الصحراء، وعشت بداخل منزل يسكنه الهندوس خمس سنوات، إلا أن مشهد حرق الجثث أمامي في شوارع مومباي كان هو الأغرب والأسوأ على الإطلاق.
منذ أن شممت تلك الرائحة التي تشبه رائحة الشواء، ولكنها مختلطة بموسيقي جنائزية، ومشهد لتحلل جثة، وأنا أفضل أن أتناول وجبات نباتية، وتصورت في تلك اللحظة أن من أحد الأسباب التي جعلت غالبية الهندوس في الهند نباتيين هو هذا المشهد، الذي قد يتكرر أمامهم بحكم أنه طقس أساسي في معتقداتهم، فتناول اللحم بعد مشهد كهذا أمر يقرب من المستحيل.
وقد زاد الطين بلة كما يقولون في أمثالنا الشعبية، "متلازمة الهلع" التي أعاني منها، وتؤرقني منذ بداية جائحة كورونا، وتجعلني كل يوم أعاني من ضيق التنفس، وأتخيل أنني مصابة بالفيروس.
لم يكن أمامي حل سوى زيارة سريعة للطبيب، والخضوع لبرنامج علاجي من المهدئات وأدوية، تساعدني فقط على تناسي ذاك المشهد، والنوم.
نفق الاكتئاب
تقول الدكتورة كيرتي ساتشديفا، أخصائية الطب النفسي ومدرسة مساعدة بجامعة مومباي: "ما تمر به الهند الآن من حرب مع فيروس خطير، يخطف حياة الآلاف، هو أمر جعل الجميع في مجتمعنا يعاني من بعض الأمراض النفسية على رأسها الاكتئاب، والذعر، ومرض الرهاب أو الهلع الوهمي، وقد ساهم أمر حرق الجثث في الطرقات بشكل كبير في تفاقم الوضع النفسي".
وعن مشهد حرق الجثث المصابة بكورونا، تقول لرصيف22: "هو أمر طبيعي يتعايش معه المجتمع الهندي، بمختلف دياناته، ولكن بالنسبة إلى المسلمين الذين لم يقتربوا من الثقافة الهندوسية تمثل النار، أو حرق الجثث كارثة أو حوادث أو حتى مجزرة تاريخية تعرف بالهولوكوست".
منذ أن شممت رائحة الأجساد المحروقة التي تشبه رائحة الشواء، ولكنها مختلطة بموسيقي جنائزية، ومشهد لتحلل جثة، وأنا أفضل أن أتناول وجبات نباتية
وتنصح كيرتي غير الهنود بعدم رؤية أو متابعة حتى الأخبار التي تتعلق بطريقة التخلص من الجثث حتى تنتهي أزمة كورونا، وتضيف: "في النهاية نحن أمام فيروس لعين، هدفنا في المقام الأول محاربته والقضاء عليه".
وتشير لأهمية زيارة طبيب نفسي، وممارسة اليوغا بشكل منتظم، والتحدث مع أشخاص إيجابيين للتخلص من حالات الذعر والاكتئاب.
وتنهي كيرتي حديثها: "الحياة رحلة، ودوري كطبيبة نفسية أن أنبه الجميع إلى أن تلك الرحلة لن تكون سهلة في كل مراحلها، لذلك يجب أن ننسى كل ما نمر به من الآلام والصعوبات، ونحاربها للخروج من نفق الاكتئاب المظلم".
وقد نشرت وكالات أنباء اليوم الأربعاء 19 أيار/ مايو أن إجمالي إصابات فيروس كورونا في الهند بلغ 25.5 مليون حالة، وارتفعت أعداد الوفيات إلى 283.248 ألف.
وشدّدت حكومة ولاية أوتار براديش في شمال الهند على ضرورة حرق الجثث، بعد انتشار صور لجثث ضحايا جائحة كورونا، جرفها تيار نهر الجانج المقدس، لم تتمكن أسرهم من دفع تكاليف عملية الحرق، بحسب الشريعة الهندوسية، وخوفاً من انتقال العدوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...