في معظم الأحيان، عندما نصادف طفلاً ممتلئاً إلى حدّ ما، فإننا نرغب ضمنياً في "قرص" خدوده وعضّ وجهه الصغير "الكربوج"، واللافت أن هذا الإحساس الغريب بعض الشيء ليس محصوراً بالبشر فقط، بل نختبره أيضاً عندما نقترب من جرو أليف بحيث إننا نشعر برغبة في "عصره" بين أيدينا.
فما هو السبب الكامن وراء الرغبة في عضّ المخلوقات والأشياء اللطيفة؟
المتعة في الدماغ
قد تكون الرغبة الكامنة وراء عضّ وقرص المخلوقات اللطيفة إحدى سبل التواصل، وفق ما كشفته غوان ديوار، عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية.
في إحدى الدراسات، قام الباحثون بإجراء فحوصات تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي على النساء اللواتي قمن، عن غير قصد، بشمّ الأطفال حديثي الولادة.
عندما نصادف طفلاً ممتلئاً إلى حدّ ما، فإننا نرغب ضمنياً في "قرص" خدوده وعضّ وجهه الصغير، واللافت أن هذا الإحساس الغريب بعض الشيء ليس محصوراً بالبشر فقط، بل نختبره أيضاً عندما نقترب من جرو أليف بحيث إننا نشعر برغبة في "عصره" بين أيدينا
وقد تبيّن أن هذه الروائح تعمل على تنشيط المناطق المرتبطة بالمكافأة في الدماغ، وهي نفس المناطق التي تثير اندفاعاً ممتعاً من الدوبامين عندما نمسك بأيدينا الطعام الذي نحبّه ونرغب به، هذا وقد تم الإبلاغ عن تأثير عصبي مماثل في دراسة سابقة، عندما طلب من النساء النظر إلى صور الأطفال.
يشير هذا البحث إلى أن أدمغتنا، إلى حدّ ما، تستجيب بطريقة موازية عند إدراك اللطف والبحث عن الطعام، ومن المرجح أن تكون قد نشأت تجربتنا النفسية المتمثلة بالرغبة في العضّ من هذا التداخل الفيزيولوجي.
رسالة ثقة
قد تكون هناك أسباب أخرى لربط الأطفال بالرغبة في العضّ الودود، بحيث قد يكون هذا النوع من "العضّ الاجتماعي" جزءاً من إرثنا التطوري.
غالباً ما تنجذب المخلوقات في جميع أنحاء العالم إلى نسل جنسها، فبعض قرود العالم القديم، على سبيل المثال، كانوا يصطفون بهدف الحصول على فرصة للتعامل مع قرد رضيع ومداعبة أنفه عن طريق تحريك الأنف والفم أمامه، وهو واحد من أكثر أشكال المعاملة شيوعاً في ذلك الوقت.
بالطبع، لا شيء من هذا كله يندرج ضمن العضّ الحقيقي، والذي في حال حصوله بالفعل، قد تتأذى الحيوانات، ومع ذلك، فإن العضّ الزائف أو الكاذب، إن جاز التعبير، هو الأكثر انتشاراً، بخاصة على شكل العضّات التي تقوم بها الثدييات لبعضها البعض أثناء اللعب العنيف.
مداعبة الفم أو الأنف والعضّ اللطيف، هي جزء طبيعي من التصرفات الاجتماعية الودّية للعديد من الثدييات
أما أسباب هذا السلوك فهي ليست واضحة تماماً، وعرضة للكثير من الأسئلة التي تبقى لحدّ الآن من دون أجوبة شافية: عندما يعضّ الجرو يدكم/نّ بلطف، هل يعزز بذلك مهاراته الحركية؟ هل يتدرب على القتال في الحياة الحقيقية أم ينخرط في لعبة وديّة؟
كل هذه التفسيرات تبقى مجرد احتمالات، ولكن المثير للاهتمام في هذا السياق هو أن العضّ في اللعب يحدث في العادة بين "الحلفاء" الموثوق بهم. فقد سبق وأن لاحظت عالمة الرئيسيات في قسم الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا، سوزان بيري، وزملاؤها، أن قرود الكبوشي تعضّ بعضها البعض بعناية وحذر وكأنها تمارس طقساً معيّناً، فيقوم القرد مثلاً بالضغط على أصابع الآخر بقوة كافية للقبض عليه، ولكن من الواضع أن مثل هذه العضّات لا تسبب أي ألم.
يرجح الباحثون أن هذه القرود تختبر الروابط الاجتماعية وترسل رسالة للآخر مفادها: "أنا جدير بالثقة، يمكنك أن تضع إصبعك في فمي"، وبالتالي فإن العضّ هنا ليس شكلاً من أشكال العدوان على الإطلاق، بل على العكس، يُقصد به زرع بذور الثقة في الآخر وإعلامه بأن العلاقة ودية بامتياز.
بمعنى آخر، يبدو أن بعض السلوكيات التي تشبه العضّ، مثل مداعبة الفم أو الأنف والعضّ اللطيف، هي جزء طبيعي من التصرفات الاجتماعية الودّية للعديد من الثدييات، التي تبدأ حياتها وهي تقضم بحماسة لاستخراج الحليب من الغدد الثديية للأم، عن طريق قضمها بواسطة فكوكها التي تفتقر إلى الأسنان.
وبالتالي، انطلاقاً من هذه الخلفية التطورية، لا تبدو الرغبة في مداعبة طفل صغير أمراً غريباً، لا بل قد يكون العضّ الكاذب هذا مثالاً آخر على اللطف وعلامة على حسن النوايا.
ماذا يقول علم النفس عن العضّ اللطيف؟
في حديثها مع موقع رصيف22، اعتبرت الأخصائية في علم النفس، لانا قصقص، أن الرغبة في عضّ وقرص المخلوقات اللطيفة تعود إلى مجموعة من العوامل النفسية، بدءاً من مرحلة الطفولة وصولاً إلى تراكم التجارب عبر المراحل العمرية المختلفة: "بالعودة إلى الطفولة، هناك مرحلة تعرف بالـ oral phase حيث يشعر الطفل بلذة عارمة عندما يضع الأشياء في فمه، وبالتالي فإن الرغبة في العضّ وقرص الخدود التي نختبرها كبالغين/ت يمكن أن تكون عائدة إلى طفولتنا وربط مثل هذه السلوكيات بالإشباع والرضا".
وبالتالي كشفت قصقص أن الدماغ البشري يخزّن كل الذكريات ويربط العضّ باللذة التي كنّا نختبرها في مرحلة الطفولة المبكرة.
ولكن لماذا لا نتفاعل مع البالغين بالطريقة نفسها التي نتفاعل بها مثلاً مع الأطفال؟
بحسب عالمة النفس في مركز مونتيفيوري الطبي في نيويورك، الدكتورة ساندرا بيمنتل، "إذا فكرنا في التطور، فإن هدفنا كجنس بشري هو البقاء على قيد الحياة وتمرير جيناتنا"، مشيرة إلى أن الطريقة التي ننقل بها جيناتنا هي من خلال إنجاب الأطفال الذين يحتاجون منّا كل الرعاية والاهتمام.
تحب أدمغتنا النظر إلى الأشياء اللطيفة، وتتفاعل معها بطريقة تبدو عدوانية، بحيث يتم التعبير عنها بقبضات اليد المشدودة والأسنان المكشوفة وبعض العبارات التي تخرج من القلب، كالقول: "أنت/ي لطيف/ة جداً لدرجة أنني أستطيع أن آكلك/ي"
وعليه، اعتبرت بيمنتل أنه عند التعامل مع الأطفال، بخاصة الذين يتسمون باللطف، فمن المرجح أن نرغب كأفراد بالغين في الاعتناء بهم وحمايتهم، أما أدمغتنا فتجعلنا نستمتع بالنظر إلى الأشياء اللطيفة من خلال مكافأتنا بالدوبامين، وهي مادة كيميائية تجعلنا نشعر بسعادة شديدة.
واللافت أن بعض السمات الموجودة لدى الأطفال، هي أيضاً ميزات نصنّفها في خانة اللطف عندما تظهر في أشياء أخرى، مثل شخصيات الرسوم المتحركة، الحيوانات الصغيرة وحتى السيارات.
في العام 1949، أطلق عالم السلوك كونراد لورينز مصطلح kindchenschema على بعض السمات التي تعكس ما نجده لطيفاً، من بينها: رأس كبيرة بالنسبة لحجم الجسم، عيون واسعة، خدود مستديرة، ذقن صغيرة وأنف صغير.
وقد أظهرت دراسات أخرى أن أدمغتنا ترغب في إعطاء الأشياء اللطيفة مزيداً من الاهتمام مقارنة بالأشياء غير اللطيفة.
بمعنى آخر، تحب أدمغتنا النظر إلى الأشياء اللطيفة، وتتفاعل معها بطريقة تبدو عدوانية، بحيث يتم التعبير عنها بقبضات اليد المشدودة والأسنان المكشوفة وبعض العبارات التي تخرج من القلب، كالقول: "أنت/ي لطيف/ة جداً لدرجة أنني أستطيع أن آكلك/ي"، ولكن بالطبع نتحدث هنا عن "العدوان اللطيف" الذي يهدف فقط للتعبير عن الإعجاب والانجذاب نحو الطفل أو الشيء اللطيف.
وبالعودة إلى ساندرا بيمنتل، فقد عبّرت عن فضولها في معرفة ردود أفعال الأطفال على معاملة البالغين لهم، لجهة قرص خدودهم والرغبة الضمنية في عضّهم: "كطبيبة في علم النفس، أتساءل: ما الذي يفكر فيه هؤلاء الأطفال؟ إنهم يواجهون هذه الوجوه المزعجة لأشخاص ينظرون إليهم ويعتقدون أنهم رائعون والأطفال يتشبّعون بالمعلومات. أتساءل عما إذا كان ذلك يعطي الطفل فكرة أن الوجوه يمكن أن تظهر بطريقة مرحة، أو إذا كان ذلك يثقف الطفل عن مشاعر التعبير. هذه هي الأشياء التي لا يزال يتعيّن اختبارها".
في المرة القادمة التي تريدون فيها أن تعضّوا خدود الطفل، ينبغي العلم أنه من الطبيعي، وربما حتى من المفيد، التعامل مع مثل هذه المشاعر القوية التي تعصر قلبكم بهذه الطريقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...