في السنة الثامنة من الهجرة نقضت قريش عهدها في صلح الحديبية، بافتعال عدة أمور أنذرت بحرب وشيكة مع الفئة المسلمة في يثرب حين اعتدت قبيلة بني بكر (حلفاء قريش) على خزاعة (حلفاء المسلمين)، فقتلوا منهم عدداً كبيراً، وفي الخلفية قريش تمدّهم بالسلاح وتعينهم على البغي في الحرم سرّاً، وفقاً لابن القيم في "زاد المعاد".
فشلت مساعي التعقل التي قادها أبو سفيان، حين ظلّ رفقاؤه في قريش على عنادهم، برفضهم دفع ديات من قُتِل من خزاعة، أو أن تحلّ قريش نفسها من عهد بني بكر. هنا اتخذ النبي قراره في رمضان من العام ذاته بفتح مكة، وأرسل لسكان البادية ومن دخل في الإسلام من حوله: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة"، حسبما يورد عبد الرحمن بن وهف القحطاني، في كتابه "غزوة فتح مكة في ضوء السنة المطهرة".
لاقت دعوة النبي استجابة بين أصحابه، باستثناء أبي بكر الصديق، الذي كان من رأيه التأني، لكنه قَبِلَ في النهاية، بقوله: "اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها"، كما أورد ابن هشام في "السيرة النبوية".
في العشرين من رمضان من العام الثامن الهجري، فتح المسلمون مكة بعتادهم، على إثر غزوة يعدها المؤرخون المسلمون قاطبة "الفتح الأعظم"، والأهم كان تحقيق هدفهم الأسمى بتحطيم ما بالحرم من أصنام. ولكن هل كانت الكعبة تحوي أصناماً فقط؟!
قبل الفتح... الكعبة قبلة للتعدد المذهبي
كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام بيئة مدنية مُتعددة ومتعايشة المذاهب والأديان، فإضافة إلى الوثنية التي كانت مُتمكنة في مكة ومُتفشية بين قبائل الحجاز، والتي يراها بعض العلماء امتداداً لعبادة الكواكب، كانت الجزيرة تعجّ بأقوام وقبائل تنتمي لأديان شتى.
زُوِّقَ سقفُ الكعبة وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر، وصور الملائكة
يُدلل الباحث العراقي جمال جمعة في كتابه "ديوان الزنادقة... كفريات العرب"، على هذا التنوع في الجزيرة، بقوله: "اليهودية كان لها مناطقها ومحمياتها الخاصة وحصونها في المدينة، والنصرانية لها أديرتها وقساوستها في الحيرة ونجران"، مشيراً إلى حرية اعتقاد الصابئة والحنفية والمجوسية، وكذلك ملاحدة قريش وزنادقتها.
ويضيف جمعة: "كان لكلٍّ مكانه الذي لا يُزاحَم عليه، ومكان عبادته الذي لا يُؤاخذ فيه. كانت القبائل العربية تأتي من أطراف الجزيرة إلى مكة لممارسة تجارتها وإقامة الطقوس لأصنامها المتعددة في الكعبة، التي قيل إنها كانت أصناماً بعدد أيام السنة".
فنون العمارة والتصوير والنحت... الكعبة ليست أصناماً فقط
قبل استتباب الأمر للقرشيين في مكة، كانت الكعبة مبنيّة "بِرَضْمٍ يَابِسٍ لَيْسَ بِمَدَرٍ تَنْزُوهُ الْعَنَاقُ، وَتُوضَعُ الْكِسْوَةُ عَلَى الْجَدْرِ ثُمَّ تُدَلَّى"، وذلك بحسب رواية الأزرقي في "أخبار مكة"، وبعد تمكن القرشيين من الجزيرة العربية، أرادوا بناءها مُجدداً.
ويروي الأزرقي قصة البناء بقوله: "إِنَّ سَفِينَةً لِلرُّومِ أَقْبَلَتْ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِالشُّعَيْبَةِ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ سَاحِلُ مَكَّةَ قَبْلَ جُدَّةَ، فَانْكَسَرَتْ فَسَمِعَتْ بِهَا قُرَيْشٌ، فَرَكِبُوا إِلَيْهَا وَأَخَذُوا خَشَبَهَا وَرُومِيّاً كَانَ فِيهَا يُقَالُ لَهُ بَاقُومُ نَجَّاراً بَنَّاءً، فَلَمَّا قَدِمُوا بِهِ مَكَّةَ قَالُوا: لَوْ بَنَيْنَا بَيْتَ رَبِّنَا. فَاجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وَنَقَلُوا الْحِجَارَةَ مِنَ الضَّوَاحِي".
سألهم البنّاء الرومي، باقوم: "أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْعَلُوا سَقْفَهَا مُكَبَّساً أَوْ مُسَطَّحاً؟ فَقَالُوا: بَلِ ابْنِ بَيْتَ رَبِّنَا مُسَطَّحاً"، ويُضيف الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" أنهم "بَنَوْهُ مُسَطَّحاً، وَجَعَلُوا فِيهِ سِتَّ دَعَائِمَ فِي صَفَّيْنِ، فِي كُلِّ صَفٍّ ثَلَاثُ دَعَائِمَ مِنَ الشِّقِّ الشَّامِيِّ الَّذِي يَلِي الْحَجَرَ إِلَى الشِّقِّ الْيَمَانِيِّ، وَجَعَلُوا ارْتِفَاعَهَا مِنْ خَارِجِهَا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى أَعْلَاهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعاً، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ، فَزَادَتْ قُرَيْشٌ فِي ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ أُخَرَ، وَبَنَوْهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا بِمِدْمَاكٍ مِنْ حِجَارَةٍ وَمِدْمَاكٍ مِنْ خَشَبٍ".
ومن الداخل "زُوِّقَ سقفُها وجدرانها من بطنها ودعائمها، وجعلت في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر، وصور الملائكة؛ فكان فيها صورة إبراهيم، خليل الرحمن، شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى بن مريم وأمّه، وصورة الملائكة عليهم السلام أجمعين"، وفقاً لما أورده محمد إبراهيم الفيومي، في كتابه "تاريخ الفكر الديني الجاهلي".
ويقول محمد إلياس الفالوذة في كتابه "الموسوعة في صحيح السيرة النبوية... العهد المكي"، إن تمثال مريم كان مزوقاً وفي حِجْرها عيسي ابنها قاعداً مزوقاً، في العمود الأوسط من اللاتي تلين الباب، وكان بالكعبة من الداخل أيضاً حمامة من عيدان، وقرني الكبش الذي ذبحه النبي إبراهيم عليه السلام، وغيرها من الأمور التي تمزج بين الفن والعبادة.
إضافة إلى الوثنية التي كانت مُتمكنة في مكة ومُتفشية بين قبائل الحجاز، كانت الجزيرة تعجّ بأقوام وقبائل تنتمي لأديان شتى
علاقة الجزيرة العربية بالفن المُصور قبل الإسلام، يدعمها المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، بتأكيده أن المنقبين والباحثين عن الآثار القديمة عثروا على "رسوم بشر وحيوان ونبات نقشها الجاهليون على الصخور والحجارة، يرمز بعض منها إلى أمور دينية وأساطير قديمة، ويعبر البعض الآخر عن مواهب فنية عند حافري هذه الصور، وعلى مقدرة تقدّر في الرسم، وعلى وجود ميول فطرية عند أصحابها في الفن، وفي محاولة إبراز العواطف النفسية والتعابير بلغة فنية يفهمها كل إنسان، هي لغة الرسم والنقش".
ويُضيف جواد علي: "أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى الصور، كما كانوا يزينون بيوتهم بالصور وبالنسيج المصور، كما كانوا يستعملون ستائر ذات صور، ويلبسون ملابس ذات صور ورسوم (...) وقد كان الجاهليون يقتنون الصور يضعونها في بيوتهم للزينة، كما كان هناك مصورون يعيشون من بيع الصور التي يرسمونها، وصناع تماثيل، ينحتونها أو يعملونها بالقوالب بجعل عجين الجبس فيها، فإذا جفّ أخذ شكل التمثال، فيباع".
وبحسب تأكيد صاحب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، فإن الوثنية لم تكن تتعارض مع التصوير، بل كانت تشجعه وتشجع الفنون الجميلة. أو كما يرى: "كانت الأصنام عماد سنّتهم، وإليها كانوا يتقربون، وكانوا يضعونها في بيوتهم للتقرب إليها والتبرك بها".
الفتح... تحطيم للأصنام ومحو فنون الكعبة
تغيّر الأمر بدخول النبي وصحبه مكة يوم الفتح، فحُطِّمت الأصنام، وتم محو الصور. يروي الذهبي في "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام": "فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَجَاءَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبٍ، وَأَمَرَ بِطَمْسِ تِلْكَ الصُّوَرِ. فَطُمِسَتْ".
كان هناك مصورون يعيشون من بيع الصور التي يرسمونها
وبعدها نظر الرسول إِلَى صورة النبي إبراهيم، التي جعلوه فيها شيخاً يستقسم بالأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: "قاتلهم الله. جعلوه يستقسم بالأزلام، ما لإبراهيم وللأزلام؟!".
ويُضيف الأزرقي في "أخبار مكة" أن النبي استثنى من الطمس صورة عيسى وأمه، بقوله: "وَوَضَعَ (النبي) كَفَّيْهِ عَلَى صُورَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ: (امْحُوا جَمِيعَ الصُّوَرِ إِلَّا مَا تَحْتَ يَدَيَّ) فَرَفَعَ يَدَيْهِ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ".
بِيدَ أن صورة عيسى وأمه ظلت كثيراً داخل الكعبة، على أقل تقدير حتى زمن الحريق الذي طال البيت الحرام في زمن ابن الزبير، وهو ما يرويه الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، بروايته عن ابن جريج، الذي قال: "سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح، وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟ قال: نعم أدركت تمثال مريم مزوّقاً في حجرها عيسى قاعد، وكان في البيت ستة أعمدة سواري، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب: فقلت لعطاء: متى هلك؟ قال: في الحريق زمنَ ابنِ الزّبير. قلت: أعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم تعني كان؟ قال: لا أدري، وإنّي لأظنّه قد كان على عهدِه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...