في 28 تشرين الثاني 1943، عُقدت قمة مصيرية في مدينة طهران، جمعت بين الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت، رئيس الحكومة البريطانية ونستون تشرشل والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين. كانت الأولى من نوعها بين قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، الذي أُطلق عليهم لقب "الثلاثة الكبار".
وكان ذلك بعد ثلاثة أشهر من انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية في سورية، والذي كان يسعى جاهداً للفت انتباه قادة العالم لمعاناة الشعب السوري الواقع تحت الاحتلال الفرنسي منذ عام 1920، مُستفيداً من الخلافات التي كانت قد بدأت تظهر بينهم وبين الجنرال شارل ديغول، زعيم قوات فرنسا الحرة الحاكمة في دمشق.
في تشرين الأول 1943، أرسل الرئيس القوتلي رئيس حكومته سعد الله الجابري إلى الكويت للتواصل مع المسؤولين البريطانيين، وفي شباط 1944 أوفد وزير خارجيته جميل مردم بك إلى بغداد، لنفس الهدف. وقد خطّ رسائل إلى كلّ من روزفلت، ستالين والزعيم الصيني تشانغ كاي شيك، مُطالباً بدعمهم لقضية استقلال سورية.
أوّل المستجيبين لطلب القوتلي كان تشانغ كاي شيك، الذي أرسل سفيراً إلى دمشق في أيار 1944، مُعترفاً بشرعية الحكم الوطني وحقّه بالاستقلال التام وغير المشروط.
كان الزعيم الصيني تشانغ كاي شيك، أوّل من أرسل سفيراً إلى دمشق في أيار 1944، تبعه ستالين في تموز، وفتح البلدان سفارتيهما في دمشق
وفي ذلك الصيف، أرسل القوتلي نائب حلب، المحامي نعيم أنطاكي، إلى مصر، للاجتماع مع السفير السوفيتي نيقولا نوفيكوف، ودعوته لزيارة دمشق. لبّى السفير السوفييتي الدعوة، ووصل دمشق في 11 تموز 1944 لفتح سفارة الاتحاد السوفييتي في سورية، مُعترفاً هو الآخر بعدالة القضية السورية.
بعد أيام قليلة، وصل وفد رفيع مرسل من قبل جوزيف ستالين لحضور حفل الافتتاح، مع تعليمات صارمة بألا يلتقي أي مسؤول فرنسي، وأن تقتصر اجتماعاته على الرئيس القوتلي وأعضاء حكومته.
وقد تزامنت إقامة الوفد السوفيتي مع احتفالات الرابع عشر من تموز، وهو عيد الثورة الفرنسية، الذي كانت حكومة الانتداب تحتفل به بعرض عسكري كبير في طريق الصالحية وسط دمشق. دُعى أعضاء الوفد السوفيتي لحضور العرض ولكنهم رفضوا، تماشياً مع وعود جوزيف ستالين للرئيس القوتلي.
مؤتمر يالطا إن عُقد دمشق
علم الرئيس القوتلي أن "الثلاثة الكبار" يريدون عقد قمة ثانية في جزيرة القرم في 4 شباط 1945، فوجه دعوة لهم بأن تُعقد في دمشق بدلاً من يالطا. وقد برّر الدعوة قائلاً إن الحلفاء قد حضروا مسبقاً إلى طهران، فلا يوجد مانع لوجيستي من اجتماعهم بدمشق.
وقد جاءت هذه الرواية نقلاً عن لسان الرئيس القوتلي، في حديث بينه وبين الصحفي أمين سعيد، صاحب جريدة الكفاح. وقد أوردها سعيد في مذكّراته المنشورة سنة 2004، وهو لم يكن من حلفاء القوتلي أبداً، بل من المحسوبين على خصمه الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.
وُجّهت الدعوات شفهياً إلى الثلاثة الكبار، ويقول أمين سعيد إن ستالين اعتذر وفضّل السفر إلى مكان أقرب، يكون تحت سيطرة المخابرات السوفيتية بالكامل.
قمة القوتلي-تشرشل
فكان القرار بأن يتوجه الرئيس القوتلي إلى مصر للاجتماع مع الرئيسين، روزفلت وتشرشل، فور عودتهم من مؤتمر يالطا. وكان مقرراً أن يحضر الاجتماع الملك عبد العزيز آل سعود، الملك فاروق وهيلا سيلاسي، إمبراطور الحبشة.
وصل روزفلت مصر ولكنه غادرها سريعاً بسبب تدهور وضعه الصحي، وتوفي في 12 نيسان 1945، أي بعد مؤتمر يالطا بشهرين وقبل اجتماعه بالرئيس السوري. بقي تشرشل من أجل الاجتماع، يرافقه وزير خارجية بريطانيا أنطوني إيدن. وقد جاء في محضر اللقاء، الذي كتب عنه نقيب الصحفيين وصاحب جريدة الأيام، نصوح بابيل، ما يلي:
تشرشل: إن مصلحة الحلفاء وضرورات الحرب تقتضي منكم أن تتفقوا مع فرنسا ونضمن الهدوء والاستقرار في هذه المنطقة الحساسة جداً من العالم.
القوتلي: نحن نقدّر مسؤوليتنا في هذه الظروف، ولكني لم أفهم مقصدك من طلب الاتفاق مع فرنسا التي نعتبرها جسماً غريباً في المنطقة وشوكة في جسم بلادنا وشعبنا.
تشرشل: يجب أن تتفقوا مع فرنسا، وإني أحذّر سورية بشكل خاص من مغبة مواقفها السلبية والمتهورة، خصوصاً في مثل هذه الأيام التاريخية الصعبة. فالعالم كله مهدد بالدمار والشعوب كلها مهددة بالموت والفناء.
القوتلي: أنا لن أعترف بفرنسا، ولن أمد لها يدي ولن أتفق معها مهما كانت الأسباب والظروف، ومهما كانت الأخطار. ماذا جنت سورية وشعبها وما ذنبها حتى ترغمها على هذا البلاء؟ لن يرهبنا التهديد والوعيد... لن نستكين ولن نلين.
اتفق القوتلي وتشرشل على دخول سورية الحرب ضد أدولف هتلر، وتقديم دعم مالي لجيوش الحلفاء لشراء طائرات حربية من طراز Spitfire
تشرشل: لقد قُلت لك إن لفرنسا مصالح في بلادكم فاعملوا معها معاهدة، وأنا كفيلها بكل ما تطلبون. فرنسا لها مصالح في سورية ولها أملاك...
القوتلي: ليس لها سوى دار واحدة في منطقة الجسر الأبيض، وأنا مُستعد أن أشتريها منها وأسكنها، لأني لا أملك داراً للسكن في دمشق بعد أن أحرقت فرنسا داري ودار أجدادي وآبائي، كما دمّرت الحيّ الدمشقي بأكمله الذي كان بيتنا فيه.
لن أعترف بها حتى لو تحولت مياه البحر الزرقاء، حمراء قانية.
تشرشل: ماذا تقصد؟
القوتلي: إني أقصد لو سالت دماؤنا وملأت البحر حتى أصبح ماؤه أحمر، لن أعقد معاهدة مع فرنسا!
تشرشل (بغضب): أتهددني؟ أنت لا تعرف مع من تتكلّم! أنت تتكلم مع قائد جيوش الحلفاء. أنا لم أسمح لشخص في العالم كله أن يتحداني أو يهددني.
القوتلي: لا يا مستر تشرشل، أنا لا أهددك إطلاقاً وأنا أعرف جيداً من تكون، لذلك ليس من المعقول أن أتحداك أو أهددك. ولكني لو أجبت على ما تطلبه مني لحكمت على نفسي بالإعدام من قبل شعبي.
إن سورية تستحق احترام الحلفاء وتقدير زعماء العالم الحرّ ومساعدتهم وتأييدهم، لأنها تدين بالمبادئ السامية التي قامت هذه الحرب دفاعاً عن قدسيتها ونشراً لرسالتها وترسيخاً لقيمها العليا. نحن نريد أن تساهم في بناء العالم الجديد.
القوتلي لتشرشل: أنا لا أهددك إطلاقاً. ولكني لو أجبت على ما تطلبه مني لحكمت على نفسي بالإعدام من قبل شعبي. سورية تستحق احترام الحلفاء وتقدير زعماء العالم الحرّ ومساعدتهم وتأييدهم
ثم قال القوتلي لتشرشل: هل تعرف جحا؟
أجابه تشرشل: لا من يكون؟
القوتلي: جحا شخصية شعبية شهيرة في بلادنا، لها الكثير من النوادر والحكم. سألوه ذات يوم: متى يكون يوم القيامة؟ أجاب جحا: أي قيامة تقصدون؟ فقالوا له: وهل هناك أكثر من قيامة؟ أجاب: نعم، القيامة الصغرى والقيامة الكبرى؟
فقالوا: متى تكون القيامة الصغرى، فأجاب: عندما يفنى العالم. ومتى تكون القيامة الصغرى؟ فقال جحا: عندما أفنى أنا.
تشرشل: ما مقصدك؟
القوتلي: سورية هي القيامة الكبرى يا مستر تشرشل، ولو فنيت سورية لا سمح الله، لن يكون هناك شرق أوسط ولا عالم عربي وسيتغير وجه العالم كلّه من بعدها.
انتهى الاجتماع واتفق الطرفان على دخول سورية الحرب ضد أدولف هتلر، وتقديم دعم مالي لجيوش الحلفاء لشراء طائرات حربية من طراز Spitfire. وقد جمع القوتلي المبلغ المطلوب لهذا الغرض بمساعدة أعضاء الشركة الخماسية في دمشق، الصناعي الدمشقي الكبير توفيق قباني، ونظيره في حلب، الحاج سامي صائم الدهر.
عاد الرئيس القوتلي بعدها إلى دمشق وتوجّه إلى قاعة مجلس النواب، حيث أعلن الحرب على دول المحور، وهي ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشية واليابان.
كان إعلاناً سياسياً لا عسكرياً لأن الحرب كانت قد أوشكت أن تنتهي، ولم تكن سورية تملك جيشاً لتحارب به، بعد أن قامت فرنسا بحلّه بعد تدميره عشية احتلالها دمشق سنة 1920.
رداً للجميل، وجّهت دعوة رسمية من قبل "الثلاثة الكبار" لسورية، للمشاركة في تأسيس منظمة الأمم المتحدة التي كان من المُقرر أن ترى النور في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية في أيار 1945.
أما بقية القصة، فهي تاريخ معروف...
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون