تتعدد المحاور التي يمكن الحديث عنها في الكتابة عن رواية "صُراح" للروائية السورية منهل السراج، الصادرة عن داري سرد وممدوح عدوان. لكن الخصوصية الأساسية التي تمتلكها الرواية هي قدرة الكاتبة على رسم معالم وسمات وحكاية امرأة، مُغامِرة جنسية، أمّ، كاتبة، تملك رؤية سياسية واجتماعية للأحداث التي يعانيها المجتمع السوري، بالإضافة إلى كونها مهاجرة لجأت إلى السويد. أما اسم العلم (صُراح)، الذي تختاره المؤلفة لبطلة روايتها، فهو يعني الصافي، الخالص من الشوائب، وكذلك الصريح.
المُغامرة الجنسية
تعددت الزيجات في ماضي صُراح، ولكنها في الحاضر تحررت من كل تلك الزيجات. تبدأ الرواية وصُراح قد انتقلت من حماه فبيروت، لتقيم في السويد وتقدم على طلاق آخر أزواجها. هي الآن امرأة أربعينية: "كل ما ترغب فيه وتفعله وتحتاج إليه هو ارتكابات صغيرة، أن تحب رجلاً متزوجاً وتذهب برفقته إلى مكان بعيد عن الأنظار، والأفق صاف"، هي تشعر بتلك الوحدة التي تصيب المهاجرين عند وصولهم إلى المجتمعات الجديدة: "وحين يمضي الناس إلى أعيادهم ويزدحمون في الأسواق، يداهمها أرق من وحدتها، كأن العجز يتشخص مواجهاً في أعياد البلد الذي سافرت إليه وظلت فيه".
عندما تتحول القيم والمبادئ والأخلاق في المجتمعات العربية إلى قيود لا بدّ من نقضها والتحرر منها... هذا ما تقدمه رواية "صُراح" في قصة امرأة، مُغامِرة جنسية، أمّ، وكاتبة
الثورة والهجرة أثرتا بعمق في شخصيتها، في فكرها، وفي صورة صُراح عن نفسها، فلم يعد يعنيها مثل السابق أن تتمسك بما يسمى قيماً ومبادئ، صارت هذه الأخلاق قيوداً. وقد تجاوزت تلك التشنجات التي تطلق عليها أخلاقاً عربية، وتراها أنها مجرد انفعالات نفسية وُجدت كي تشجع على نقضها.
"الارتكابات الصغيرة" بين حماه السورية والسويدية
تواجه صُراح تغيراً في صورة المرأة بين ثقافتين، ففي درس اللغة السويدية مثلاً، تكتشف صُراح أن بنطلون المعلمة ملوث بدم الدورة الشهرية، ومع ذلك تكمل المعلمة تقديم الدرس وعملها، فيما دائرة الدم تتوسع على بنطالها. هي واحدة من نماذج تغير صورة المرأة بين ثقافتين في ذهن صُراح. هذا ما يشجعها للإقدام على ما أسمته "الارتكابات الصغيرة"، فيتابعها القارئ في أحد المساءات، وهي تحاول أن تلتقط رجلاً في المدينة، حتى وإن أودت به إلى جهنم أو الغياب: "تبرجت وسحبت جواربها النايلونية على ساقيها، لم تحضر حذاء بكعب عالٍ، ولكن بوط الرياضة يمكن أيضاً أن يولد اشتهاءات. جلست في صالة الفندق، وقد شمرت عن ركبتيها، تنظر هنا وهناك".
"تبرجت وسحبت جواربها النايلونية على ساقيها، لم تحضر حذاء بكعب عالٍ، ولكن بوط الرياضة يمكن أيضاً أن يولد اشتهاءات. جلست في صالة الفندق، وقد شمرت عن ركبتيها، تنظر هنا وهناك"... عن "الارتكابات الصغيرة" في حياة صُراح، شخصية الرواية التي تحمل اسمها، من تأليف الكاتبة السورية منهل السراج
تتكاثر في الرواية مغامرات صُراح الجنسية مع علاقات عابرة وسريعة، تحجب نفسها عن العلاقات العاطفية كالحب، ذلك أنها قد كرست نفسها للكتابة، لذلك لا تستجيب للمشاعر التي يبثها إياها "جبران"، مهاجر سوري يعمل في مكتبة في السويد: "جبران يتوق إلى صُراح، وصُراح تتوق إلى الكتابة، إلى حرية التعبير والكتابة". حتى نهاية الرواية، لا يتضح للقارئ مصير العلاقة العاطفية بين صُراح وجبران، لكن الأكيد أن صبر جبران وتصميمه على تبادل الحب والعلاقة مع صُراح، يبقيانه الذكر الأكثر قرباً من حياتها حتى السطور الأخيرة من الرواية.
لا تكتفي بهوية الأمومة
صُراح أم لثلاثة، نور 11 سنة، رجا 8 سنوات، وماسة 3 سنوات، هم حصيلة زيجاتها السابقة، هي على علاقة إشكالية مع الأمومة، فقد كرست الكثير من جهدها ووقتها للتربية، لكنها الآن تشعر برغبة في الاستقلالية، حين تشرف على الستينيات من عمرها، تعلن لأولادها أنها اعتنت بهم بما يكفي.
والآن تشعر برغبة الانسحاب المنهك من تربيتهم والاعتناء بهم: "أشعر أن أحوالي مثل حال الشعب السوري، لم يعد يجدي في حربه القتل أو القصف أو التهديد، لأنه ميت، فمن يريد أن يُرضخ ميتاً؟"، منذ زمن لا تشعر صُراح بأن هوية الأم كافية لها، فهوية الكاتبة هي التي تتغلب على ذاتها. مثلاً، تشعر ابنتها نور أن كتب والدتها هم أبناؤها الحقيقيون أما الأولاد فهم عابرون. وحين تسألها ابنتها: "ماما، لماذا لا تتزوجين؟"، تجيب صُراح: "متزوجة من الكتابة".
هوية صُراح ككاتبة تحتل القسم الأكبر من مساحة الرواية، لديها خمسة كتب وثلاث مسودات غير منشورة، كانت تكتب عن تاريخ مدينتها حماه والأحداث التي عايشتها المدينة منذ 1982، كما كتبت عن الأديان: "لم يكن الدين يشغلها لكن الطائفة. تراقب الاختلافات بين القرى المسلمة والمسيحية والقرى ذات الطوائف، وكانت تتساءل بصراحة وعبر رواياتها عن سبب التمييز بين الأديان ومعتنقيها، كانت كأنها تمهد للتدين أو الخروج من تدين المراهقة، طالما فكرت أن الدين مدرسة ضرورية لفهم الوجود".
الجحيم السوري
يتعرف القارئ على الأزمة التي تعانيها صُراح مع الكتابة منذ اندلاع العنف في سورية، فقد تغيرت قدراتها الإنتاجية، كما لو أنها فقدت إلهامها. منذ الأسطر الأولى من الرواية نكتشف أزمة صُراح في إنهاء روايتها، فعبثاً تحاول العثور على الجملة الأخيرة لإنهاء الرواية، لكن البحث على هذه الجملة سيكلفها التفكير بكل هواجس الكتابة، أساليب الكتابة، هوية الكاتبة، لتجعل الراوية من الكتابة موضوعاً أساسياً لها. كأن القارئ يدخل في المونولوجات والأفكار الذهنية لعقل كاتب، وهكذا تحمل الرواية أكبر قدر من المتعة لها.
لم تكن صُراح تعاني في الكتابة قبل سنوات الجحيم السورية، كان المقال يكتب بوقت قصير، والرواية ترضيها، ما إن تخط بضعة سطور فيها. لكنها الآن تعجز عن كتابة الخوف والقلق والطموح. تعذرت عليها الكتابة وكلما قاربت أن تنهي منجزاً، تجد نفسها ترواح في المكان مجدداً. فتسترجع دوافع الكتابة في بداياتها. ما الذي دفعها للكتابة في بداياتها: "كان واجبها الباطني يقول: خوضي التجربة والتضحية لكي تنالي بعد ذلك قسطاً من.. هل كان قسطاً من المعرفة، أم من التطور والتغيير، أم قسطاً من الحرية، أم من الشهرة والبهجة؟ كان كل هذا".
لا يحاسب صُراح أحد، ولا يسألها أي إنسان أين أنت ولماذا لا تكتبين؟ ولكنها تشعر بهذا الواجب، تشبه الأمر وكأن القلم يقول لها: "انطلقي، اركضي". وتتركنا الرواية في الخاتمة دون معرفة النتيجة النهائية لهواجس صُراح حول الكتابة، يتركها القارئ وهي في تلك الدائرة بين الرغبة في الكتابة وبين العجز عنها، كما وصفتها المؤلفة في إحدى عبارات الرواية: "صُراح تحاول أن تملأ في الرواية، وتحنّ وتقاتل وتناقش وهي في صلب الصراع مثل عملاق محبوس"، هذه الصورة الأخيرة المرتسمة في ذهن القارئ وهو يترك صُراح في محاولات الكتابة المستمرة.
تكتسب رواية "صُراح" أهميتها من قدرتها على ابتكار شخصية أنثوية تمتلك هذا العدد من مرايا الهوية، من الأم غير المكتفية بهوية الأمومة، إلى المجربة الجنسية التي ترغب باختبار شهوانيتها من خلال المغامرات، والأهم هو صورة الكاتبة المهمومة بأسئلة الكتابة وموضوعاتها. كما أن المؤلفة منهل السراج تقترح في أسلوبها الأدبي لغة خاصة، على مستوى إيقاع وتركيب الجملة، وتثبت قدرتها على الالتزام بها والسرد عبرها ببنية متينة متماسكة تمتد على كامل صفحات الرواية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع