ظهرت نتائج استطلاع رأي مؤسسة "غالوب" (Gallup) الأمريكية على صفحاتنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل مدّة، لتكشف أن اللبنانيين يحتلون المرتبة الخامسة ضمن أكثر الشعوب توترًا وحزنًا. شمل الاستطلاع 145 دولة عام 2019، أي قبل الانهيار الاقتصادي وانفجار مرفأ بيروت. وأشار إلى الحالة النفسية المرتبطة بالوضع العام، إذ لم يعد هناك وظائف شاغرة أو أي ضوء ينتشلنا في نهاية النفق المظلم.
حسنٌ، نحن لسنا بحاجة إلى دراسة تعطينا بالأرقام مرتبة حزننا، يكفي أن نسير في الشوارع لنرى الإحباط والتعب على وجوه الغرباء، وأن ندخل دكانًا صغيرًا برفوفه الفارغة، وأن نجلس مع أصدقائنا ونفتعل أحاديث خارجة عن الوضع العام، وأن نشاهد العلاقات بين الشركاء.
في الأيام العادية، كان بإمكان الفرد الغوص داخل أفكاره، ومواجهة نفسه ومشاعره، وطرح الأسئلة الصعبة التي لطالما حاول تجنبها، لتكون حياته عبارة عن هواجسه، وأحلامه، ورغباته، وقراراته الخاصّة. الآن في الحاضر الخاضع لوباء عالمي، هنالك انهيار اقتصادي، ومدينة تعرضت لأكبر انفجار غير نووي، ويمتزج الخاص بالعام، ويتحوّل الأفراد إلى انعكاس عن الواقع المفروض عليهم، ويعكسونه بدورهم على شركائهم وعلاقاتهم. الأمر الذي أفقد كل فرد قدرته على التفكير بنفسه وبحياته الخاصة خارج الأطر العامّة المفروضة عليه. وبالتالي ما الذي يحلّ بالعلاقات العاطفية تحت وطأة هذا الانهيار؟
قال الشاعر الراحل أنسي الحاج في إحدى مقابلاته عن مدينة بيروت: "بيروت مدينة اللقاء بمعنى الصدفة، مدينة محتملة دائماً. بيروت احتمال الصدفة العجيبة. تخترع نفسها من جديد". كان هذا الكلام في العام 2001، وبطريقة أو بأخرى كان لا يزال ينطبق وصف الحاج على واقعنا قبل أكثر من عام، إذ كانت هناك عدّة احتمالات بعيدة عن الانهيار التام الذي نعيشه حاليًا، والذي بسببه هناك من اجتمعوا وهناك من افترقوا.
الوباء جمعنا بمنزل واحد
يشرح محمد.ت (27 عامًا) علاقته بليا.ح (24 عامًا): "بدأنا العلاقة بالعكس، في الوقت الذي كان يجب أن نخرج في مواعيد غرامية لنتعارف، كنا نختار أغراض المنزل لننتقل للعيش معاً".
بدأ محمد وليا بمرحلة التعارف ما بعد تفشي وباء كورونا، أي في نيسان/ أبريل الماضي، وبالتالي لم يؤثّر الإغلاق التام عليهما، هي كانت تقطن في "الحازمية"، وهو في "فرن الشباك" ويلتقيان مرّة في الأسبوع، لكن مع سيطرة الوباء على كل جوانب الحياة، تحديدًا الجانب الاقتصادي، بالإضافة إلى خصوصية الوضع في لبنان بسبب الانهيار الشامل، تغيّرت خطّتهما، يقول: "كان من المفترض أن تجري الأمور كما في العادة، نتحدث عبر الهاتف، نلتقي بمواعيد محدّدة، ويكتشف أحدنا الآخر في المساحات العامّة وفي المنزل، لكن ليا خسرت عملها".
لسنا بحاجة إلى دراسة تعطينا بالأرقام مرتبة حزننا، يكفي أن نسير في الشوارع لنرى الإحباط والتعب على وجوه الغرباء، وأن ندخل دكانًا صغيرًا برفوفه الفارغة
بعد ستة أشهر من تعارفهما، تخلّت ليا عن منزلها في الحازمية وانتقلت للعيش مع محمّد، لأنها لم تعد قادرة على دفع بدل الإيجار المترتب عليها بعد أن خسرت وظيفتها، مثلها مثل العديد من الشابات في بيروت.
وعن هذا الأمر، تقول ليا: " كان أمامنا خياران، إمّا أن أعود إلى منزل عائلتي في الشمال، ونخسر علاقتنا بين تنقلي الأسبوعي في الباصات بهدف رؤيته لأيام معدودة، إما أن نستقر في المنزل نفسه ونكرّس طاقاتنا لتطوير ما يحدث بيننا، من دون عوائق".
بدأت ليا بعملية نقل ممتلكاتها الخاصة في أيلول/ سبتمبر، وبعد هذه الخطوة التي أُجبرت عليها بسبب الانهيار الاقتصادي اكتشفت أنهما قادران على تشارك المساحة دون أن ينزعجا، بل بالعكس أدت المساحة المشتركة إلى ترسيخ العلاقة أكثر.
يختم محمد: "لو لم ننتقل للعيش معاً، لكنا انفصلنا، وذلك لأننا لم نكن لنتبادل الإعجاب في المساحات العامة في بيروت، فكل منا يأتي من محيط مختلف، كما أن اهتماماتنا لا تلتقي، لكن في ما يخص الحياة اليومية والمساكنة، أدركنا أننا متشابهان أكثر مما ظننا، وبالتالي هذه المعرفة اليومية جعلتنا أقوى في الخارج، وبالتالي كان الانهيار الاقتصادي ورغم كل الشر الذي يحمله هو المسبّب الأساسي لهذا الحب".
الرغبة الجنسية ذهبت مع الانهيار
هذه النهاية السعيدة لا تنطبق على سناء (إسم مستعار) (27عامًا) ووليد (إسم مستعار) (30 عامًا). فقصّة حبهما التي بدأت بالصدفة في ربيع عام 2019 وترسّخت في ساحات ثورة تشرين، انهارت مع الانهيار الاقتصادي بحسب سناء التي تقول: "حين التقيته لم أكن أسعى للانغماس بعلاقة عاطفية، لكن القرارات المنطقية لا علاقة لها بالمشاعر، وبالتالي بدأنا بالتلاقي يوميًا في المقاهي وفي منازلنا وفي الساحات. أعتقد أن فائض الأمل الذي اختبرناه في التظاهرات على الصعيد العام، جعلنا نصدّق أن قصّتنا خيالية وستتخطى كل العقبات، لكن الواقع كان مختلفًا، إذ اتخذنا قرارًا مستعجلًا بخوض الحجر الأول معًا، وهكذا بعد حوالي تسعة أشهر من علاقتنا الخالية من المشاكل انتقلنا للعيش معًا، خسرنا وظائفنا الثابتة، وصرنا نتشاجر حول كيفية طي المناشف، وحول ساعات النوم، ومتى يجب أن ينظّف المنزل، فقدنا رغبتنا الجنسية، واكتشفنا أننا غير قادرين على العيش معًا وأن هذا القرار لا علاقة له بالحب".
بالنسبة لوليد، لا يمكن الاستخفاف بالعامل المادي في العلاقة كما أن هذه السنة كانت استثنائية بكل ما جلبته معها، يقول: " كان من المفترض أن تكون علاقة طبيعية، لم أكن مجهّزًا من كل النواحي لاختبار طردي من وظيفتي، والحجر المنزلي في بيروت التي هي مدينة مقفلة على نفسها منذ ما قبل الإقفال التام. الاهتمام بجسدي وصحتي النفسية، والتأسيس في الوقت عينه لعلاقة عاطفية تتطلب الاهتمام بالآخر، في الحقيقة عجزت عن الاهتمام بنفسي وبالتالي عجزت عن الاهتمام بسناء، وحين فقدت الأمان المادي صارت حياتي عبارة عن قلق دائم من الغد، لدرجة أنني فقدت السيطرة التامة على طباعي، وأصبت بموجة اكتئاب حتّى أن رغبتي بممارسة الجنس مع المرأة التي أحب، تلاشت".
انتهت علاقة وليد وسناء بعد انتهاء الحجر المنزلي إذ فقدا القدرة على الاستمتاع بوقتهما معًا كما كانا في السابق، تختم سناء: "الانهيار التام شوّهنا وبالتالي شوّه العلاقة، ليس لدي أدنى شك بطبيعة مشاعري تجاهه، وأعلم أنه يحبّني، وربّما الأحداث التي اختبرناها لم تؤدِّ سوى إلى تسريع عملية فراقنا التي كانت ستحصل في المستقبل".
"طفل الشوارع" والعلاقات الجنسية والكوكايين
يحكي س.ح. (27 عامًا) عن نفسه السابقة باشتياق، وكأن الانهيار الاقتصادي أدى إلى هدم الشخص الذي كانه، يقول: "منذ الصغر وأنا اعتبر نفسي 'طفل شوارع' ليس بالمعنى الحرفي، لكن شخصيتي مبنية على التفاعل الدائم مع الخارج، وهذا ما حرمت منه منذ أكثر من عام. حين يفتح البلد أحيانًا، أشعر بالراحة ومن ثم يعلنون عن الإقفال التام، فأخسر نفسي وحياتي مجدّدًا، هناك من يريدون الغوص في أعماقهم، ويبجّلون اكتشاف الذات، أنا أبجّل التواصل البشري، وكل ما نعيشه في هذه اللحظة لا يمكن تصنيفه بخانة 'الطبيعي'، وبالتالي أنا لست طبيعيًا".
حاول سامر أن يحافظ على تواصله البشري بكل الطرق الممكنة، وبما أنه ليس في علاقة عاطفية، قرّر أن يحظى بهذا التواصل من خلال العلاقات الجنسية، إلا أنها لم تكن دائمة التوفّر بسبب الخوف من التقاط الوباء، ولذلك وجد نفسه بعد مدّة، يدخّن الحشيش طوال النهار كي يمضي الوقت، وعاد إلى استخدام الكوكايين بعد قطيعة دامت سنوات.
ربّما لو كنا في بلد آخر، في وقت مختلف، لكنا الآن نسير في أحد الأحياء، ونغني مع المارة صانعين واحدة من أجمل ذكريات حياتنا، لكنّنا الآن، هنا في بيروت
"أريد أن أشعر بشيء، أي شيء يخصّني لي وحدي، وأن لا يكون له علاقة بارتفاع سعر الدولار، وإقفال المحال، والتصريحات السياسية أو تفشي الوباء. أريد استرجاع خصوصيتي من هذا البلد. فمنذ أكثر من عام وأنا أدخل وأخرج من موجات الاكتئاب، ولا بأس، بإمكاني التعامل مع نفسي، لم أخسر عملي، بالعكس ما زلت بارعًا فيه، ولدي ما يكفي من الأصدقاء، لكن كل هذا لا يشبعني، هذه الأمور لا تختصر العلاقات الشخصية والحسية، وأنا أريد أن أشعر بشيء ما، ولهذا أبحث عن فرحتي الخاصة، وعلى الرغم من أن وسائلي ليست صحية، سأعتمدها إلى أن يغلبني البلد أو أغلبه وأرحل منه".
هناك من انتحروا في جميع المناطق في لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي، هناك من هاجروا، ومن عادوا إلى منازل عائلاتهم، هناك من اتحّدوا واعتمدوا بعضهم على بعض، وهناك من فقدوا الحب، وسمعتهم يقولون "ربّما لو كنا في بلد آخر، في وقت مختلف، لكنا الآن نسير في أحد الأحياء، ونغني مع المارة صانعين واحدة من أجمل ذكريات حياتنا، لكنّنا الآن، هنا في بيروت والتعب الذي حلّ علينا كأفراد، أقوى من شراكتنا ومن الجنس ومن الحب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين