"يتماثل مسار معرفة الأمهات اللواتي شاركن في البحث عن تجارب الأولاد الجنسيّة والجندريّة المختلفة مع مراحل ومسار التعامل العاطفي مع الفقدان، لا لكون هذه التجارب ناقصة أو مفقِدة، بل لأنها لا تحقق توقعات الأمهات وأمنياتهنّ المصوغة اجتماعياً".
هذه إحدى خلاصات بحث ميداني قامت به مؤسسة "القوس للتعددية الجنسية والجندرية"، وهي مؤسسة فلسطينية معنيّة بـ"خلق مجتمع يحوي توجُّهات جنسيّة وجندريّة متنوّعة".
رصد البحث ما تعيشه العائلة الفلسطينية التي تضمّ فرداً أو أكثر يعيشون تجارب جنسية أو جندرية مختلفة، وتمت فيه مقابلة 17 شخصاً وأربع أمهات، إلى جانب 14 أخصائياً/ة نفسياً/ة ممن قدّموا أو يقدمون خدمات دعم أو علاجاً لهذه الفئات أو عائلاتهم/ن.
يتناول البحث تعامل الأمهات الفلسطينيات مع الأبناء أو البنات عند معرفتهنّ بميولهم/ن الجنسية، ويحلل المسار الذي يمررن به من منطلق "نظرية الفقدان"، ويخلص إلى أن ما تعيشه الأمهات أشبه بالـ"فقدان"، أكان مادياً أو عاطفياً أو معنوياً، "كفقدان أو موت شخص مقرب إلينا، أو انتهاء علاقة حميمية، أو فقدان عمل أو قدرة معيّنة، أو فقدان للصحة أو لمكانة اجتماعية أو عاطفية معيّنة".
ويأتي شعور الفقدان هذا نتيجة عدم توافق النتائج مع آمال وتوقعات الأمهات "المصوغة اجتماعياً". هنا يتطرّق البحث إلى نموذج كيوبلر روس الذي يشرح خمس مراحل يتعامل بها الإنسان مع الحزن الناتج عن المصائب: الإنكار والغضب والمساومة والاكتئاب والتقبّل.
الإنكار
تراوحت ردود أفعال الأمهات المشاركات في البحث بين "الرفض الصريح وإغلاق الموضوع وتفادي فتحه مجدداً، وصولاً إلى إكمال الحديث عن المستقبل وسط اقتراح أو افتراض علاقات زوجية مغايرة في حياة أولادهنّ مستقبلاً". وقد ساهم ابتعاد الأولاد عن الأهل في إطالة فترة النكران لعدم وجود داعٍ للتعامل مع المسألة.
الغضب
يشير البحث إلى أن الأمهات لم يتطرقن إلى هذه المرحلة، "ربما من باب الخجل أو لأنهن لم يعشنها فعلاً". ولكن الغضب، بحسب نموذج كيوبلر، هو المرحلة الثانية للتعامل مع الفقدان. وفيها، يبدأ الشخص بإلقاء اللوم والغضب على شيء ما، وبطرح أسئلة من قبيل: "لمَ أنا"، و"كيف يحدث لي هذا".
المساومة
هنا يبدي الشخص استعداداً لتقديم تنازلات لإعادة ما فُقد، وحاولت بعض الأمهات في هذه المرحلة مساومة الأولاد بالطلب منهم محاولة تجربة وبناء علاقات جنسية مغايرة. وقال الأخصائيون المشاركون إن الأمر بلغ حد محاولات تقديم إغراء للأولاد بأمور عدة كالسفر أو شراء سيارة، أو ابتزازهم عاطفياً من خلال مصطلحات مثل "عشاني" و"حاول".
الاكتئاب
في هذه المرحلة، يدرك الشخص أن الفقدان أصبح أمراً واقعاً، وليس لديه القدرة على تغييره. أشار البحث إلى أن الأمهات لم يصفن أنماطاً اكتئابية ولم يتمكنّ من تذكر وضع صحتهن حينذاك.
التقبّل
تقبّل الأمهات كان متفاوتاً. في بعض الأحيان كان مشروطاً كتقبّل هوية الأولاد الجنسية بشرط عدم إظهارها اجتماعياً، أو قبولها مع رفض الخوض في علاقات، أو قبولها مع رفض العيش في مدينة عربية.
وبحسب البحث، فإن "الوصول لمرحلة التقبّل لا يكون بشكل مطلق أو بلحظة واحدة، بل يقع على طيف من التقبل والرفض، بدلاً من خسارة العائلة و'تدميرها' كلياً'".
ما تعيشه الأمهات أشبه بالفقدان، أكان مادياً أو عاطفياً أو معنوياً، كفقدان أو موت شخص مقرب إلينا، أو انتهاء علاقة حميمية، أو فقدان عمل أو قدرة معيّنة، أو فقدان للصحة أو لمكانة اجتماعية أو عاطفية معيّنة
الخوف من العائلة أم على العائلة؟
يمرّ من يعيش تجارب جنسية أو جندرية مختلفة بمسارين: التعامل الذاتي الذي يتكوّن من ثلاث محطات هي الإنكار والإدراك والتصالح، والتعامل الخارجي مع العائلة، وهو "الخوف على العائلة والخوف من العائلة" في آن واحد، أي الخوف من ردة فعل العائلة ورفضها ولدها، وكذلك الخوف على العائلة من التعرّض للمتاعب و"كلام الناس" في بيئة رافضة للتعددية الجنسية والجندرية. وأدّى هذا إلى ممارسة البعض "الرقابة الذاتية" على أنفسهم/ن كالسيطرة على الجسد ومراقبة طريقة الكلام والمظهر.
في مرحلة التصالح الذاتي، كانت لدى البعض مخاوف أخرى، مصدرها العنف المجتمعي، في العالم الافتراضي أو الواقعي، وهو ما يؤدي إلى الشعور بالضغط والقلق من العنف كتحدٍ يومي وأساسي.
وتطرّق البحث إلى جزئية الإفصاح عن هذه التجارب للعائلة "كونها جزءاً من منظومة القمع والعنف الأكبر أو مؤسسة يعاد فيها إنتاج العنف". وهنا تمّت الإشارة إلى تعرّض أشخاص يعيشون تجارب جنسية وجندرية مختلفة لأحداث عنف وتجارب تحمل إساءات ليس من السهل التعامل معها، منها ما يمس الأجساد، ومنها ما يتمثل في أفكار نمطية ومغلوطة مثل: "المثلي متحرش" أو "المثلي معتدٍ على الأطفال" أو "المثلي تعرّض لاعتداء جنسي في طفولته".
وفي عيّنة البحث، تقبّل أهل شخص واحد فقط من أصل 17 اختلاف ميول ابنهم. أما بقية ردود الأفعال، فشملت "الرفض أو الإنكار أو التعيير والمضايقة أو محاولة تغيير الشخص (يشمل هذا مثالاً لتوجيهه لتلقي علاج 'تصحيحي')، وصولاً إلى العنف اللفظي والجسدي".
عقب الكشف عن الأمر، هناك من أقرّ بأن علاقته مع عائلته باتت "سطحية"، بينما تقبّل البعض "رفض الأهل" وباتوا يتجنبون معهم "المواضيع الحساسة" خشية خسارتهم كلياً. بعضهم شعر بالراحة، وزاد انفتاحه على العائلة والمجتمع، كما بات يسمح لنفسه أن يحب ويرتبط، "بينما استطاع شخص أن ينطلق ويظهر وينشط سياسياً".
يشدد البحث على عاملين مهمين غائبين في الغالب عند التعامل مع الأبناء ذوي الميول الجنسية المختلفة: الاحتواء والاحتضان. الأول هو احتواء الصراعات الداخلية التي يمرّ بها الشخص والثاني يضمن حمايته من العالم الخارجي
غياب الاحتواء والاحتضان
ويشدد البحث على عاملين مهمين غائبين في الغالب عند التعامل مع الأولاد ذوي الميول الجنسية المختلفة: الاحتواء والاحتضان. الأول، بحسب المحلل النفسي ويلفريد بيون هو احتواء الصراعات الداخلية التي يمرّ بها الشخص والتي تولّد بداخله مشاعر غير مفهومة. "فما يفعله احتواء الأهل هو عملياً محاولة توضيح مشاعر ولدهم وتفكيك اختلاطها حتى يتمكن من استيعابها".
أما الاحتضان بحسب عالِم النفس دونالد وينيكات، فيضمن حماية الولد من العالم الخارجي. يحتاج الشخص هنا إلى من يساعده في فهم العالم الخارجي وفهم اختلافه عنه بشكل ملطف يتيح له إدراك معايير المجتمع وكيفية التعامل معها في ظل ما يشعر به.
في هذا البحث، أتيحت فرصة سرد القصة، والبوح ومشاركة المشاعر لمجموعة من الأشخاص، وهو "ما يخلق إطاراً جمعياً لفهم هذه التجارب وتأطيرها والانطلاق منها نحو التغيير السياسي والمجتمعي".
"كان من المثير فهم أن الإفصاح والظهور المجتمعي لنا ليس قراراً فردياً، بل يتعلّق بالعائلة وعلاقتها مع المجتمع الأكبر، وهي من يقرر بشأنه. وتتعامل معه العائلة من خلال إستراتيجيات مختلفة مثل الوقوف غير المشروط في صفّ الأولاد أو محاولة تغطية 'السرّ' عن المجتمع الأكبر"
"تجاربنا لا تكون بشكل خطّي"
في حوار مع رصيف22، قال المتحدّث الإعلامي للقوس، عمر الخطيب، إن "البحث خرج بنقاط تستحقّ التوقّف والتفكير، سواء على مستوى تفاعلنا كأشخاص كوير أو عائلاتنا أو المجتمع. كثير من هذه الاستنتاجات عشناها ورأيناها يومياً على مدار سنوات عملنا، إلا أن البحث كان فرصة لتأطير القضايا وتسميتها وفهمها بشكل مباشر وعميق. فيما يخصّنا كمثليات/ين وعابرات/ين، بيّن البحث أنّ المحطّات التي نمرّ بها لفهم تجاربنا من إنكار وإدراك وتصالح لا تكون بشكل خطّي وليست ثابتة ومطلقة، بل متغيّرة ومتذبذبة، وتشكّلها وتؤثّر فيها أحداث مختلفة، وتلعب مشاركة العائلة أو معرفتها بتجاربنا دوراً أساسياً في تشكيل مسارنا الداخلي ومحطّاته".
وتابع: "أمّا في ما يخصّ أمّهاتنا، فقد برزت ثيمة 'الفقدان' كمسار تتفاعل من خلاله الأمّهات عند معرفة تجارب أولادهن، على اعتبار أنّ هذه التجارب لا تحقق أمنيات الأمهات وتوقّعاتهنّ من الأولاد، وهي أمور مرسومة اجتماعياً. ويزيد السياق الاستعماري الذي نعيش فيه في فلسطين طبقة إضافيّة لهذا الفقدان، على اعتبار أننا نعيش حالة من انعدام الأمن وطغيان الشعور بالدونيّة بسبب قمع الاحتلال المستمرّ، وهذا ما يصعّب التعامل مع شعور الفقدان".
"وفيما يخصّ العائلة، كان من المثير فهم أن الإفصاح والظهور المجتمعي لنا ليس قراراً فردياً، بل يتعلّق بالعائلة وعلاقتها مع المجتمع الأكبر، وهي من يقرر بشأنه. وتتعامل معه العائلة من خلال إستراتيجيات مختلفة مثل الوقوف غير المشروط في صفّ الأولاد أو محاولة تغطية 'السرّ' عن المجتمع الأكبر"، وفقاً للخطيب.
وهل أعاطكم/ن البحث أملاً أم العكس؟
"الأمل هو المرافق الدائم لعملنا ونقاشاتنا في القوس على الرّغم من الألم والقمع اللذين نعيشهما. طبعاً الأمل ليس بمعناه المجرّد والمطلق، بل المقترن بالعمل اليومي لمواجهة الظلم وتغيير الواقع. عشنا خلال العمل على البحث، وحالياً في النقاشات التي نخوضها حوله، الكثير من المشاعر التي نراها بتداخلها وتركيبها. فمع إدراكنا للعنف الذي يعيشه أشخاص كوير من العائلة وانعكاس عنف المجتمع الأكبر في العلاقة معها، استوعبنا الفرص الموجودة للتعامل مع العلاقة بين الأولاد والعائلة.
مسار العمل على البحث كان زاخراً بالتحدّيات والمصاعب، أبرزها الوصول لعائلات لسماع تجاربهمّ/ن، ولم نتمكّن سوى من لقاء أربع أمّهات. إلا أنه في المقابل -عودةً للأمل- كانت لنا كمؤسسة أو أشخاص نعيش تجارب جنسيّة وجندريّة مختلفة، فرصة مميّزة للكثير من النقاشات مع عائلاتنا، لاحظنا خلالها الأفق الكبير للتعامل مع هذه العلاقة.
من أهدافنا الكبيرة خلق إمكانيّات حياة أفضل لنا كأشخاص نعيش تجارب جنسيّة وجندريّة مختلفة في مجتمعنا وبلدنا، ولا يمكن لنا ذلك إن لم يكن ما يحرّكنا هو الأمل بوجود هذه الإمكانيّات على الرغم من الصعوبة".
"لا نقول إن الاحتلال هو السبب الوحيد، فمحو هؤلاء الأشخاص موجود في كلّ مكان، إلا إن الاحتلال يضيف طبقة العبء حول وجود صورة وحيدة ومتوقّعة لنا كشعب تحت الاحتلال، وبالتالي شيطنة كل من يخرج عنها ومحوه"
"صورة وحيدة ومتوقّعة لنا"
وهل تؤثر صورة المناضل الفلسطيني على تقبّل المجتمع للأشخاص ذوي الميول الجنسية المختلفة؟
"الاحتلال والعيش في واقعه ثقل كبير، ويفرز طبقات كبيرة من العنف الذي يُعاد إنتاجه من الفلسطينيين أنفسهم أو غيرهم مثل إنكار أو محو وجود فلسطينيات/ين مثليات/ين. يسعى الاحتلال لتفكيك المجتمع الفلسطيني وتقسيمه، ومن هذه المساعي تصوير فئات من المجتمع على أنّها غريبة عنه بربطها الدائم بالاحتلال، مثل الأشخاص الذين يعيشون تجارب جنسية وجندرية مختلفة. وبالتالي نصبح مقرونين بالاحتلال أو بما هو غريب وخارجي.
طبعاً لا نقول إن الاحتلال هو السبب الوحيد، فمحو هؤلاء الأشخاص موجود في كلّ مكان، إلا إن الاحتلال يضيف طبقة العبء التي تحدّثتِ عنها حول وجود صورة وحيدة ومتوقّعة لنا كشعب تحت الاحتلال، وبالتالي شيطنة كل من يخرج عنها ومحوه".
*كتابة البحث: أسرار كيّال ولويس لويس. إعداد البحث: عمر الخطيب. فريق البحث: تمارا ناصر وألاء عطّون. مرافقة أكاديمية: فتحي فليفل ومحمد عبدالحليم ومصطفى شلاعطة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...