أخبر رامي طبيبه: "منذ أن كنت مراهقاً، وأنا لا أشعر أنني بخير أبداً، بعيدٌ عن أماكن التجمعات، وحزين دائماً. مررت بمرحلتين صعبتين للغاية في السنوات الماضية، إحداها عندما اشتدت الأعمال القتالية في العاصمة دمشق، وما تبعها من سقوط قذائف هاون عشوائية على المدنيين، فقد كدت أقتل بسبب قذيفة، والثانية بعد أن تخرجت من الجامعة وصرت عاطلاً عن العمل والأمل في آن معاً. اسودت الدنيا في عيني وزادت عزلتي الاجتماعية".
مع تفاقم وضعه النفسي، بدأ إحساس الندم يأكل رامي يوماً بعد يوم، كما يتحدث لرصيف22، وبدأت الحوارات الداخلية تتصارع في رأسه: "لمَ لمْ أسافر ككل أصدقائي؟ فها هم يعيشون أجمل عيشة في أوروبا. لمَ لمْ أتخذ هذا القرار؟ ويوماً بعد يوم ازداد جلدي لذاتي، حتى أقدمت على محاولة الانتحار عن طريق تناول الأقراص الدوائية، إلا أن تلك الطريقة لم تنفع معي بسبب تقيؤ الدواء".
يقيم رامي اليوم في منطقة المزة القديمة، غرب دمشق، ويعمل محاسباً بمحل ألبسة، وبراتب لا يتجاوز مئة ألف ليرة (ثلاثون دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، ولا زالت هذه المشاعر تعتريه كل يوم دون توقف.
اكتئاب وقلق واضطرابات
يقول الدكتور ثائر حيدر، وهو اختصاصي في الأمراض النفسية والعصبية: "أكثر الحالات التي تتردّد إلى عيادتي هي الاكتئاب، القلق، اضطرابات النوم واضطراب الكرب ما بعد الصدمة أو اضطراب الشدة ما بعد الرض، إضافة إلى حالات الإدمان على المخدرات والحبوب المهدئة والحشيش، وحالات الذهان والفصام واضطراب الوسواس القهري. هي أمراض كانت موجودة قبل الحرب لكنها تزايدت بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو أمر طبيعي نسبة لظروف الحرب التي عانى منها الجميع".
يعاني سوريون كثر اليوم من اضطراب النوم، القلق، الاكتئاب، الشعور بالعزلة والإحباط والحزن.
وفي دراسة نشرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العاشر من آذار/ مارس الجاري، تحدثت عن الخسائر الفادحة التي تكبدها السوريون، خاصة الشباب، خلال السنوات العشر الأخيرة، مع فقدان الأحبة وضياع الفرص وفقدان السيطرة على المستقبل. كما أوضحت تأثيرات النزاع السوري على الصحة النفسية، مع المعاناة من اضطراب النوم، القلق، الاكتئاب، الشعور بالعزلة والإحباط والحزن.
ويشير الدكتور حيدر، وهو يمتلك عيادة في منطقة الطلياني وسط دمشق، إلى أن الخجل من التوجّه للطبيب النفسي بات أقل بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وفي الجهة المقابلة، فإن كثيرين باتوا يتوجهون لتعاطي الحبوب المهدئة دون استشارة طبيب، أملاً في أن تكون هي الحل لآلامهم النفسية.
هذا ما أكده جهاد، وهو رجل خمسيني يعيش ببلدة جرمانا شرق دمشق، تحدث لرصيف22 قائلاً: "صارحت الطبيب أنني ألجأ الى تعاطي الحبوب المهدئة لأسيطر على مشاعر القلق التي تنتابني، إلا أن موضوع التعاطي خرج عن سيطرتي، وبدأت أشعر وكأنني مدمن على تلك الحبوب".
أخبر جهاد طبيبه النفسي بأنه قلق من الاستمرار في الحياة، وبأنه وصل إلى مرحلة شعر فيها بأن وجوده عبء ثقيل، ويتابع: "بدأت تنتابني أفكار عن الانتحار وسهولة الموت مقابل الظرف المعيشي السيء الذي أعيشه، رغم أنني صاحب شركة دعاية صغيرة ولا زلت قادراً على دفع مصاريف شركتي وعائلتي، لكن لطالما تساءلت: ماذا لو أفلست بين ليلة وأخرى؟ فشركات كبيرة أغلقت وأنا لن أكون بمنأى عن هذا المصير في الفترة القادمة. وبذلك ازدادت آلامي الجسدية، التي لم أعد قادراً على التخلص منها حتى مع تعاطي المسكنات والمهدئات".
يقول جهاد بأنه ليس نادماً أبداً على زيارة الطبيب النفسي: "أظن أنني بدون مساعدته في السيطرة على مشاعر القلق التي كانت تنتابني، لكنت الآن في عداد المنتحرين، فالخوف والقلق من المجهول اللذان نعيشهما اليوم في سوريا يفوقان قدرة الإنسان على التحمل".
ثمن البطالة سيجارة حشيش
غيداء شابة في نهاية العشرينيات من عمرها، تعاني من البطالة مذ تخرجت من كلية الصحافة، كما خسرت والدها وتهدّم منزل عائلتها نتيجة الحرب، وتعيش مع أمها في إحدى المناطق العشوائية غرب دمشق.
أخبرت غيداء طبيبها النفسي في إحدى الجلسات: "بدأت بالإدمان على الحشيش، عندما عرضت عليّ صديقتي سيجارة لتهدئتي بعد أن انفجرت في نوبة بكاء حادة، إثر فشلي في الحصول على وظيفة بعد أن تقدمت إلى مقابلة عمل. رفضي في تلك الوظيفة التي كنت بأمس الحاجة لها كان بمثابة قطرة أفاضت الكأس المترعة، عانيت كثيراً حتى استطعت الإقلاع عن تدخين الحشيش"، كما تقول في حديثها لرصيف22.
لمَ لمْ أسافر ككل أصدقائي؟ فها هم يعيشون أجمل عيشة في أوروبا. لمَ لمْ أتخذ هذا القرار؟ ويوماً بعد يوم ازداد جلدي لذاتي، حتى أقدمت على محاولة الانتحار عن طريق تناول الأقراص الدوائية، إلا أن تلك الطريقة لم تنفع معي بسبب تقيؤ الدواء
أما ريتا، وهي طالبة ماجستير ترجمة عمرها 29 عاماً، فتعاني من التفكير الزائد، أو ما يسمى بـ "الأوفر ثينكينغ"، وتقول في لقاء مع رصيف22: "طلبت من طبيبي منذ اللحظات الأولى التي رأيته فيها، أن يعطيني حبة دواء أو حقنة تُوقف دماغي عن التفكير. أفكر وأنا آكل، أفكر وأنا أمشي، وأنا أعمل وأنا أطهو، حتى وأنا نائمة أفكر، تعبت وتراجعت صحتي الجسدية وتأخرت في دراستي، لا أستطيع إيقاف نفسي عن التفكير".
وتحدثنا ريتا، وهي تعيش بالإيجار مع والديها في حي القصاع شرق دمشق، عن أسباب ذلك: "لا أعلم إن كنت سألحق بزوجي إلى ألمانيا فأوراق لمّ الشمل تأخرت كثيراً. ماذا لو حصل له مكروه قبل أن أسافر؟ كيف ستكبر ابنتي بلا أب، بلا غذاء مناسب، بلا نقود؟ ماذا لو لم أجد عملاً؟ ماذا لو لم أحصل على الماجستير؟ ماذا لو ارتفع إيجار منزلي؟ ماذا لو توفي والداي وأنا بعيدة عنهما؟ من سيقوم بواجب الدفن؟ فإخوتي كلهم خارج سوريا. هل سأمكث في سوريا حتى آخر عمري؟ أفكر بأشياء سلبية نسبة حصولها ضعيفة جداً، ولا أستطيع منع نفسي عن التفكير".
وحيد في بلدي
أما سمير فقد شكلت الأيام الأولى للعلاج صدمةً له، رغم أن الطبيب حذره وطلب منه الانتظار أسبوعين ليأخذ الدواء مفعوله، روى الشاب قصته للطبيب: "بعد أن عجزت عن تجديد إقامتي في الخليج، وبعد أن انعدمت فرص العمل، وجدت نفسي، منذ حوالي ستة أعوام، عائداً على أول طائرة إلى دمشق بعد أكثر من عشر سنوات من الغربة. توقعت أن أصمد أكثر من ذلك في بلدي، ولم يخطر في بالي ولا مرة أن ألجأ لطبيب نفسي ليخفف عني".
يشتاق سمير، كما يقول في حديثه لرصيف22، إلى ماض يشعر وكأنه بعيد جداً، ويضيف: "أشتاق إلى وقت كان رفاقي ينتظرون إجازتي الصيفية حتى نجتمع من جديد. كنت أعود سنوياً محملاً بالهدايا لهم، هكذا كانت حياتي. أما اليوم أنا أعيش في غرفة في دمشق القديمة، بعد أن تهدم بيتي الذي صمدت ثمنه من عملي في الخليج. والداي متوفيان، وحرفياً رفاقي وأقاربي كلهم سافروا، أشعر بوحدة قاتلة".
المعالج النفسي صديق السوريين اليوم
تقول آية خباز، وهي معالجة نفسية تعمل ضمن مشفى الأسدي بدمشق: "الصعوبة في عمل المعالج النفسي، خاصة في بلاد تعاني من كوارث كبيرة، هي في إقناع المريض بأن الأمل موجود وأن لكل مشكلة حل، خاصة وأن أغلب زوار العيادات النفسية السورية اليوم يعانون من صعوبات على المستوى المادي والنفسي والاجتماعي والمهني. في مجمل الحالات، يزيد العلاج السلوكي والدوائي من قدرة المريض على التأقلم مع صعوبات الحياة. هذه الصعوبات لن تختفي، لكن العلاج سيغير نظرة المريض للأمور ويعزز قدرته على التأقلم أو التكيف مع الظروف الصعبة".
أشتاق إلى وقت كان رفاقي ينتظرون إجازتي الصيفية حتى نجتمع من جديد، وكنت أعود سنوياً محملاً بالهدايا لهم. اليوم أعيش في غرفة في دمشق القديمة، بعد أن تهدم بيتي الذي صمدت ثمنه من عملي في الخليج. والداي متوفيان، وحرفياً رفاقي وأقاربي كلهم سافروا، أشعر بوحدة قاتلة
وتؤكد المعالجة الثلاثينية على ضرورة طرح ثلاث أسئلة على كل مريض يأتي إلى عيادها: "هل أنت حزين كل الوقت، وهل أنت فاقد المتعة بكل شيء كل الوقت وهل تفكر بالموت؟"، وهنا يتم استبدال كلمة انتحار بكلمة موت لتلطيف السؤال، والإجابات على هذه الأسئلة هي التي تحدد تحويل ملف المريض إلى طبيب نفسي لتلقي الدواء أم لا.
بعد عشر سنوات من الحرب الطاحنة في سوريا، برهن الطبيب النفسي أنه صديق صادق وبالغ الأهمية للسوريين، وهو ما أشارت إليه دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إذ ذكر السوريون المشاركون فيها أن الحصول على الدعم النفسي هو من أهم احتياجاتهم اليوم. لا ينكر كل من رامي وجهاد وغيداء وريتا وسمير وكثر غيرهم فضل العيادات النفسية، وما تركته من أثر إيجابي في نفسهم، بل لها الفضل في تعليمهم التكيف مع المواقف التي تزداد صعوبتها يومياً وبشكل متسارع، داخل بلاد طحنتها الحرب القاسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 16 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت