على الرغم من العلاقات القوية التي كانت تربط بين جمهورية ألمانيا الديموقراطية والعرب، وسوريا بشكل خاص، ثمانينيات القرن الماضي، قبل سقوط جدار برلين في عام 1990، إلا أن ولاية ساكسونيا تعتبر من أعلى الولايات الألمانية في نسبة جرائم العنف ضد العرب والمهاجرين في السنوات الأخيرة، بل إن عاصمتها دريسدن شهدت حادثة شهيرة هزت العالم، وهي مقتل الصيدلانية المصرية مروة الشربيني، على يد مواطن ألماني، بـ 18 طعنة داخل قاعة المحكمة في عام 2009.
ولاية ساكسونيا تعتبر من أعلى الولايات الألمانية في نسبة جرائم العنف ضد العرب والمهاجرين في السنوات الأخيرة
تقع ولاية ساكسونيا في أقصى شرق ألمانيا وعلى الحدود مع بولندا وجمهورية التشيك، وعاصمتها دريسدن وأكبر مدنها لايبزيغ، وكانت قبل الوحدة الألمانية واحدة من أهم ولايات جمهورية ألمانيا الديمقراطية "GDR"، خاصة على المستوى الاقتصادي والصناعي، وبعد الوحدة توقفت العديد من المصانع القديمة عن العمل.
أغلقت المناجم وتم استبدال هذه الصناعات بأخرى أحدث، لذلك لا تزال تعد من أهم الولايات في تصنيع الآلات، ولكن على الرغم من تميزها بالنمو الاقتصادي إلا أن نسب البطالة فيها تعتبر مرتفعة مقارنة بالولايات الألمانية الأخرى، وهو ما ساعد على تحولها إلى معقل لحركة اليمين المتطرف والنازيين الجدد.
"Fortschritt" أو "التقدم" هو اسم أحد المجمّعات الصناعية الكبرى التي اشتهرت بها مدينة نويشتات على أطراف ولاية ساكسونيا، في مجال تصنيع الآلات والمعدات الزراعية، والذي تحولت بقاياه في عام 2015 إلى مأوى مؤقت لمجموعة من الشباب السوري طالبي اللجوء إلى ألمانيا، وهو ما أثار فضول ابن هذه المدينة، المخرج الشاب فلوريان كنورت، للبحث في ذاكرة المكان في محاولة لفهم الحاضر والتشابك مع الماضي.
فيلم "التقدم في وادي الجاهلين"
جمع فلوريان في فيلمه الوثائقي الطويل الأول بين عمال سابقين في هذا المصنع، عاشوا مراحل شبابهم تحت ظلال جمهورية ألمانيا الديموقراطية، ويرى أغلبهم أن حياتهم وقتها كانت أكثر راحة وأمناً وسلامة، لذلك يتمسكون بأطلالها وبقايا الذكريات، وعلى الجانب الآخر الشباب السوري الذي هجر وطنه بحثاً عن الأمان وفرص أفضل للحياة بعيداً عن ويلات الحرب.
طبقاً للنظام المتبع في ألمانيا مع اللاجئين السوريين الجدد، عليهم أن يحضروا دورة دمج للتعريف باللغة الألمانية وطبيعة الحياة في المجتمع الألماني، لكن هذه الدورة تتحول إلى دورة لإعادة تجسيد الطقوس المرتبطة بجمهورية ألمانيا الديموقراطية وأمجادها الزائفة
وطبقاً للنظام المتبع في ألمانيا مع اللاجئين الجدد، عليهم أن يحضروا دورة دمج للتعريف باللغة الألمانية وطبيعة الحياة في المجتمع الألماني، لكنها تتحول بعد هذا اللقاء إلى دورة لإعادة تجسيد الطقوس المرتبطة بجمهورية ألمانيا الديموقراطية وأمجادها الزائفة، فيؤدي الشباب السوريون التحية في زيّ اتِّحاد شبيبة إيرنست تيلمان، أمام معلِّمتين سابقتين، ويرتدون الزي الرسمي الخاص بجيش ألمانيا الشرقية، ويؤدون تحية العلم والتمارين العسكرية ويحصلون على أوسمة.
ولا تختلف أطلال هذا المصنع والمناطق المحيطة كثيراً عن أطلال مدينة حلب السورية، التي تركها الشباب خلفهم بعد أن دمرتها الحرب وجعلت منهم مهاجرين، وتلتقطهم عدسة المخرج وهم يعيدون تمثيل حرب الشوارع التي شهدتها حلب، مستخدمين أغصان الشجر كبنادق، فالطرفان يحاولان استعادة ذكريات أوطانهم المفقودة التي لا تختلف ملامحها كثيراً وإن اختلفت اللغة.
وحتى هذه يتجاوزها أحد العمال الذي انتهز فرصة هذا اللقاء ليستعيد اللغة العربية التي تعلمها أثناء إقامته في سوريا في الثمانينيات، عندما كان مصنع "التقدم" يقدم المعدات الزراعية للدولة الشقيقة في ذلك الوقت، ويعلّمهم طريقة استخدامها، ويتذكر المواقع السياحية التي قام بزيارتها وقتها في حلب ودير الزور ودمرت تماماً الآن.
العلاقات مع سوريا
واستخدم المخرج لقطات تسجيلية لزيارة رسمية للرئيس السابق حافظ الأسد في عام 1978، ألقى خلالها رئيس ألمانيا الديموقراطية السابق، إيريش هونيكر، كلمة عن عمق العلاقات مع سوريا، وأعقبها جولة للاثنين بسيارة مكشوفة وسط هتافات وترحيب شعبي، حيث جمعت ألمانيا الشرقية علاقات وثيقة بسوريا.
"ربما من الأفضل أحياناً ألا نعرف... لأننا في هذه الحالة نعيش في سلام... ونكون أسعد حالاً"
بداية من فترة الخمسينيات، ووصل أول الطلاب السوريين إلى ألمانيا الشرقية في عام 1956، وفي العقود التالية أتى الآلاف من الدول العربية للعمل كعمال متعاقدين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وعلى الأغلب أنه بعد حرب الأيام الستة، التي وقفت فيها جمهورية ألمانيا الديمقراطية إلى جانب العرب، توثقت علاقاتها أكثر مع العرب، ما ساعدها على الخروج من عزلتها السياسية الخارجية في هذه الفترة.
وعلى الرغم من العلاقات الودية المتبادلة التي نراها على الشاشة بين الشباب السوري المهاجر وهؤلاء العمال المسالمين، ومحاولاتهم لتعليم الشباب ومساعدتهم على الاندماج في الحياة والعمل في ألمانيا بسهولة، إلا أن شبح العنف يحلق فوق هذه المنطقة الواقعة في أقصى الشرق، وعلى ولاية ساكسونيا كلها، منذ سنوات طويلة، ولطالما كانت محل اهتمام الإعلام بسبب العنصرية وكراهية وجود الأجانب والعرب.
يرصد الفيلم هذا بطريقتين، مرة على لسان أحد الشباب السوريين الذي يشكو لصديقه من بعض الجيران الذين يمارسون العنصرية ضده، حتى أن أحدهم وضع لحم الخنزير في صندوق البريد الخاص به، ويستخدمون أشعة الليزر على نافذة غرفته لإرهابه ليلاً، ونشاهد لقطات أرشيفية لتظاهرة يهتف فيها المشاركون بهتاف "نحن الشعب" الشهير الذي ساهم في انهيار جدار برلين الفاصل بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية في عام 1989.
ولكن يتضح أنها تظاهرة لحركة بيغيدا المتطرفة المناهضة لوجود الأجانب والمسلمين في ألمانيا ،وهى اختصار لعبارة باللغة الألمانية تعنى "وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب"، وظهرت في دريسدن بولاية ساكسونيا منذ نهاية عام 2014.
"الحياة في جمهورية ألمانيا الديموقراطية كانت أكثر أمنا وأكثر راحة"، جاءت هذه الجملة على لسان واحدة من المعلمات، قبل أن تشرح للشباب السوري سبب تسمية دريسدن بـ"وادي الناس الذين لا يعرفون" أو "وادي الجاهلين"، لأنها تقع في أقصى جنوب شرق ألمانيا، وكانت أبعد نقطة عن الحدود مع ألمانيا الغربية.
لهذا لم تكن تصلها إشارات البث الإذاعي والتليفزيوني من الغرب، وطرق الوصول إليها بعيدة جداً، لذلك كانت المعلومات التي تصل أهلها ضئيلة أو قاصرة على ما خضع مسبقاً لرقابة النظام الحاكم، وعلّقت المعلمة الأخرى على هذا بأنه "ربما من الأفضل أحياناً ألا نعرف لأننا في هذه الحالة نعيش في سلام... كنا أسعد حالاً".
يبكي أهالي دريسدن من المسنين على حالهم الآن، ويعتبرون النظام الحالي أكثر وحشية، ويترحمون على زمن كانت له مساوئه لكن ذكرياتهم عنه سعيدة ومثالية، ربما لأنهم كانوا يجهلون ما يحدث من حولهم، على عكس العصر الحالي الذي أصبحت فيه المعلومات متاحة بطرق متعددة، وكثرة المعرفة ربما ترفع من نسب التوتر والقلق، بالإضافة إلى التأثير الكبير لوسائل الإعلام وكذلك السوشيال ميديا، الذي يتم استغلاله في كثير من الأحيان لتأجيج المشاعر وزيادة نيران الحقد والكراهية والعنصرية.
فيلم "التقدم في وادي الجاهلين" المعروض حالياً في الدورة الثانية عشر من مهرجان الفيلم العربي ببرلين، يطرح العديد من التساؤلات عن الماضي والحاضر والذاكرة الجمعية، وأهمية المعرفة في حياتها وتأثيرها أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...