"قبل الإسلام، كانت السعودية مملكة يهودية". هذا ما تبنّته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، ودعمته بدراسات لباحثين فرنسيين. قالت الصحيفة إنها سرية بسبب ما تسببه من "إحراج لكثيرين". ليس جديداً الكلام عن وجود يهود في شبه الجزيرة العربية، إذ كانت اليهودية ديانة التوحيد الوحيدة قبل الإسلام، ولا استحضار قبائل يهودية عاشت في يثرب وخيبر ونجران وتيماء وغيرها، ولا التركيز على تلك القبائل المنحدرة من بني إسرائيل كيهود بني قينقاع في يثرب. هذا الكلام يجري استحضاره في مناسبات عدة للتصويب على السياسة السعودية في المنطقة. كل تلك المعلومات تحتاج إلى التدقيق، وحتى إذا تم تأكيدها، فثمة محاذير عدة لاستخدامها سياسياً، والوقوع في الخلط بين يهود الجزيرة العربية والسياسة الإسرائيلية. وبالعودة إلى تقرير "هآرتس" فهو يصب في خانة التقارير التي لا حقائق موثقة تثبتها، لكن يبقى مهماً الاطلاع عليها كونها صادرة عن صحيفة إسرائيلية مهمة وفيها الكثير من المعلومات التاريخية المعروضة.
الروايات عن الجاهلية مغلوطة!
تقرير "هآرتس" يعتبر أن اللغة العربية ولدت من رحم العبرية، وينفي فكرة الجاهلية التي أوردها الإسلام، على اعتبار أن الجزيرة العربية عرفت التوحيد قبل الإسلام، وهي "حقائق" تقول الصحيفة إنها تسبب "رعباً" لكثيرين بسبب سياقها المسيحي واليهودي. في التفاصيل، يعود الكشف عن هذه الحقائق إلى العام 2014، حين أعلن باحثون، من حملة فرنسية - سعودية مشتركة، اكتشاف ما يمكن أن يكون أقدم النصوص المكتوبة بالعربية على شكل نقوش صخرية. بحسب الصحيفة، أعلن الباحثون عن نتائجهم بهدوء تام، وأبرز النتائج إيجاد نحو دزينة من الكتابات في الممرات الجبلية التي تقع حول "بئر حما"، الذي يبعد نحو مئة كيلومتر شمالي نجران، ومن هذه الكتابات تواريخ تعود بحسب خبراء الكتابات الأثرية إلى العام 469 أو 470 ميلادي.
تصف الصحيفة الإسرائيلية الاكتشاف بـ"المثير"، فأقدم الكتابات المعروفة بالخط العربي في فترة ما قبل الإسلام، تعود إلى نصف قرن من الزمان على الأقل، وكلها اكتشفت في سوريا، ما يعني أن الأبجدية التي استخدمت لكتابة القرآن وضعت بعيداً عن مهد الإسلام ورسوله. وعلى الرغم مما وصفته بالاكتشاف المهم، تشكو الصحيفة من "الإعلان الهادئ عنه"، إذ يوجد خبر مقتضب عنه باعتباره "الحلقة المفقودة بين اللغة العربية والأبجديات القديمة، التي كانت تستخدم سابقاً في المنطقة ولا سيما الأبجدية النبطية". وكان لافتاً، والكلام للصحيفة، غياب صور هذا الاكتشاف أو النص الحقيقي للباحثين.
ثوبان بن ملك و"الحمير"
وفقاً لتقرير "هآرتس"، حملت إحدى الصخور اسم "ثوبان بن ملك"، مع نقش لصليب مسيحي يظهر بشكل واضح. والصليب نفسه يظهر على لوحات أخرى بتواريخ متقاربة. بحسب الصحيفة، ليس واقع ربط أصول الأبجدية بسياق مسيحي يعود إلى ما قبل 150 سنة هو ما يغضب المسؤولين السعوديين فحسب، بل اكتشاف أن هذه النصوص ليست إرث الجماعة المسيحية فقط، بل ترتبط بمملكة يهودية قديمة حكمت لفترة جزءاً كبيراً مما بات يعرف اليوم بالمملكة العربية السعودية واليمن. لا تنكر "هآرتس" أن القرآن لم يحاول التعتيم على وجود الجاليات اليهودية والمسيحية في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور النبي محمد، لكنها تحمل "الصورة العامة" التي رسمها المسلمون لاحقاً، تشويه هذا الواقع، بالقول إن الجزيرة قبل الإسلام كانت ملأى بالفوضى والاضطراب والجهل وعبادة الأوثان. وتضيف الصحيفة أن هذا التعتيم اعتمد لإبراز قوة رسالة محمد، والدور التنويري الذي لعبته في توحيد العرب.ويستحضر التقرير تاريخ مملكة "حمير"، التي اعتبرها أحد الأطراف الرئيسية، التي غالباً ما كانت تنسى آنذاك، وكان مركزها يقع في ما يعرف اليوم باليمن، وقد غزت ممالك قديمة كمملكة "سبأ". تشرح "هآرتس" بأن حكام "حمير" وجدوا في اليهودية قوة توحيد لامبراطوريتهم الجديدة، وهوية لحشد مقاومة ضد الزحف المسيحي (البيزنطي والإثيوبي)، والإمبراطورية الزردشتية في بلاد فارس. وتضيف أن الإله وصف في ذلك الحين بـ"رب السماوات والأرض" و"إله إسرائيل"، والصلوات له كانت تنتهي بـ"شالوم". في ذلك الوقت، وسّعت "حمير" نفوذها في الجزيرة العربية وخليج فارس والحجاز (مكة والمدينة)، وتؤكد ذلك النقوش التي عثر عليها ليس فقط في "بئر حما"، بل قرب العاصمة السعودية الرياض. وفقاً للمؤرخين، عانى مسيحيو نجران من اضهاد "الحميريين" في العام 470 م، وثوبان الذي وجد اسمه منقوشاً أكثر من ثماني مرات، اعتبره المؤرخون الفرنسيون "شهيداً للمسيحية". وقد ترك وأترابه، ممن اضطهدتهم مملكة "حمير"، كتابات عربية لحفظ ذكراهم وتحدي مضطهديهم. كما تشير النقوش المكتشفة إلى غزو مملكة "حمير" في العام 522 منطقة يثرب، التي ستصبح بعد 70 عاماً مدينة الرسول. مع ذلك، سقطت "حمير" لاحقاً في أيدي الغزاة المسيحيين القادمين من أكسوم الأثيوبية.
بينما تختلف الروايات حول مصير الملك اليهودي الأخير بين من يقول إنه قتل أو انتحر على صهوة جواده في البحر الأحمر. وأخيراً، تسأل الصحيفة عن حال اليهود الذين عاشوا في تلك الحقبة، وتنقل عن خبراء مشككين في صحة ارتكاب "الحمير" مجازر بحق المسيحيين، إذ أن النقوش التي عثر عليها متحيزة لمصلحة "الحمير"، ولا تسمح باكتشاف حقيقي لما جرى. في المقابل، تضيف كيف كشفت النقوش استمرار اليهود في شبه الجزيرة العربية حتى بعد ظهور المسيحية والإسلام، معتبرة أن شعائرهم التي بقيت، خير دليل، مثل الصلوات اليومية والطهارة والحج وتحريم لحم الخنزير.... وختاماً، إن مثل هذه الاكتشافات، ولو لم يتم التأكد من صدقيتها، تكمن أهميتها في فتح المجال أمام البحث عن صورة أوضح لتاريخ المنطقة المعقد قبل ظهور الإسلام، صورة تخرجه من تلك الروايات التبسيطية الغارقة في التنميط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com