يندر حضور أدب الأطفال في التراث العربي. إنْ عثرنا على نصّ موجه إليهم، فغالباً ما يكون من حكايا التراث الشعبي المتداولة شفاهياً، باستثناء بعض قصص ألف ليلة وليلة، مثل "علاء الدين" و"السندباد البحري".
غير أن هذا الأمر ينطبق أيضاً، بشكل عام، على التراث الغربي. لقد تأخر ظهور مسرح الطفل، بوصفه نتاجاً أدبياً بالدرجة الأولى، ومع صعوبة تلمس بداياته في القرن التاسع عشر، يمكن ردّ ظهوره الفعليّ إلى القرن الماضي. ونظراً لأهميته وحساسيته العالية، وصفه الأديب الأميريكي مارك توين بأنه "أحد أهم اختراعات القرن العشرين".
في البلاد العربية، ظل مسرح الطفل حبيس المدارس نصف قرن، فاقتصر تقديمه على الحفلات المدرسية، إلى أن انتبهت وزارات الثقافة والتعليم إلى أهمية تبنّيه، وذلك من خلال إنشاء الفرق المسرحية، وتنشيط حركة الكتابة المسرحية للأطفال.
هكذا، أقيم في الرباط أول مهرجان لمسرح العرائس عام 1964، وتأسس في مصر فرع خاص بمسرح الطفل يتبع لوزارة الثقافة، كما تشكلت أول فرقة رسمية خاصة بمسرح الطفل في مصر سنة 1971. إلا أن تجربة مسرح الطفل في لبنان تعد من التجارب الرائدة عربياً، لأنها شهدت حراكاً مبكراً ومتميزاً، خصوصاً خلال السبعينيات. ففي مجال مسرح الدمى، كان جوزيف فاخوري من أوائل الذين اشتغلوا على مسرح الدمى بدءاً من الستينيات. كما كان فنان المسرح الكوميدي حسن علاء الدين (شوشو) من أوائل المواظبين على تقديم عروض للأطفال. وقد امتازت عروضه بشعبيتها، وذلك بعد أن نال شهرة كبيرة بين الأطفال بتقديمه لشخصية المهرج في أحد البرامج التفزيونية على التلفزيون اللبناني بالأبيض والأسود.
بعد ذلك، جاءت الفترة الذهبية التي شهدت تطوراً ملحوظاً، فازدهرت بوجود أسماء كثيرة أعطت للتجربة اللبنانية بمسرح الطفل صفة الريادة مثل شكيب خوري، موريس معلوف، غازي قهوجي، بول مطر، وفرق مسرحية كـ"فرقة السنابل" مع غازي مكداشي وأحمد قعبور. ذلك دون أن ننسى التجربة المتقدمة لفرقة "مسرح الدمى اللبناني" بقيادة كريم دكروب، وفرقة "أصدقاء الدمى" مع فاديا التنير الذين ما زالوا يواصلون تقديم العروض، وصولاً إلى تجربة "مجموعة كهربا" الحديثة وتعاونهم مع دار قنبز في مسرحيات مثل "سبعة وسبعة"، وتنظيمهم لمهرجان سنوي للعائلة تحت عنوان "نحن والقمر والجيران" في بيروت.
يعدّ عنصر الإبهار أحد العوامل الأساسية التي تجذب الطفل، وتثير اهتمامه. لذلك لا بد أن يكون لصانعي مسرح الطفل خبرة واسعة في الفنون التشكيلية والسمعية، إضافة إلى توافر متخصصين بعلم نفس الطفل، وهذا غائب في معظم الأحيان عن الأعمال الموجهة إلى الأطفال. هنا، لا بد من استحضار إسم الفنان العراقي عاصم الخيال، كواحد من الفنانين الذين تمتاز عروضهم ببراعة بصرية عالية، حيث يحضر بقوة كمصمم للديكور وكصانع للدمى، في أعمال مثل "مملكة النحل" (2010)، "أرنوب صياد الثعالب" (2011). ففي "مملكة النحل"، استطاع إيصال فكرة التصميم الهندسي المميز لخلايا النحل من خلال الديكور، فضلاً عن جماليته من خلال تناسق الألوان، حيث كانت تتحرك فيها الدمى القماشية المصنوعة بحرفية عالية، بالإضافة إلى تقديم صفات مميزة لكل دمية على مستوى الحركة والتكوين.لكن حال مسرح الطفل بالبلاد العربية ساء كثيراً في السنوات الأخيرة، وهجره معظم المشتغلين. ويُفسَّر نزوح هؤلاء بعدم توافر الشروط الموضوعية التي تسمح بالعمل، فغالباً ما تكون أجورهم مجحفة، وكأن المسارح الرسمية الحكومية العربية تضمر نظرة دونية لمسرح الطفل وللعاملين فيه. إضافة إلى ذلك، تحضر قضية الشهرة، التي لا يوفرها مسرح الطفل للعاملين فيه. ومع غزو عروض المسارح التجارية التي تستسهل عقل الطفل، والتي يعنيها بالدرجة الأولى كسب المال، صارت تُقدَّم للأطفال عروض مبتذلة، إما عن طريق إعادة تقديم عروض الشاشة التلفزيونية بطريقة كرتونية ركيكة، أو تقديم ألعاب ومسابقات تترافق مع العرض. كل ما ذكرناه، ساهم في تكوين نظرة شعبية عامة ترى في مسرح الطفل مكاناً للترفيه المجاني فقط.
في استقراء لتطور حركة مسرح الطفل العربية، يبرز العديد من الأسباب المعيقة، لعل أهمها النص المسرحي الذي يشكل حجر الأساس في بناء العرض المسرحي. لا تزال معظم النصوص تتسم بالتفكك والوقوع بالمباشرة المقيتة، وذلك يأتي بالدرجة الأولى من حالة استسهال الكتابة للطفل. هكذا، غالباً ما يتناسى كتاب مسرح الطفل الشرط الأساسي للمسرح، ألا وهو المتعة، فتغدو حكاية العمل هشة لا تشكل أي حافز للتفاعل معها، ويتحول العرض المسرحي بأكمله إلى محاضرة أخلاقية أو درس تربوي ممل.
بالتأكيد، ثمة أقلام استطاعت أن تثبت نفسها، وذلك باشتغالها على العنصر الأساسي في النص المسرحي - الحكاية - وعدم إسقاط بنية النص الدرامية لصالح الخطاب التربوي أو الأخلاقوي المباشر، على غرار الكثير ممن يكتبون لمسرح الطفل. من هذه الأقلام: التونسي فتحي التومي: "المغارة العجيبة"، "عقد الغزال"، والسوري أحمد إسماعيل إسماعيل: "الحقل المنيع، "حكايات الأشقياء الثلاثة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com