كان للعرب منذ القدم علم ودراية واهتمام واسع بعلم الفلك، وكانوا يتفاخرون فيما بينهم بمدى معرفتهم بأصول هذا العلم وفروعه. وكونهم أعلم الناس بمنازل القمر وأنوائها، والكواكب ومطالعها، كان لهم ما لم يكن لغيرهم في هذا المجال. وكانت البيئة الصحراويّة التي عاشوا في كنفها من أهمّ أسباب اهتمامهم بهذا العلم، فقد كانوا يهتدون بالنجوم في ترحالهم وأسفارهم وهو ما أشار إليه القرآن في أكثر من موضع، منها:(وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) و(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
العرب وعبادة الأجرام السماويّة
ذكر جواد علي في كتابه "المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام" أنّ أعلم العرب بالنجوم كانوا بنو مارية بن كلب وبنو مرّة بن همّام بن شيبان. وذكر أنّ كنانة كانت تهتمّ بالقمر بشكل خاص، وحمير تعبد الشمس. ومن العرب من تعبّد للشمس والقمر، ومنهم من تعبّد لكواكب أخرى مثل "الشعرى" التي تعبّدت لها خزاعة وقيس ومثل، و"سهيل" التي تعبّدت لها طيء و"عطارد" الذي تعبّد له بنو الأسد و"الزهرة" التي تعبّد لها أكثر العرب و"زحل" الذي تعبّد له بعض أهل مكّة.
عبادة العرب قبل الإسلام هي عبادة كواكب في الأصل. وإنّ أسماء الأصنام والآلهة، وإن تعدّدت وكثرت، فهي ترجع إلى ثالوث سماويّ مقدّس يتألف من كلّ من: الشمس والقمر والزهرة
من هنا يرى بعض الباحثين أنّ عبادة العرب قبل الإسلام هي عبادة كواكب في الأصل وأنّ أسماء الأصنام والآلهة، وإن تعدّدت وكثرت، فهي ترجع إلى ثالوث سماويّ مقدّس يتألف من كلّ من: الشمس والقمر والزهرة. فهذه الأجرام السماويّة لفتت أنظار العرب لاعتقادهم أنّ لها تأثير على الزرع والأرض والإنسان. وهو ما أشار إليه القرآن في أكثر من موضع منها: وَصْفُه لرحلة إبراهيم في بحثه عن الحقيقة (فلمّا رأى القمر بازغًا قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكوننّ من القوم الضّالّين).
منزلة القمر الخاصّة
لا شكّ أنّ العرب القدماء عظّموا الشمس ولكنّهم لم يجدوا فيها ندًّا للقمر ولم تترك في نفوسهم من العجب والتساؤل ما تركه القمر. وقد فُسّر ذلك بأمرين، أوّلهما أنّ الشّمس، باعتبارها الجرم الحارق، شكّلت مصدر حرارة ووهج قد يكونان مزعجيْن أحيانًا، خلافًا للقمر بضوئه الهادئ المؤنس. وثانيهما أنّ الشمس تشرق وتغيب، ولكنّها تظلّ على هيئة واحدة، خلاف القمر الذي يتحوّل ويتبدّل.
يذكر ابن قتيبة في كتابه "الأنواء في مواسم العرب" أنّ القمر يمثّل الأب في الديانة السماويّة. فالثالوث الكوكبيّ المقدّس عند العرب، كما ذكرنا، يتكوّن من كلّ من القمر والشمس والزهرة. واعتبر العرب القدماء القمر أبًا في هذا الثالوث، وكان كبير الآلهة بالنسبة إليهم وصارت له منزلة خاصة في ديانة العرب الجنوبيين. وهذا ما حدا ببعض البـاحثين إلى اطلاق ديانة القمر على ديانة العرب الجنوبيين.
تشير زاجية حسن، في مقالتها "عبادة القمر قبل الإسلام"، إلى أنّ هذا المركز الذي يحتله القمر في ديانة العرب الجنوبية لا نجـده فـي أديـان الـساميين الشماليين. وهو ما يصحّ أن نعتبره من الفـروق الأساسيّة في طرق تعبّد هاتين المجموعتين. وقد يعود تقديم القمر على الشمس عند العرب الجنوبيين إلى اخـتلاف طبيعة الأقاليم وإلى التباين في الثقافة. ففـي الثقافة العربية الجنوبية يُعتبر القمر هاديًا للناس ومهدّئًـا للاعصاب وسميرًا لرجال القوافل من التجار، بعكس الشمس التي تشلّ الحركة في النهار وتميت من يتعرض لأشعّتها الوهّاجة في عزّ الصيف، إذْ إنّها ذات حميم. فلا عجب بـأن تُطلق عليها أسماء كـ(ذت حميم) أو (ذات حمم) أو (ذات الحمـيم) عند العرب الجنوبيين. والحميم هو الحار الشديد المتّقد من شدّة السّخونة. وعليه، فلا نستغرب أن يقدّم العرب الجنوبيين القمر فـي عبـادتهم ويفضـلونه علـى الشمس. وممّا يظهر أيضًا منزلة القمر المتقدّمة عند العرب وتفوّقه على الشمس هو إطلاقهم لفظة "القمرين" للدلالة على الشمس والقمر.
لسان العرب... الودودد في أسماء الله عز وجل، المحبّ لعباده، من قولك وددت الرجل أودّه ودًّا ووِدَدًا... قال ابن الأثير: الودود في أسماء الله تعالى، فعولٌ بمعنى مفعول، من الودّ المحبة
أسماء القمر المتعدّدة
إنّ القمر بوصفـه معبودًا عند العرب قبل الاسلام، كان يُعـرف بأسـماء متعـدّدة. الاسم الشائـع للقمر بين الساميّين هو "ورخ" أو "سن" أو"سين" أو "شهر". و"شهر" خاصـة كان الاسم المستخدم للقمر في كتابات العرب قبل الاسلام التي عُثـر عليهـا فـي العربية الجنوبية وفي نصوص عُثر عليها في الحبشة وفي الاقسام الشمالية الغربية من جزيرة العرب. ويُلاحظ أنّ الصور التي ترمز إلى القمر ممّا عثـر عليـه فـي تلـك النصوص هي متشابهة في الشكل ممّا يدل على أنّ الاسطورة الدينية التي كانت في مخيلة عبدة القمر وقتها جاءت من أصل واحد.
ومن الأسماء التي أُطلقت على القمر اسم "ود" أي حب، بحسب ما تذكر زاجية حسن في مقالتها "عبادة القمر قبل الإسلام" بالاستناد إلى كتاب دراسات في الميثولوجيا العربيّة لمنذر حمد. وقد تشرف أناس قبل الاسلام بتسمية أنفـسهم بـ"عبّاد ود". وهي تسمية عرفت في قبيلة الخزرج وقريش وهذيل وسعد وتغلب. وثمّة أبيات تُنسب إلى النابغة الذبياني يذكر فيها هذا الإله:
حياك ود فإنّا لا يحل لنا لهو النساء وإنّ الدين عزما
وقد ورد في لسان العرب أنّ "ودّ" كان صنمًا مشهورًا في قريش. كما أطلق العرب القدماء أسماء أخرى على القمر نذكر منها: "هوبس" أي اليابس، و"ورخ" و"أشيم بابار" أي صاحب الشروق، و"حرمن" أي القدّوس، و"ننا" أو "ننار". أمّا كلمة القمر، فلم ترد إلى الآن في النصوص القديمة، وهو ما دفع بعض المستشرقين إلى القول بأنّ هذه التسمية جاءت متأخّرة.
من الأسماء التي أُطلقت على القمر اسم "ود" أي حب، وقد تشرف أناس قبل الاسلام بتسمية أنفـسهم بـ"عبّاد ود" وهي تسمية عرفت في قبيلة الخزرج وقريش وهذيل وسعد وتغلب
معابد القمر
كانت مدينة أور (تل المقير الآن-جنوب العراق) مركز عبادة "سن" أو "سين"، إله القمر. ثم انتقلت مراكز عبادة هذا الإله إلى حران في الشمال الغربي من العراق، وانتشرت عبادة إله القمر من أور إلى كلّ أرجاء بابل، ومن حران إلى سوريا وفينقيا.
وكان الملوك الاشوريون في العصور المتأخرة يعيّنون أكبر أبنائـهم كهنة في معبد "سن" في حران. وكان "والدي نابونائـيد" (555 - 539 ق.م)، آخر ملوك السلالة الكلدانية، كاهنًا من كهنة معبد "سن" في حران، وقد قام بتنصيب ابنته كاهنة في المعبد نفسه. وممّا يدلّ على اهمية عبادة إله القمر أيضًا لدى ملوك العراق هو تكريس بناتهم للخدمة في معابد القمر.
القمر والأساطير
تشكّل الأساطير جزءًا هامًّا من أجزاء البناء الفكري قبل الإسلام، وهي تمثّل الحكايات اللا واقعيّة التي تفسّر علاقة الإنسان بالكائنات. لقد كان القمر من المحاور الرئـيسة للفـكر الأسطوريّ عند الانسان القديم باعتباره أحد النيّرين الكبيرين اللذين يؤثران في ظواهر الطبيعة والحياة والكون، وهو ما رفعه إلى مقام الألوهية والتقديس. كما اتُخذ وسيلة أساسيّة في تقسيم الزمان إلى وحدات متساوية من الشهور. وما لاحظه الانسان من تغير ظاهريّ في شكل القمر رافقته أحاسيس منتاقضة من التفاؤل والتشاؤم. فقد تفـاءل العرب القدماء برؤية هلال أوّل الشهر وتشاءموا أشدّ التشاؤم من اختفاء القمر أو ما يُعرف بالخسوف.
كان يُعتقد أيضًا أنّ شياطين العالم السفليّ كانت تقوم بأسر القمر واحتجازه، وكانت تُجرى بعض الطقوس للمساعدة في فـكّ أسره
وكان خسوف القمر يُعلّل بأساطير مختلفة، حفل بها الأدب العربي قبل الإسلام، منها أنّ الإلهة الشريرة "سبيتو" تُسرع وتصرع القمر وتحجبه، وهذا ما كان يفـسّر غيابه لمدة ثلاثة أيام في نهاية كل شهر. وكان يُعتقد أيضًا أنّ شياطين العالم السفليّ كانت تقوم بأسر القمر واحتجازه، وكانت تُجرى بعض الطقوس للمساعدة في فـكّ أسره. واعتقد العراقيون بمهاجمة القمر من قبل أعدائـه من العفـاريت السبعة المقدسة وقت الخسوف واعتبروا فترة اختفـائـه في نهاية الشهر فترة شؤم وخطر، التزموا فيها إقامة الصلوات وتقديم القرابين من أجل ظهور القمر مرّة ثانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع