شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"المرجة" في قلب دمشق... ساحة الشهداء القدامى والمعاصرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 13 أغسطس 202110:55 ص

بعد أن كانت ساحة المرجة التي تقع في قلب العاصمة دمشق مكاناً يضج بالحيوية، باتت الآن مُختصراً لحال الشعب السوري: طابور أمام شركة الاتصالات بغية دفع الفواتير المتراكمة، وجوه كالحة لمراجعي هيئة الرقابة والتفتيش، حيث الأضابير الضائعة، أكوام الملفّات غير المرتبة والموظفون الأشبه بضبّاط الأمن. بينما مبنى وزارة الداخلية غرب الساحة صار يخلو من معظم ساكنيه، ما عدا طابقه الأرضي الذي أصبح لفرع إدارة الحماية، على عكس غرف الفنادق المحيطة التي تغصّ بعائلات المُهجَّرين، لدرجة من الصعب أن تجد غرفة شاغرة ولو بسرير واحد.

وإلى جنوب الساحة مبنى العابد المتروك ليشيخ وحده، من دون أي عناية، مثله مثل المقاهي والمحلات المنتشرة في حضنه وعلى جنباته: كاسات شاي كأنها تخمَّرت منذ سنين، وروائح مركَّزة للحلو العربي، من البقلاوة، إلى النابلسية وزنود الست التي تغضَّنت بفعل الزمن، وباتت كالحة كالأحذية والحقائب الجلدية المتدلية على واجهات بعض المحلات المجاورة، وتشبه إلى حد كبير أسياخ الشاورما المنصوبة على بوابات مطاعم الوجبات السريعة.

ساحة المرجة اليوم

ساحة المرجة اليوم - تصوير بديع صنيج

أما سوق الكهرباء القريب فبعد أن كان بهيجاً كشجرة ميلاد، تراه مُظلِماً بفعل التقنين الجائر، والبيع فيه على ضوء الليدّات والبطاريات السائلة والجافة، التي لا تلبث أن تتأكسد أقطابها، مثلما تأكسدت وجوه سائقي التكاسي بفعل عدم توفر البنزين الكافي وارتفاع سعره، وانخفاض قدرة المواطنين على ممارسة الرفاهية بطلب خدماتهم، فضلاً عن وجوه أفراد شرطة المرور التي "لا تضحك للرغيف الساخن"، وصراخهم على السائقين لعدم البقاء في الساحة وإيقاف حركة السَّير فيها، كما توقف العمل في بناء مجمَّع يلبغا شمال الساحة لعقود طويلة، قبل أن يستثمره أحد النافذين لمئة عام، ويعيد إنعاش الأمل بتلوين هذه الكتلة الإسمنتية الضخمة وضخّ الحياة فيها، أسوةً بجامع يلبغا الذي يتصدَّر الواجهة الجنوبية للمبنى، والمستشارية الثقافية الإيرانية المقابلة لواجهته الغربية بزخارفها العجمية.

بعد أن كانت ساحة المرجة في قلب العاصمة دمشق مكاناً يضج بالحيوية، باتت الآن مُختصراً لحال الشعب السوري.

خليط عجيب في محيط الساحة تزيده غرابةً دكاكين المترجمين المحلَّفين للغات الأرض كافةً، ومكاتب المحامين ومعقبي المعاملات، وعيادات الأطباء، ومحلَّات بيع محولات الكهرباء وألواح الطاقة الشمسية، وباعة العطور المركّبة والكحول المهرّبة والأقراص المدمجة، وسوق العصافير وسوق الحرامية القريبان من سوق القرماني الأثري الذي أُزيل عن بكرة أبيه بين ليلة وضحاها، والأكثر غرابةً هي وجوه من يقصد ساحة المرجة لأخذ صورة تذكارية، وعلامات التعب والأسى بادية عليهم لدرجة أنهم غير قادرين حتى على الابتسام، وكأنهم شهداء معاصرون بكل ما تعنيه هذه الكلمة من عذابات في حاضرها المستمر، ليبقى "عمود المرجة" هو الثابت الوحيد الذي لم يتغير منذ تأسيسه عام 1907.

ساحة المرجة اليوم

ساحة المرجة اليوم - تصوير بديع صنيج


خازوق المرجة

"عمود المرجة" أو "خازوق المرجة" كما يسميه البعض تذكيراً بممارسات العثمانيين، هو نصب تذكاري يتوسط الساحة، أقامه الوالي العثماني حسين ناظم باشا، تخليداً للاتصالات البرقية بين دمشق والمدينة المنوّرة، وصمّمه المعماري الإيطالي ريموندو دارونكو، ويتكوّن من قاعدة بازلتية وعمود من البرونز ينتهي بمجسم مصغّر لجامع يلدز في اسطنبول.

عمود المرجة

عمود المرجة - تصوير بديع صنيج

تحت هذا النصب بُنيت أعواد المشانق لشهداء 6 أيار، ثم بات مكاناً دائماً لإعدام المجرمين، بمن فيهم الجاسوس "كوهين" الذي أُعدم عام 1965، بحيث كان أهالي الأحياء المحيطة بالساحة يتجمهرون فجراً لحضور شنق أحد المجرمين.

ساحة المرجة، كما يروي الدكتور قتيبة شهابي في كتابه "ساحة المرجة ومجاوراتها" تأسست في العهد المملوكي وتمّ تحديثها في العهد العثماني، ثم الفرنسي، وشهدت أحداثاً مفصلية في تاريخ سوريا منها: إعدام الوطنيين الأحرار في 6 أيار 1916 على يد جمال باشا السفّاح، فسُمّيت على إثرها "ساحة الشهداء"، وإعدام أبطال الثورة السورية الكبرى (1925-1927) الذين كانت فرنسا تلقي بجثثهم في الساحة بغية نشر الرعب في النفوس.

خليط عجيب في محيط ساحة المرجة: دكاكين مترجمين محلَّفين للغات الأرض كافةً، ومحامين ومعقبي معاملات، ومحلَّات بيع محولات الكهرباء، وباعة العطور المركّبة. الأكثر غرابةً من يقصد الساحة لأخذ صورة تذكارية، وعلامات التعب بادية عليهم وهم غير قادرين على الابتسام

يقول الشهابي: "في الخامس والعشرين من آب عام 1915 تم تنفيذ حكم الإعدام الجائر بالدفعة الأولى من المناضلين ضمّت أحد عشر مناضلاً، صعد أولهم عبد الكريم الخليل إلى منصة الشرف وأخذ يهتف مرحباً بالموت في سبيل الحرية: يا أبناء الوطن..... يريد الأتراك أن يخنقوا أصوات الحرية في صدورنا، لكننا سنتكلم.. نحن أمة تريد الاستقلال وتسعى للخلاص من نير المحتلين.

وفي عتمة ليلة السادس من أيار 1916 اقتيدت قافلة الرجال الثانية إلى أراجيح الفداء في ساحة المرجة بدمشق، وعلا هتاف الرجال وهم في الطريق إلى ساحة الفداء: نحن أبناء الألى... شادوا مجداً وعلا/ نسل قحطان الأبي... جد كل العرب، بينما وقف جمال السفاح في شرفة مطلة على الساحة ليرى بعينيه الجريمة الشنيعة التي اقترفتها يداه، بإعدام خيرة السياسيين والمفكرين والأدباء السوريين، كان منهم شفيق المؤيد عضو مجلس النواب، شكري العسلي عضو مجلس الأعيان، عبد الوهاب الإنكليزي من أشهر أدباء دمشق، عبد الحميد الزهراوي صاحب جريدة المنبر وعارف الشهابي صاحب جريدة لسان الحال".

الشمال الغربي لساحة المرجة

الشمال الغربي لساحة المرجة - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

ومن أجمل الأقوال التي قيلت على منصة الإعدام ما تفوَّه به الشهيد بترو باولي عندما خاطب الطبيب الذي تولى فحصه قبل الإعدام: "كان الأولى بكم بدل أن تفحصوا أجسامنا بدقة أن تحاكمونا بالعدل، هلمّوا أسرعوا فما نحن من الموت بخائفين"، ثم صعد بنفسه إلى المنصة ورفس الكرسي بقدمه، لتنطلق بعدها جموع الدمشقيين تجوب الشوارع حاملة نعوش الشهداء مرددةً أهزوجة ترسّخت قي التراث الدمشقي: "لاقونا عالمرجة والمرجة لينا... شامنا فرجة وهي مزينة".


أول رحلة "ترامواي"

هذه الساحة تؤرِّخ أيضاً لحركة النقل الداخلي والخارجي في دمشق، فبعد أن كانت العربات التي تجرها الخيول هي وسيلة النقل المنتشرة في بدايات القرن العشرين، انطلقت أول رحلة للترامواي (الحافلة الكهربائية) بين أحياء دمشق عام 1904، كأول وسيلة نقل حديثة، يشير إلى ذلك كتاب "معالم دمشق التاريخية" لمؤلفيه الدكتور أحمد الإيبش والدكتور قتيبة الشهابي، بالقول: "تقدم الأمير محمد أرسلان بطلب امتياز بتوليد الطاقة الكهربائية واستثمارها، فتم الاتفاق معه في 18 محرم سنة 1321هـ على تنوير دمشق وضواحيها بالكهرباء لمدة 99 سنة على أن ينتهي العمل في أربع سنوات، ثم أخذ أرسلان امتيازاً آخر بتقديم القوة الكهربائية اللازمة لتسيير حافلات الترامواي على الخطوط الممنوح امتيازها قديماً إلى يوسف مطران".

كان نهر بردى في بدايات القرن التاسع عشر يتفرع في هذه الساحة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار، كان يطلق عليها البعض اسم الجزيرة أو بين النهرين، ومن ثم أطلقوا عليها "المرجة" بسبب غناها بالأشجار

باشرت الشركة عملها عام 1904، فمددت خط ترامواي من ساحة الشهداء أو المرجة إلى باب مصر في منتهى محلة الميدان، وطوله ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلو متر وهو خط مزدوج، ثمّ مُدد الخط الثاني من ساحة المرجة إلى الجسر الأبيض سنة 1909، وتم تمديده إلى المهاجرين سنة 1911 وطوله ثلاثة كيلومترات ومئتا متر، وهو مزدوج أيضاً حتى الجسر الأبيض، والباقي إلى المهاجرين خط منفرد، أما الخط الثالث يبدأ من الجسر الأبيض-الصالحية وينتهي عند جامع محي الدين بن عربي وطوله كيلو متر واحد وهو مزدوج، كل ذلك قبل أن تُلغى وسيلة النقل هذه عام 1961.

جنوب ساحة المرجة

جنوب ساحة المرجة - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

مسارح وسينمات

ولساحة المرجة تاريخ ثقافي لا يقل أهمية عن تاريخها السياسي، إذ عرفت واحدة من أوائل دور للسينما في دمشق وهي سينما زهرة دمشق (سينما باتيه) التي تأسست عام 1918 وأغلقت سنة 1928، ومن ثم تأسست سينمات الإصلاح خانة والكوزموغراف وغازي وسنترال وفاروق والنصر.

كما شهدت ولادة المسارح الدمشقية، ففي نهاية القرن التاسع عشر، أُقيم مبنى مقهى ومسرح "زهرة دمشق" عند زاوية الساحة من جهة الشمال. كان صاحب هذا المسرح رجلاً يدعى حبيب الشماس، وعملت الممثلة والراقصة بديعة مصابني في هذا المسرح كـنادلة. وفي عام 1912 شهد هذا المسرح أول عرض سينمائي صامت، ثم تحوّل المكان إلى صالة سينما زهرة دمشق، وفيها عُرض فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد عبد الوهاب، وكان حدثاً استثنائياً في حياة المدينة. ثم تعرّضت الصالة إلى حريق في أواخر العشرينيات فهُدم البناء، ويُقام مكانه اليوم فندق "سمير"، وهناك أيضاً مسرح "القوتلي" الذي أسس في بدايات القرن العشرين وانتهى بحريق سنة 1928 بعد أن غنى فيه أشهر المطربين العرب.

ساحة المرجة وسينما زهرة دمشق

ساحة المرجة وسينما زهرة دمشق - المصدر: موقع التاريخ السوري المعاصر

لماذا سميت الساحة باسم المرجة؟ يعيد الدكتور شهابي الموضوع إلى أن نهر بردى في بدايات القرن التاسع عشر يتفرع في هذه الساحة إلى فرعين يحتضنان جزيرة صغيرة غنية بالأشجار، كان يطلق عليها البعض اسم الجزيرة أو بين النهرين، ومن ثم أطلقوا عليها "المرجة" بسبب غناها بالأشجار، كما يذكر الشهابي "أن الساحة شهدت طوفان نهر بردى المتكرر الذي كان يسمى (الزورة) إثر الأمطار الغزيرة التي كانت تغمر الساحة والأسواق المجاورة". لكنه جفّ اليوم ولم يبق من ذكراه سوى قصيدة أحمد شوقي الشهيرة "سلامٌ من صَبا بردى أَرَقُّ... ودَمعٌ لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image