قد لا يطرح السؤال عمّا يجعل الجميل جميلاً، أو بمعنى آخر، تقصّي عناصر الجمال في أي عمل فنّي، إلا في لحظات الاسترخاء الفكري، وليس في اللحظة الفنية النابضة بالاندهاش والمتعة. وقد نتبيّن بناء العمل الدرامي أثناء المشاهدة مع افتتاح أول مشهد وأمام آخر لقطة تثبّت صورة بعينها، في قصدية إخراجية واضحة لترسيخها في وجدان المشاهد. ولعلّ جمالية الأفلام الروائية القصيرة في تضييقها البؤرة التصويرية للشخصيات والحدث، وإلحاحها على ثيمة ما، تضعنا في حالة توتّر انفعالي، كما القصة القصيرة أو القصيدة.
تكثيف الحالة الشعورية لدى المتلقّي بما هو انعكاس لانضغاط المَشاهد، وتكاد تنحصر في مشهدين ليس إلا ـ نعيشه في أربع عشرة دقيقة، هي مدة الفيلم المصري الروائي القصير "شفت مسائي" (The Night Shift)، إخراج كريم شعبان، 2020.
موضوع الفيلم
يتمحور الفيلم حول شخصيتين رئيستين، هما الشاب موظف خدمة العملاء "زين" (الممثل عصام عمر) الذي يعيش رتابة المناوبة الليلية وحيداً في عمله، يقاوم النعاس في إحدى شركات الإنترنت. وشخصية العميل أكرم (الممثل أحمد كمال) الذي يأتي صوته عبر مكالمة غير عادية، متذمّراً من انقطاع الشبكة ومن سوء الخدمة في الردّ على تسجيل طلبه بإصلاح العطل، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل أشغاله.يصوّر فيلم "شفت مسائي"عالماً مغلقاً من اليوميّات المثقلة بالضغوط، لتتكشف القضية الثالثة، علاوة على قضيّتي سوء الخدمة وروتين الموظف، في البنية العميقة للفيلم. وهي قضية العزلة والحاجة الملحّة للتواصل
حتى بات ما هو استثناء -من انقطاع أو ضعف في الإنترنت- عادياً، رتيباً، مكروراً وكئيباً، بما يشبه محاكاة موازية لحياة الموظف القائمة على الروتين.
لكنّ المفارقة الأولى أنّ هذه المكالمة من العميل قلبت وضع الموظف، بتنبيهه ربما إلى ما لم يلحظه سابقاً من نمطية ونَمْذجة، ليس في مستوى اليوميات العملية وحسب، بل في مستوى الكلام أو الجمل المحفوظة جيداً بما يشبه التلقين لأدائها هي نفسها، في كل مرة، مع أي عميل يطلب خدمة.
إذن ثمة تقييد للإبداعية، وتأكيد على جمود ذهنية الموظف يرسخه إطار المشهد المحصور في مكتب العمل، والمكتظ بأجهزة الكمبيوتر المرصوفة على طاولات أمام مقاعد الموظفين الخالية إلا من وجه الشاب زين الناعس والمردّد جمله، كأنما هو في حالة شبيهة بالتنويم المغناطيسي، تعزّزها الإضاءة الخافتة في المكان.
جماليات الفيلم
جماليات الفيلم تتعدّى زاوية التصوير للمكان والوجه الكئيبين، حيث تنقلت العدسة بين "زوم إن" و"زوم أوت" في لقطات بعيدة ومتوسّطة ومقرّبة لعامل الخدمة زين في أثناء الردّ المحايد على اتصال العميل، الذي لا نفتأ نسمع صوته موبّخاً ومؤنّباً الموظف، بل يوقظ ما يضطرم في دخيلته. ولا نرى وجه "أكرم" وغرفته وما يؤثث عالمه إلا في الدقائق الأخيرة من الفيلم.لعبة الظهور والكمون بين الصوت والصورة، الانفعال والحيادية، كما التناوب في الوضعيّات وانقلاب الأوضاع المتوازية شديدة التعبير، وتتكشّف للمُشاهد شيئاً فشيئاً، تماماً كما القضايا التي كلّما حفرنا تبيّناها، وهي ليست قضية واحدة.
العبور من اليومي الذي أمسى اعتيادياً لدى العملاء مع سوء الشبكة إلى الفنّي تحت عنوان الفكاهة المرّة يتبدى في صدارة المعالجة الفنية. إنّما هذا المشهد للمكالمة يحكمه طرفان، ولكل طرف همومه، وإن ظهرت أوّلاً مشكلة الطرف المتّصل/العميل عبر الصوت لا الصورة.
والموظف دائماً في الواجهة والمواجهة معاً، عليه امتصاص غضب العميل بهدوء، مهما أبدى من صلف أو تطاول. فالشكوى تسجّلت... وسيتم إصلاح الخلل في خلال ساعتين... يؤكّد الموظف مطمئِناً العميل، ومكرِّراً بنبرة حيادية لا تشي بأي انفعال، بموازاة التصعيد الانفعالي لصوت المقرّع على الطرف الآخر من خط الاتصال.
لا يملك زين الحلّ الجذري لمشكلة تتكرّر يومياً، بل يمتلك كلاماً معهوداً. لذا لا يجترح حلولاً بل يستمع؛ فهذا دوره، وهذه حدود الدور المحكوم بفقر الخيال، وهو ليس مسؤولاً عنه. غير أن كل ما يتكرّر يدلّ بتكراره على تأكيد غياب ما يفصح عنه ضمناً.
ها هي مأساة عالم الوظيفة المحدود، وها هي يومية اعتيادية أخرى لزين وليس لأكرم وحسب. يصوّر الفيلم إذن عالماً مغلقاً من اليوميّات المؤثثة بالضغوط، لتتكشف القضية الثالثة، علاوة على قضيّتي سوء الخدمة وروتين الموظف، في البنية العميقة للفيلم.
المخرج المصري كريم شعبان
هي قضية العزلة والحاجة الملحّة للتواصل والحكي، التسلية وتزجية الوقت لدى الرجل الستيني الوحيد في غرفته أمام شاشة جهاز "البلاي ستيشن". إنه أكرم الذي عبّر عن مدى استيائه من انقطاع خط الشبكة، وعن حجم الضرر الذي لحق بأشغاله جرّاء التأخير في عودتها إلى علبة مسكنه، وحقيقة الأمر أنه يحتاج الخدمة لا لشيء إلا ليكمل لعبته المفضّلة مع لاعبين افتراضيين.
مفارقة ساخرة وصادمة تتظهّر في تقنية الكولاج/ اللصق التصويري لوجهي أكرم المبتهج حالما تمّ إصلاح العطل متيحاً له العودة إلى لعبته، وزين المتأثر بعمق فور إغلاق الخط. وتناوب عدسة الكاميرا بين مشهدي السكون والحركة، البهجة والحزن، حالة الفرح الظاهري الطفلي والمؤقّت لأكرم، ووضعية المتأمل في حاله يمثّلها زين. إنما يبقى السؤال عمّا جعل هذا الأخير يتبدل بتحوّله من وضعية "الناعس" إلى نقيضها: وضعية "الأرِق".
هذا السؤال تماماً استدعى لديّ ترسيمة عوامل التواصل ووظائف الكلام الست التي حدّدها اللغوي رومان جاكوبسون (1896-1982) في تجسيد ما هو مجرّد فنياً وتصويرياً؛ إذ إن فكرة الفيلم مبنية على فعل التواصل، وحالات التلفّظ وسياقاته.
هذا الاستحضار لم يتخذ طريق المحاكاة الدالّة على قصدية المخرج، بل إن التماهي كان من طريق الإسقاط الذي قد تقوم به مخيّلة متلقٍ عليم بهذه التقعيدات اللغوية- الخطابية. باختصار وتبسيط، وُضع المشاهد في قلب تجربة اتصال أصبح خطاباً غير عادي من مرسل (أكرم) وإن تركّز كلامه على موضوع محدّد (المرسلة)، فهو في الوقت نفسه يعبّر عن انفعالاته وضيقه، ويوعز للمرسَل إليه (زين) بإنجاز الخدمة وحلّ المشكلة حلاً جذرياً؛ كيلا تتكرّر في اليوم التالي.
كما ينجز وظيفة تنبيهية بتذكير الموظف بوضعه البائس الذي ليس بمقدوره تحمّله والاستمرار في عمله إلا بوجود محفّزات تسعفه على البقاء: زميلة يحبّها أو صداقات جيدة، قيمة الأجر المُرضية على سبيل المثال، أو حاجة قاهرة للعمل...
بالفن تناول المخرج المصري كريم شعبان قضايا نفسية معقّدة، تمسّ بحياة الإنسان وبيئته، استطاع من خلالها العبور من محدودية التفكير والمخيّلة ومن القضايا الراهنة إلى رحابة التخييل ومتعة الجمال
كما يذكّره بأنه لا يتلفّظ إلا بالجمل المعلومة والملقّنة مسبقاً، وتقال في أي ظرف ولأي عميل، مهما اختلفت الحالة والسياق. هذا التعبير يحيل إلى التمييز بين الكلام بما هو فردي، وتحقق الأداء اللغوي (يبرز لدى أكرم دون زين) وبين الجملة المعزولة عن سياقاتها وموقفها التواصلي، فيغدو بالإمكان تكرارها إلى ما لا نهاية، دون أن تحيل إلى أي واقع (جمل زين المكرورة).
هكذا تحقّقت عبر قناة الاتصال، الوظيفة التنبيهية متعاضدة مع الوظائف التعبيرية والإيعازية والإبلاغية، من غير تجاهل الوظيفة التقعيدية لمفهوم اللغة وبنائها الرموزي. ليتبقّى الأجمل في غائية العمل الفنّي وهو الوظيفة الجمالية.
بالفن تناول المخرج المصري كريم شعبان قضايا نفسية معقّدة، وما يمسّ حياة الإنسان وبيئته، وعبر من المحدودية في التفكير والمخيّلة ومن القضايا الراهنة إلى رحابة التخييل ومتعة الجمال. وقد شارك فيلم "شفت مسائي"، سيناريو وائل حمدي، في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة بالدورة العاشرة لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (26 مارس/ آذار- 1 أبريل/ نيسان 2021). وللمخرج أعمال سابقة منها الفيلم الروائي الطويل "في يوم" 2015.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...