تجلس الخالة مسعودة (61 عاماً) في ركن من أركان بيت ابنها في جزيرة جربة بمحافظة مدنين، جنوب شرقي تونس، بعد أن انتقلت حديثاً من بيتها في أحد أرياف المحافظة، إثر سفر ابنها إلى فرنسا، لتداري حزنها الدفين، وكيلا تقلق راحة ابنها الثاني وزوجته، ولم تجد متنفساً إلا في نظم ما تيسر من أشعار "غناء الصوت" لتعبر بها عما يختلج في صدرها.
تطلق تنهيدة من الأعماق، وتبدأ في الغناء غير المفهوم بالنسبة لزوجة ابنها "الحداثية" كما تصفها، تقول: "يا فرانسا دزي الذراري، يطلوا شهرين، والثالث عندك يولوا"، فكأنها تستجدي فرنسا لإعادة ابنها ولو شهرين من شدة شوقها.
وقديماً كانت حرية التعبير بالنسبة للمرأة شبه معدومة، فهي تستحي أن يعلو صوتها أمام الرجال، فابتكرت النسوة ما كان يسمى آنذاك بـ "غناء الصوت" الذي يكون عادة من ألحانهن وكلماتهن التي يستقينها من يومياتهن، وما يختلج في صدورهن من أشواق للحبيب أو معاناة من المرض أو الفقر أو الغربة وغيرها.
ورغم تراجع هذا الفن، الذي يُعدّ قيّماً وذا رسالة، فإن نساء من المناطق الداخلية في تونس لازلن ينظمن أشعاره ويحرصن على غنائه حتى في المطبخ أو الحفلات العائلية، ويتم إعادة غنائه مؤخراً في الحفلات تحت مسمى غناء التراث، أو الموروث الشعبي.
صرخات مكبوتة
تقول الخالة سالمة (58 عاماً) من محافظة تطاوين لرصيف22: "في شبابنا لم يكن لدينا الحرية في شيء، فقد كانوا يوجهوننا كيفما شاءوا، يزوجوننا بشكل تلقائي إلى أحد أقاربنا، وليس لدينا الحق في الاعتراض ولا في الطلاق إن لم يعجبنا الزوج، ما جعل نسوة كثيرات يروين معاناتهن في شكل قصائد، يتداولنها فيما بينهم".
تختلف المواضيع الغنائية وتتنوع، لكن جميعها تعكس صرخات مكبوتة داخل أعماق نسوة عانين طويلاً.
تجتمع النسوة في المواسم الزراعية، خاصة موسم جني الزيتون والحصاد، بحسب الخالة سالمة، وتتبارين أيهن أكثر نظماً للأشعار وأفضل تعبيراً عن ذاتها، بعيداً عن ملاحظات الرجال واستهزائهم بكل ما تقدمه المرأة، في هذه الأجواء ظهر وبرز غناء الصوت.
تقول: "كانت أمي رحمها الله من أكثر النسوة نظماً للشعر وحفظاً لأشعار الأسلاف التي ورثتها عن أمها وجدتها، وكانت طريقة أدائها مختلفة عن باقي النسوة، فهي تغني بكل إحساس، وتختلق ألحاناً تتناسب وكلمات الأغنية".
أغاني مشفرة ومعانٍ كثيرة
ظلت النسوة يغنين بصمت دون جمهور، فالغناء بالنسبة لهن ترفيه عن النفس وترجمة لأحاسيس مكبوتة لا يستطعن البوح بها، فنظمنها قصائد ولحنها حسب أذواقهن بعيداً عن عالم الرجال.
ثم بدأت تظهر شيئاً فشيئاً للعلن، فصرن يغنينها عندما يجتمعن في حفلات الختان والزفاف، وتبدو عادة غير مفهومة للجميع، فهي أغاني مشفرة، ومحملة بمعانٍ كثيرة، فمنهن من تنظم شعراً في فقد حبيب، وأخرى عن وفاة قريب، وثالثة عن الغربة، وأخرى عن زواجها عنوة من رجل كبير في السن.
تقول إحداهن: "بابا عطاني، لا شبح لا فكر عقاب، ملح يسخاله سكر"، أي "أبي زوجني دون تفكير لرجل كبير في السن 'ملح' ظناً منه أنه سكر".
وقد غنت النسوة أيضاً عن الغدر والخيانة، تقول عائشة (54 عاماً): "لم تترك النسوة موضوعاً إلا وقلن فيه أشعاراً، وكن يتلاعبن بالكلمات ويغنين بشكل مشفر، على غرار مقطع تقول صاحبته: 'هزيت حملي للجبل ورقيته، مليت كمشتي بالورد شوك لقيته'، أي أنها قدمت معروفاً للطرف المقابل، وتكبدت عناءً كعناء صعود الجبل بالحمل الثقيل، لكنها لم تتلق رداً للمعروف، بل العكس، ما جعلها تقول: ملأت يدي بالورد وجدته شوكاً".
"ذهبنا ذات يوم للغناء في برنامج إذاعي خلسة، وكان والدي يتابعه بشغف، وقد أخبرتنا أمي أنه كان يقول: 'يا لهذه الأصوات الرائعة'، وهو لا يعلم أنها أصوات بناته، وإلا كان قتلنا كلنا"
بعد عقود من الزمن تداولت الإذاعات تلك الأغاني، وأصبحت النسوة يرسلن أشعارهن عبر الرسائل، حتى أن بعضهن ذهبن إلى مقر الإذاعة خلسة ليوصلن أغانيهن إلى الجمهور دون كشف أسمائهن.
تقول الخالة سكينة (51 عاماً) من محافظة سليانة: "كنت أذهب إلى الإذاعة في السبعينيات للغناء، رفقة أختي صليحة وابنة خالتي هناء، ولا نخبر والدينا بذلك خوفاً منهم".
"كنا نحفظ الأغاني عن ظهر قلب، ونوهم أهالينا بذهابنا إلى التسوق"، تقول سكينة، وتحكي عن طرفة حصلت معها: "ذهبنا ذات يوم للغناء في برنامج إذاعي، وكان والدي يتابع البرنامج بشغف، وقد أخبرتنا أمي أنه كان يثني على أصواتنا، ويقول: 'يا لهذه الأصوات الرائعة'، وهو لا يعلم أنها أصوات بناته وابنة أخت زوجته، وإلا كان قتلنا جميعنا، ففي ذلك الوقت كان الغناء من أشد العيوب والمحرمات، وتعتبر كل امرأة تغني ويُسمع صوتها عاهرة وقليلة تربية".
ويتميز ما كان يُعرف بـ"غناء الصوت" بلحنه الخاص ومخارج حروف تكاد تكون غير مفهومة، فالنسوة يدخلن أحرفاً زائدة عن الكلمات أهمها حرفي الهاء والنون، فمثلاً عندما تغنين مقطع: "عالمحمد بابا فاطمة برق الّي همد صلّ اللّه عليه"، تضفن حرف الهاء بين الحروف، فيصبح: "هعالمحهمد بابا فاهطمة برقها الّي همد صهلّ اللّه عليه"، أو حرف النون مثل مقطع: "أنا منيتي بيت الشّعر والنّاقة ولا قعدتي في حوش يقفل بابه"، فيصبح: "الشّعنر والنّانقة نا مننيتيني بيتيني هاها جمنل والنّانقة يا الشّعنر والنّانقة ولاقنعديني في الحونوش ينقفل بابه ها"، وهو نوع من التلحين الخاص الذي ابتكرنه ليضفي نوعاً من الغموض على الكلمات، فضلاً عن الإيقاع المميز.
عندما تغني للحبيب
يرى المختص في علم النفس الاجتماعي، نجيب بوطالب، أن "الغناء لدى المرأة له خصوصية تاريخية، منذ عهد المجتمع القبلي الذي يفصل عالم الرجال عن عالم النساء، وعادة تكون للنساء مواضيع عدة في الغناء، منها الديني والاجتماعي والعاطفي، والذي يكون عادة محتشماً، إذ يستخدمن الكناية أي الرموز والشفرات المبطنة، فعندما تغني المرأة للحبيب مثلاً، وهو من المحظورات، حينها تستخدم كلمة 'خال' لإبعاد الشبهات، والغناء عادة يكون في بيت خاص بالنساء".
"كن ينادين على بعضهن بمقاطع غنائية، لتباعد البيوت، يجتمعن على إثرها للسهر والسمر، يخلقن عالمهن الغنائي الخاص، يزودن حروفاً معينة، وعندما يغنين عن الحبيب يستخدمن كلمة "خال" لإبعاد الشبهات"
"يجتمعن في الخيم آنذاك والمنازل بعد ذلك، حيث خلقن عالمهن الخاص الذي يتضمن شعراً وغناء مليئاً بالمشاعر والأحاسيس، وهو شكل من أشكال الفرحة في مجتمعات محافظة، وهناك نوع آخر من الغناء فيه من المرح الكثير، خاصة في موسم الحصاد وجني الزيتون، وكانت الشابات في المناطق الريفية تجتمعن بالغناء، حيث كانت المنازل متباعدة، فينادين بعضهن البعض بمقاطع غنائية يجتمعن على إثرها للسهر والسمر والغناء".
و قد اشتهرت في الماضي نساء كثيرات بغنائهن، خاصة الملحمي والحماسي منه، مثل المرأة الشهيلية التي عرفت قصتها في محافظة تطاوين منذ القدم، ومازالت قصيدتها متداولة إلى اليوم، عندما أرسلت أحد أبنائها للقتال في الحرب، فقُتل، فأرسلت ابنها الثاني، وقُتل أيضاً ثم أرسلت الثالث، وقُتل، فسألها الناس لماذا فعلت ذلك، وألقوا اللوم عليها، فأجابتهم بمقطع شعري مازال متداولاً إلى اليوم، يقول:"ضناوي شقاء مش ضناوي راحة... إذا طاح منهم صقر يشد صقر في مطراحه"، أي أن أولادها خلقوا للدفاع عن الوطن وليس للراحة، وهو ما يبرز دور المرأة ومساهمتها في الدفاع عن الوطن والقبيلة والانتماء، بحسب بوطالب.
تحررت أصوات النساء التونسيات بالغناء في الإذاعات والقنوات التلفزية وحفلات الزفاف، وخرجت أشعارهن من الظلمات إلى النور وأصبحت متداولة، وقد خصصت لها برامج وصارت أغاني الصوت من التراث اللامادي القيّم الذي يحرص الجميع على الحفاظ عليه جيلاً بعد آخر. وقد تمت إعادة توزيعه وغنائه وتلحينه من قبل فنانين كثر، ولاقى نجاحاً، أهمها أغنية "صنديدة "للفنان رؤوف ماهر، التي حققت قرابة 7 ملايين مشاهدة على يوتيوب، وأغنية "المحفل" التي أعادت غناءها الفنانة الشابة شيرين اللجمي، والتي وصلت لـ 15 مليون مشاهدة، وحققت أغنية "غير قولولي وينها" التي أعادت أدائها الفنانة زازا أكثر من 11 مليون مشاهدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون