في يوم ما كان في وسط مدينة دمشق سوق، وكان هذا السوق يدعى "سوق القرماني" نسبة إلى حمام القرماني الأثري الذي يقع هناك.
في يوم ما كان هذا السوق هو المكان الأكثر اكتظاظاً في دمشق. حينها كانت السلع فيه أرخص من السلع في كلّ الأسواق الأخرى. وكان بإمكانك شراء ما تريد من حبة الفستق حتى أكبر قطعة من أثاث البيت.
في يوم ما كان يوجد سوق، وكان هذا السوق يقع بين بناء يلبغا، البناء اللغز ذي الأحد عشر طابقاً والذي بُني في سبعينيات القرن الماضي ولم يُنجز بعد، وبقي كأبرز آثار الحقبة الأسديّة، وبين جسر الثورة، وهو الجسر الممتد بين سوق الخجا ومدخل قلعة دمشق.
والجسر يفصل بين سوق القرماني ومدخل منطقة ساروجة من جهة وسوق الحرامية وموقف الباصات الصغيرة (السرفيس أو الميكرو باص) التي تتجه إلى الغوطة الغربية من جهة أخرى.
ملاحظة هامشيّة: أنا ومعظم أفراد عائلتي، الأكبر مني عمراً، من جهة والدي، قضينا سنوات طويلة في هذا السوق لأنّ جدي كان يملك أحد المحال التجاريّة هناك وكنّا نتناوب على العمل فيه.
في البداية ولسنوات طويلة كنّا نبيع الألبسة المستعملة (البالة) ومن ثم بدأنا بيع الجلديات والجوارب وأخيراً الثياب الجديدة.
اسم الشارع الرسمي، الذي يقع فيه السوق، هو شارع الاتحاد، لكن معظم الناس كانوا يستخدمون اسم شارع الثورة نسبة إلى اسم الجسر.
هذا الشارع هو أكثر شوارع المدينة اكتظاظاً خاصة في بعض الأوقات والمواعيد المحددة كمثل الساعة الأخيرة قبل موعد الإفطار في شهر رمضان.
كانت النكتة تقول إنّ شارع الثورة قد هرب من الهند، نسبة إلى الصور التي يراها السوريون عن الازدحام في بعض الشوارع الهنديّة.
كان السوق مقسماً إلى أجزاء؛ ولنبدأ من الغرب حيث مجمع يلبغا: بعد المجمع مباشرة هناك السوق المسقوف والذي تنزل إليه من بوابته الأماميّة بخمس أو ست درجات. المحال صغيرة ومتنوعة وفيها كلّ شيء. أمام المدخل بسطات تصليح الساعات وباعة اليانصيب وباعة الخواتم.
فلافل المحطة كانت من أبرز علامات السوق. التواليتات العموميّة كانت نقطة يعرفها الجميع عند الباب الخلفي للسوق. إذا خرجت من الباب الخلفي تكون في منتصف سوق السمك وإلى يسارك سوق الحمام، وإلى الأمام قليلاً حمّام القرماني الأثري وبعض الفنادق الرخيصة وصولاً إلى ساحة المرجة، مركز العاصمة دمشق.
بعد السوق المسقوف، بعض المحال التجاريّة أشهرها دكان يبيع أيّ قطعة بعشر ليرات سوريّة، وبضاعة هذا الدكان متنوعة لا حصر لها. بعد هذه المحال تظهر لك محال بيع ألبسة البالة، التي هدمت الحكومة جزءاً كبيراً منها في بداية التسعينيات مما جعلها بعيدة عن الشارع العام بحوالي عشرة أمتار، وأمام هذه المحال، بسطات بيع البزورات.من هنا كان بإمكانك شراء ما تريد من حبة الفستق وحتى أكبر قطعة من أثاث البيت...
كان في وسط مدينة دمشق سوق يدعى "سوق القرماني" وفي يوم ما هُدم هذا السوق وهُدم معه جزء من ذاكرتنا
من ثم يظهر دكان كبير آخر يبيعُ أيّ قطعة بعشر ليرات سوريّة، ومن ثم محال تبيع بضائع مختلفة إلى نهاية الشارع وحتى الالتفاف يمينًا وصولًا إلى ميتم سيد قريش وإلى سوق الحمام من الطرف الآخر وإلى سوق السروجيّة ومدخل قلعة دمشق.
كان باعة البسطات في حرب كرّ وفرّ مع شرطة المحافظة الذين يصادرون ممتلكاتهم ولا يتركونها إلا مقابل مبلغ من المال. ويحدث في كلّ يوم تقريباً أن ترى شاباً يقف على "مصطبة" عالية ويصفّر بأقصى ما يستطيع تنبيهاً لرفاقه بقرب سيارة الشرطة، فترى كل رجل يحمل بضاعته ويهرب فيها باتجاه ما أو قد يخبئها في دكان ما.
بائعو المشروبات الشامية المختلفة بثيابهم التقليدية من علامات السوق المميزة، فترى بائع العرقسوس يضرب "طاسات" الشرب بعضها ببعض معلناً مروره، وترى بائع القهوة المرة يصدر أصواتاً بفناجينه المزخرفة إيذاناً بقدومه، وترى بائع التمر الهندي ينادي بأعلى صوته: "تمر هندي بارد... تعا طفي الشوب يا يوب".
كان عدد العاملين في هذا السوق يُقدّر بالآلاف، وكان المكان منبعاً رئيسياً للضجيج، الكل يصيح على بضاعته والكل يتحدث بصوت عال والكل يضحك والكل والكل والكل…
الحياة هناك صعبة، لكنها كانت توفر العيش الكريم لآلاف العائلات السعيدة بما تسترزق به من دكاكينها الصغيرة، المملوكة بمعظمها لأوقاف ميتم سيد قريش. كان كلّ دكان يدفع أجرة شهرية لا تتجاوز مئة أو مئتي ليرة سورية للميتم الذي كنت أخاف دخوله حين كنت صغيراً.
كنّا إن احتجنا مرحاضاً ذهبنا إلى التواليتات العموميّة في السوق المسقوف أو إلى حمامات جامع الورد الكبير أو حمامات مسجد المدرسة الدمشقيّة، وإن احتجنا مياهاً للشرب عبأنا الماء من المسجد أو الجامع أو الميتم، وإن احتجنا للطعام فهناك فلافل المحطة، أو بائع السندويش في سوق الحراميّة أو بعض صانعي الخبز والفطائر والكعك في سوق ساروجة.
في يوم ما قررت رئاسة محافظة دمشق هدم سوق القرماني والمحال المحيطة به. أبلغوا أصحاب المحال والدكاكين قبل أيام قليلة بقرار هدم السوق. رفض الناس وتجمعوا وغضبوا وقدموا الشكاوى، لكن العمل بالقرار استمر، وبدأ الهدم ذات فجر باكر وسط استنفار عناصر قوات حفظ النظام خوفاً من تحرك بعض الذين قد لا يرضيهم ما يجري.
وعدت الحكومة أصحاب المحال والدكاكين بتعويضات، قالت إنّها سوف تعطيهم نقوداً كثيرة ثم قالت إنّها سوف تعطيهم أكشاكاً صغيرة في أطراف العاصمة ثم لم تنفذ أي وعدٍ من وعودها، وأصبح الآلاف عاطلين عن العمل لا مصدر رزق لهم.
يقول بعض الناس إن هذا السوق كان يشوه جمال دمشق ونسوا أنّ هذا السوق القديم هو جزء من دمشق بحلاوتها وبشاعتها، فضلاً عن أنّه كان مصدر رزق للآلاف.
كانت الشائعة تقول إن الهدم جاء بقرار من رامي مخلوف ابن خال الرئيس ومالك نصف البلاد، كان الناس يقولون إنّه ينوي بناء فندق ضخم هناك، لكن بعد الهدم وعند البدء بحفر أساسات البناء تم اكتشاف آثار قديمة فنُهبت تلك الآثار، كما نهبت البلاد بأسرها، وتحول السوق إلى حديقة بشعة.
في يوم ما كان في وسط مدينة دمشق سوق، وكان هذا السوق يدعى "سوق القرماني"، وفي يوم ما هُدم هذا السوق وهُدم معه جزء من ذاكرتنا الجمعيّة في سوريا كما هدمت البلاد كلّها بعد عدد قليل من السنين، بفعل الأشخاص أنفسهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...