رغم الإعلان عن توقف العمليات العسكرية في درعا، في تموز/ يوليو 2018، بموجب عملية تسوية شاملة برعاية الروس، إلا أن المحافظة الواقعة جنوب سوريا لم تغب عن أخبار التوترات الأمنية الآتية من البلد الذي أثقلته الحرب التي اندلعت بعد ثورة 2011، وعادةً ما يكون عنوانها الاغتيالات.
وكان الروس قد روّجوا لعملية التسوية على أنها نهاية لمرحلة الاقتتال الدامي الذي عانت منه المحافظة وأهلها، وبداية لسلام في منطقة بقيت مشتعلة لسنوات، لتكون نموذجاً للاستقرار في سوريا يمكن أن يعمّم على بقية المناطق.
نصت بنود اتفاق التسوية الذي وُقّع عليه في قلعة بصرى الشام، معقل "قوات شباب السنّة"، واحدة من أكبر فصائل المعارضة في الجنوب، والتي ستتحول لاحقاً إلى ما يُعرف باللواء الثامن التابع للفيلق الخامس الروسي، على إنهاء القتال بين فصائل المعارضة وقوات النظام السوري.
وقدّم الاتفاق تسوية لكل مقاتلي الفصائل المعارِضة وللمدنيين قامت على أساس عدم ملاحقتهم أمنياً عدا المطلوبين بجرائم جنائية يعاقب عليها قانون العقوبات السوري، كما تعهّدت بإعادة الموظفين الحكوميين المفصولين من عملهم إلى وظائفهم، وإعادة الخدمات الأساسية للأهالي، والعمل على إطلاق سراح المعتقلين من أبناء المحافظة.
ولكن بعد مضي أكثر من سنتين على الاتفاق، لم يتحقق إلا جزء بسيط جداً من بنوده، في حين ينكث النظام بين حين وآخر به بطريقة تدلّ على عدم رضاه عنه، فدرعا من وجهة نظره كانت الخاصرة التي لطالما أوجعته بشدة.
حتى الروس بدأوا بفقدان السيطرة تدريجياً على ما يجري على الأرض وهم مَن أرداوا الظهور بمظهر القادر على إحلال السلام في ظل غياب أي دعم غربي أو عربي لإيجاد حل حقيقي للكارثة السورية.
مدخل إلى الفوضى
كانت عملية التسوية في درعا مدخلاً لتغلغل العديد من الأطراف في المنطقة، فالروس الذين قادوا العملية تركوا الباب مفتوحاً عن قصد أو غير قصد لدخول إيران وميليشياتها كلاعب رئيسي في المحافظة، إذ استطاع الإيرانيون، عبر ذراعهم حزب الله اللبناني، استقطاب ما يزيد عن ألفين من أبناء المحافظة خلال الأشهر الأولى التي تلت الاتفاق، مستغلين بقاء معظم مقاتلي الفصائل السابقة دون عمل ومقدّمين لهم مغريات على شكل رواتب تصل إلى نحو 300 دولار شهرياً.
ونتيجة لذلك، صارت درعا مقسّمة بين طرفين رئيسيين: الروس ويمثلهم اللواء الثامن ومقرّه في مدينة بصرى الشام وينتشر في معظم مناطق ريف درعا الشرقي؛ وإيران وميليشياتها وتمثلهم الفرقة الرابعة التابعة لجيش النظام والتي بدأت في الأشهر الأخيرة ببسط سيطرتها على ريف درعا الغربي، ابتداءً من ضاحية اليرموك في مدخل مدينة درعا الغربي وصولاً إلى منطقة حوض اليرموك المحاذية للحدود الأردنية في ريف درعا الغربي، والتي كانت المعقل الرئيسي لجيش خالد بن الوليد التابع لتنظيم داعش.
كما يسيطر حزب الله، من خلال عناصر محليين جنّدهم، على معظم منطقة اللجاة، شمال شرق درعا، وهي من أهم مناطق تهريب الأشخاص والسلاح والمخدرات.
في المقابل، بقيت بعض المناطق محسوبة على المعارضة التي دخلت في عملية التسوية وفي تفاهمات مع الروس والفرقة الرابعة نصّت على عدم دخول مناطقها، وأبرزها منطقة درعا البلد، ومدينة طفس في ريف درعا الغربي.
كانت عملية التسوية في درعا مدخلاً لتغلغل العديد من الأطراف في المنطقة، فالروس الذين قادوا العملية تركوا الباب مفتوحاً عن قصد أو غير قصد لدخول إيران وميليشياتها كلاعب رئيسي في المحافظة
ولا يزال العديد من عناصر تنظيمي داعش وحراس الدين التابع لتنظيم القاعدة يتواجدون في مناطق مختلفة على شكل مجموعات صغيرة، أبرزها منطقة تلول الصفا بين درعا والسويداء، وفي ريف درعا الغربي بشكل أقل، وبالقرب من منطقة الجيدور شمال درعا.
مَن يغتال مَن؟
ارتبطت درعا في الأعوام الثلاثة الماضية بعنوان الاغتيالات. وقال أبو محمود الحوراني، الناطق باسم تجمع أحرار حوران، لرصيف22، إن مكتب التوثيق في التجمع وثّق منذ بدء عملية التسوية في درعا في تموز/ يوليو 2018، وحتى نهاية آذار/ مارس 2021، ما لا يقل عن 617 عملية اغتيال، نتج عنها مقتل 439 شخصاً، من المدنيين والفصائل السابقة وعسكريي النظام ووجوه التسويات.
وتسجّلت أعلى نسبة من العمليات في شهر شباط/ فبراير 2020 بواقع 37 عملية، بينما تسجّلت أعلى نسبة من القتلى في شهريْ أيار/ مايو، وآب/ أغسطس 2020، بواقع 30 قتيلاً في كل منهما.
لا تقتصر عمليات الاغتيال في المحافظة على فئة دون أخرى، بل تستهدف مختلف الأشخاص، من مختلف الخلفيات والتوجهات، في ما يشبه الفوضى. ولكن يمكن تقسيم الاغتيالات إلى أربع فئات، حسب المصالح، كما يقول الإعلامي باسل الغزاوي لرصيف22:
الأولى، وتتضمّن العدد الأكبر من الاغتيالات، هدفها شخصيات ترتبط بالنظام، كالمجندين من أبناء المحافظة في صفوف الفرقة الرابعة، أو شخصيات لها علاقة أو صلة بالنظام أو تعمل لخدمته.
منذ بدء عملية التسوية في محافظة درعا السورية، في تموز/ يوليو 2018، وحتى نهاية آذار/ مارس 2021، وقع ما لا يقل عن 617 عملية اغتيال، نتج عنها مقتل 439 شخصاً، من المدنيين والفصائل السابقة وعسكريي النظام ووجوه التسويات
الثانية، تطال شخصيات محسوبة على المعارضة، وهؤلاء استُهدفوا عدة مرات، كالشخصيات التابعة للجان المركزية. واللجان المركزية هل أطر تشكّلت عقب اتفاق التسوية في محافظة درعا، وتضم شخصيات من قادة فصائل سابقين ووجهاء من المحافظة ورجال دين ومثقفين، ومهمتها التواصل مع النظام والروس لمتابعة تنفيذ اتفاق التسوية، ولحل أي مشاكل قد تنشأ في المحافظة.
الثالثة، سببها صراعات بين تجار مخدرات، أو صراعات نفوذ في المنطقة، علماً أن تجار المخدرات مرتبطون بشكل مباشر إما بالفرقة الرابعة أو بالأمن العسكري أو بالمخابرات الجوية، وحين يُغتال أي تاجر عادةً ما يكون الأمر صراعاً على النفوذ بين مشغّلي هؤلاء التجار الأمنيين أو العسكريين.
الرابعة، وهي محدودة، ترتبط بالثأر، وسببها عادةً خلافات شخصية.
وأضاف الغزاوي، وهو أحد أبناء درعا، أن النظام يستفيد من بعض هذه العمليات وليس منها جميعاً، إذ تمنحه ذرائع لتنفيذ عمليات عسكرية، كما في واقعة الكمين الذي تعرّض له عناصر من الفرقة الرابعة قرب بلدة المزيريب في ريف درعا الغربي في 16 آذار/ مارس الماضي، حين روّج النظام أن عناصر من داعش قاموا بتصفية عناصر الفرقة الرابعة، وتعهّد بتنفيذ عملية عسكرية في المنطقة، إلا أن هذه العملية لم تُنفّذ حتى الآن بسبب الرفض الروسي لها.
وأشار الغزاوي إلى الدور الذي يلعبه داعش في هذه العمليات. فبعد إعلان النظام في آب/ أغسطس 2018 تطهير محافظة درعا من التنظيم واعتقال العشرات من أعضائه في معقلهم في حوض اليرموك، انتسب قسم منهم للفرقة الرابعة والأجهزة الأمنية التابعة للنظام، وهؤلاء يستهدفهم التنظيم.
وهناك عمليات نفّذها التنظيم بالفعل وتبنّاها، ولكن منذ نحو عام لم يتبنى أي عملية، على الرغم من استمرار عناصره بالتحرك وبتنفيذ بعض العمليات. ويتحدث البعض عن تعقيدات في المشهد الأمني وعن استخدام النظام بعض عناصر داعش لتنفيذ عمليات لصالحه.
مَن المستفيد؟
في إحدى العمليات التي جرت في 26 شباط/ فبراير 2019، واغتيل فيها عضو في اللجنة المركزية لريف درعا الغربي الشيخ علاء الزوباني في بلدة اليادودة، اعترف شخص يُدعى رأفت النحاس أمام مقاتلين محليين، وفي فيديو صوّره، بتنفيذ العملية برفقة شخص آخر وبأمر من شخصية تعمل بشكل مزدوج لصالح حزب الله اللبناني والمخابرات الجوية السورية.
والنحاس الذي وُجد مقتولاً في وقت لاحق كان قبل عملية التسوية مقاتلاً في صفوف حركة جهادية تُدعى "صدق وعده"، يقودها شخص يدعى يوسف عثمان، وكانت تابعة لجيش خالد بن الوليد التابع لتنظيم داعش.
بعد عملية التسوية، أنشئ ما يُعرف بـ"مكتب أمن الفرقة الرابعة" في محافظة درعا، بقيادة المقدّم محمد العيسى، وهو أحد ضباط الفرقة الرابعة المتهمين بارتكارب جرائم حرب في غوطة دمشق الغربية، وعُيّن رئيساً لهذا المكتب بعد إصابة بالغة تعرّض لها في الغوطة في إحدى ساقيه.
ويؤكد مصدر مطلع على عمل المكتب لرصيف22 أن العيسى جنّد العديد من أبناء درعا بغرض إجراء تحريات شاملة عن الشخصيات المعارضة، وقادة فصائل المعارضة وعناصرها من المقاتلين الرافضين للتسوية، ورفعها إلى قيادة الفرقة الرابعة وإلى الفروع الأمنية.
وأضاف المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته أن هذه التحريات تسهم إلى حد كبير بتحديد الشخصيات المعارِضة التي تُستهدَف بعمليات الاغتيال.
من جهته، أكد الغزاوي أن تحديد الأهداف يقوم به بشكل غير مباشر ضباط من النظام، مسمّياً بعضهم: رئيس فرع الأمن العسكري العميد لؤي العلي، قائد قوات الغيث في الفرقة الرابعة العميد غياث دلا، ورئيس مكتب أمن الفرقة الرابعة المقدم محمد العيسى.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، اغتيل شاب من عائلة المسالمة، تم التحفظ على اسمه، لأنه اكتشف قيام الفرقة الرابعة بحفر نفق قرب الحدود الأردنية، جنب ما يُعرف بـ"القاعدة الصاروخية". وقامت خلية اغتيالات في ريف درعا الغربي باغتياله بوصفه "عميلاً للنظام"، دون أن تدرك أن مصدر المعلومات التي وصلتها هو المقدم محمد العيسى.
وهنالك عدة مجموعات معارِضة تنفّذ عمليات اغتيال، ولا تعرف بعضها، وكل مجموعة تعتمد على مصدر زرعته في دوائر النظام، وعندما ينكشف هذا المصدر يُستخدم في تمرير معلومات خاطئة للتخلص من أشخاص يشكلون خطراً على مخططات النظام.
عمليات اغتيال كثيرة جرت ولم يُعرف منفّذوها حتى الآن، وبعضها فتحت الباب لعدة احتمالات من خلال مؤشرات مختلفة حول الجهة التي نفّذتها.
في 21 كانون الثاني/ يناير الماضي، اغتالت مجموعة عضو اللجنة المركزية في ريف درعا الغربي الشيخ محمود الإبراهيم، بإطلاق النار عليه أمام منزله في بلدة المزيريب.
وقال نجله حذيفة الإبراهيم لرصيف22 إن المجموعة التي نفّذت العملية كانت مكوّنة من عدة أشخاص، يستقلّون سيارة من نوع "تويوتا هايلوكس" وأربع دراجات نارية، ولاذوا بالفرار عقب العملية.
وأضاف أن هناك روايتين حصل عليهما حول اغتيال والده: الأولى أن المجموعة تابعة لداعش، والثانية أنها تابعة للمخابرات الجوية وحزب الله اللبناني وهي ذات المجموعة التي اغتالت الشيخ الزوباني قبل ذلك بنحو عامين.
ولكن حتى الآن، لم يتم التأكد من الجهة التي نفّذت هذه العملية. وهذا ما يقاس على العديد من العمليات التي لا تزال تحدث بشكل شبه يومي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...