يختبر مسلمون في شهر الصيام مشاعر غاضبة، تكاد تكون قهرية غير مألوفة، ويدخلون في مشاحنات حادة، أطلق تونسيون عليها منذ القدم "حشيشة رمضان".
"حشيشة رمضان" هي ردّة الفعل التي يسلكها الشخص خلال نهار رمضان، متأثراً بالنقص الحاد في السكريات أو النيكوتين، جراء الامتناع عن الأكل، وتدخين السجائر، وشرب القهوة، وبسبب هذا النقص تتحوّل أفعاله إلى سلوكيات أكثر عصبية وعدوانية تجاه الأفراد والمقربين منه، ويسهل دخوله في مشاجرات لأسباب أحياناً تافهة، وأحياناً دون سبب.
انتشر تعبير "حشيشة رمضان" في المجتمع التونسي منذ سنوات، يرى البعض أن بداية استخدامه ترجع لعقود، حتى تحول إلى أداة لإضحاك الناس في شاشات التلفزيون من خلال تصوير إسكتشات كوميدية تحت عنوان "حشيشة رمضان".
جُسدت "حشيشة رمضان" في أعمال كوميدية، وغالباً ما تُبث هذه الأعمال في شهر رمضان بهدف إضحاك الجمهور، فأصبحت كلمة 'الحشيشة' مرتبطة أكثر بالغضب، وعدم القدرة على تمالك النفس.
كلمة "حشيشة" مشتقة في الأساس من مفردة الحشيش (المخدرات)، وانتشرت هذه الكلمة في المجتمع التونسي خلال حقبتيْ العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، أي أثناء فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، وفق ما جاء في رواية "التوت المر" للأديب التونسي الراحل محمد العروسي المطوي، وما يجمع بين الصائم والمحشش، أن كليهما غير مسؤول أو عقلاني في تصرفاته، فهو يقع تحت تأثير ما خارجي.
ما الذي يجمع بين الصائم والمحشّش، هل لحالة الصيام تأثير يشبه عقار الحشيش المخدر؟ لماذا أطلق التونسيون على حالات نفسية واجتماعية للصائمين "حشيشة رمضان"؟
يُعرّف الأستاذ في علم الاجتماع، سامي نصر، حشيشة رمضان بأنها "ظاهرة اجتماعية تغلغلت في المجتمع التونسي منذ عقود، حتى أصبحت في أذهان البعض شرطاً من شروط الصيام ولا يكتمل شهر رمضان دونها".
ويضيف: "لطالما انتشرت تعابير بين الصائمين في تونس من نوع "ابعدني راني مرمضن" (ابتعد عني أنا صائم وغاضب)، وهو ما يعني أن نسبة كبيرة من التونسيين ربطوا الصيام بحالات التشنج، وعدم التحكم في الأعصاب، حتى تحولت حشيشة رمضان إلى عادة متوارثة عبر الأجيال".
في المقابل، يشير نصر إلى أن حشيشة رمضان تتناقض كلياً مع شهر الصيام والصبر والتحمل، يقول: "نقص الأكل وشرب المنبهات، يقابلهما التونسي بالتشنج وأذية الآخرين والإساءة إليهم".
"لا أشعر بالعطش"
"التونسي في رمضان، مسه تسمع حسه (يغضب لأتفه الأسباب)، وتزداد حدّة غضبه، خصوصاً في أزمات السير في الطرقات، وفي الأسواق، وفي الأماكن التي تشهد تجمعات"، يقول عماد (33 عاماً)، سائق سيارة تاكسي.
يصف عماد، وهو يعمل ويعيش في تونس العاصمة، مشهداً يراه كل يوم في شهر رمضان: "أشعر بغضب شديد عندما تختنق الطرقات بالسيارات في أوقات ذهاب الموظفين إلى عملهم أو عودتهم منه، ترى الجميع يهاجمون بعضهم بعضاً بأبشع النعوت".
ويواصل عماد حديثه "لا أشعر بالجوع والعطش في شهر الصيام، لكن جسدي لا يتقبل الانقطاع المفاجئ عن شرب القهوة وتدخين سيجارة، وهو ما يجعلني أشعر بالتوتر والغضب".
يحاول عماد قدر الإمكان تجنب الحديث مع الناس، لكن محاولته تبوء يومياً بالفشل، لا يمكن أن ينتهي اليوم دون أن يدخل في شجار مع أحدهم، إما في الطريق أو في السوق.
لاحظ عماد بحكم عمله كسائق تاكسي في تونس الكبرى أن الخلافات والمشاجرات ترتفع بشكل لافت في الطرقات، وحتى مع الزبائن، خصوصاً في شهر رمضان، مؤكداً أن "الغضب والانفعال سمتان من سمات التونسيين في شهر رمضان".
"أتجنب زوجي"
تعاني عبير من غضب زوجها المبالغ فيه في شهر رمضان رغم أنه معروف بطباعه الهادئة، وهو ما جعلها تحاول تجنبه أو التواصل معه أثناء صيامه.
تقول عبير (40 عاماً) لرصيف22: "زوجي في العادة هادئ ورصين، لكنه يتغير في شهر رمضان، ويصبح حاد الطباع، وسريع الغضب، وينفجر في وجهي ووجوه أبنائه لأتفه الأسباب".
وتواصل: "مرة في شهر رمضان، قالت ابنتي إن الحساء حار، فأجبتها أنه ليس كذلك، فثار زوجي من إجابتي البسيطة، وسكب الطعام على الأرض وسط صدمة كل الحاضرين".
وتضيف عبير: "عندما يعود زوجي إلى المنزل في شهر الصيام، أسارع إلى تنبيه أطفالي كي لا يصدروا أي صوت يزعجه أو يصيبه بالغضب حتى عندما أدخل المطبخ لتحضير الإفطار، أحاول ألا أصدر أي صوت، خوفاً من ردة فعله".
وتقول إنها كامرأة لم تعانِ يوماً من "حشيشة رمضان" بل إنها تقضي شهر الصيام صابرة، وتتحمل الجوع والعطش، وعدم شربها لقهوتها الصباحية، وتستغرب في المقابل سيطرة 'الحشيشة' على عقول الرجال وتصرفاتهم.
في الأيام الأولى
يقر العم منصور (50 عاماً) بمعاناته اليومية مع "حشيشة رمضان"، خصوصاً في الأيام الأولى من شهر الصيام. يقول: "أشعر بالغضب أثناء الصيام، ولا أقدر على تمالك نفسي مع الناس، خاصة في الازدحام، مما يدفعني للتشاجر مع عدة أشخاص يومياً".
يواصل العم منصور حديثه، واصفاً شعوره بحشيشة رمضان: "لطالما تعودت على بدء يومي بشرب قهوتي وسيجارتي في مقهى الحي كي أتمتع بالقليل من النشاط والراحة، ولكن مع شهر الصيام أشتاق كثيراً لسيجارتي ولحبيبتي السمراء (القهوة)، عندما أنقطع فجأة عن شرب المنبهات، أصبح سريع الانفعال، وتكون ردة فعلي عنيفة مع كل من يخالفني الرأي أو يستفزني".
ويضيف: "أدرك جيداً أن حشيشة رمضان تتعارض كلياً مع مميزات شهر الصيام والرحمة، ودائماً ما أشعر بالذنب بعد الإفطار، لكن توقفي المفاجئ عن شرب القهوة أو تدخين السجائر يشعرني بالتوتر والعصبية، لله غفور رحيم".
للرجال فقط
في هذا الإطار، يشير سامي نصر إلى أن "حشيشة رمضان" هي ظاهرة تخص الرجال فقط، وليست نسائية، وأنها "أصبحت بمرور السنوات من العادات والتقاليد، ومن القيم الرجولية، وهذا أكبر دليل على أن هذه الظاهرة نفسية واجتماعية، وليست مرضية".
ويواصل حديثه، مفسراً: "النساء أيضاً يصمن شهر رمضان، وكثيرات منهن مدمنات على التدخين والقهوة، لكن سلوكهن يبقى ثابتاً، في شهر الصيام، ولا يعانين من "حشيشة رمضان"، وهو ما يعني أن هذا السلوك يميز الرجال عن النساء، وكأن رجولتهم يجب أن تكتمل بالـحشيشة، وهنا يدخل أيضاً دور المجتمع الذي يرى أنه يحق للرجل أن "يحشش" في رمضان".
"لماذا لا تتأثر النساء بالحشيشة في رمضان، ولماذا بقيت الحشيشة حكراً على الرجال لعقود من الزمن؟"
ويرى نصر أن كلمة "حشيشة"، لفظ قديم، كان يتمّ استعماله في فترة الاستعمار في تونس، وهي فترة انتشار التكروري (مخدّر مستخرج من مادة القنب الهندي)، معتبراً أن "حشيشة رمضان" سلوك متوارث عبر الأجيال وهو ما يعبر عنه، عالم النفس والاجتماع الأمريكي، جاكوب ليفي مورينو، بالترجمة الذهنية أي إعادة إنتاج العادات والتصرفات التي يقوم بها آباؤنا وأجدادنا في الكبر.
"النساء لا تتأثر بالحشيشة"
من جهته يشدد الشيخ الهادي روشو على أن "حشيشة رمضان" باتت شماعة لأذية الناس والإساءة إليهم، وتعنيفهم لفظياً وبدنياً، والتقليل من روح الشهر الكريم، يقول: "شهر الصيام جاء ليعلمنا الصبر، وكيفية التحكم في غرائزنا وشهواتنا".
وأضاف أن هذه الظاهرة موجودة في مجتمعنا منذ القدم، وهي متوارثة من جيل إلى آخر، رغم أن الاعتداء على الغير يؤذي روح شهر رمضان، مستنداً بذلك إلى حديث للرسول الكريم، جاء فيه: " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب، فإِن شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صَائم".
وتساءل: "لماذا لا تتأثر النساء بالحشيشة في رمضان، ولماذا بقيت الحشيشة حكراً على الرجال لعقود من الزمن؟".
وأجاب: "الإنسان قادر على تحمل شهر الصيام بما أن المرأة تتحمل وتقاوم وتصبر لساعات طويلة".
واختتم الشيخ قوله، مشدداً على المعنى الروحي والإنساني لشعيرة الصيام: "تعاليم الدين الإسلامي جاءت لإخراج الإنسان من الغريزة الحيوانية إلى دائرة الإنسانية، وهو مدرسة للتربية والتوعية، وأنه من العيب أن نتحول إلى وحوش بمجرد توقفنا لسويعات قليلة عن شرب القهوة وتدخين السجائر".
ورغم ارتفاع منسوب العنف في شهر رمضان، لا توجد إحصاءات رسمية حول هذه الظاهرة، لكن في المقابل تشير الإحصاءات الحديثة إلى ارتفاع منسوب العنف بصفة عامة بنسبة بلغت 63.3 % خلال سنة 2020.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...