تجلس امرأة خمسينية بملابس رمادية، ذات ملمح كلاسيكي، يوحي أنها موظفة حكومية، بجوارها شابة ثلاثينية تحتضن حقيبتها، وتحدق في المرآة المقابلة، وهناك سيدة بعباءة سوداء لا تتوقف عن الكلام مع سيدة أخرى، ولا شك أنها مصدر إزعاج للفتاة الجامعية، التي تجلس في طرف المقعد، وفي يدها ملخصات المواد الدراسية.
فيما تفترش امرأة عجوز الأرض بأطباق ممتلئة بالجبن القريش والفطائر وغيرهما من المواد الغذائية، التي ينتجها المجتمع الريفي، وتحملها نساء الأقاليم المصرية إلى العاصمة، ثمة فتيات عشرينيات مرحات، يكسرن صمت ساعات الصباح الأولى، بالضحك والفكاهة، والغناء، لكن ذلك سيكون محل انتقاد من جانب سيدات تبدو عليهن الصرامة والحدة، وربما يتطور الأمر إلى مشاجرة صباحية تفضها إحدى النساء اللواتي يفضلن لعب هذا الدور.
نحن في عربة السيدات داخل محطات مترو الأنفاق المصرية، وهناك عربتان، واحدة للسيدات طوال فترات تشغيل المترو، أي من السادسة صباحاً، حتى الواحدة بعد منتصف الليل، والأخرى، كما هو مكتوب عليها: مخصصة للسيدات حتى الساعة التاسعة مساءً.
عالم موازٍ للعالم الخارجي، تجتمع فيه نساء الطبقة المتوسطة.
عالم موازٍ للعالم الخارجي، تجتمع فيه نساء الطبقة المتوسطة، وفي بعض الأحيان، تستقلها نساء وفتيات الطبقات العليا، اللواتي يستحوذن على نظرات الأخريات.
وقبل ذلك، هذه العربة، تعتبرها النساء في مصر مساحة خاصة بهن، يحاولن المحافظة عليها من "اعتداءات الرجال"، فإذا أخطأ أحدهم، وصعد إلى عربة السيدات، سيكون حظه تعيساً؛ في البداية، ستخبره إحداهن بأن هذه العربة مخصصة للسيدات، إن لم يستجب لها، فستنهال عليه الشتائم، حتى يصل الأمر إلى أحد أمناء الشرطة، الذي يتولى أمره.
تُفضل أغلب النساء العاملات في القاهرة استخدام مترو الأنفاق وسيلة للتنقل، إذ يعتبرن أن "عربة السيدات" حماية لهن من "العنف اللامحدود" في الشارع، وسخافات سائقي الميكروباصات، علاوة على تجنب التعرض للتحرش في باصات النقل العام "غير الآدمية"، فداخل عربة السيدات ترتفع الآمال لدى الجميع بسهولة إنهاء الطريق في أمان حتى العودة إلى المنزل، كما أن عربة المترو تحميهن من حوادث الطرق التي تقضي على حياة الكثيرين يومياً.
"أفضّل عربة الرجال"
صديقتي هند السيد، تستقل المترو يومياً من محطة "حدائق المعادي"، حيث تُقيم، حتى محطة "أرض المعارض"، للوصول إلى عملها، تقول إن المترو هو وسيلتها المفضلة للتنقل، كما أن عربة السيدات تحميها من العنف الذي تتعرض له النساء في باقي وسائل المواصلات العامة، وتضيف هند: "في مدينة مثل القاهرة، الخروج من المنزل مجازفة، خاصة في هذه الفترة، التي تتسم بالعنف والعداونية تجاه النساء بالتحديد. لذلك أفضل المترو على أي وسيلة أخرى".
"أشعر دائماً بالنظرات التي تخترقني، خصوصاً من نساء محجبات، المرأة مقهورة في هذا المجتمع، وعندما تريد أن تفرغ طاقة الغضب المكبوتة، تصوبها تجاه امرأة مثلها"
على النقيض من هند، لا تُفضل شيماء محمود (38 عاماً) الدخول إلى عربة السيدات بالمترو، وتقصد عربات الرجال، وتقول: "هناك عنف تمارسه النساء بعضهن على بعض، المرأة مقهورة في هذا المجتمع، وعندما تريد أن تفرغ طاقة الغضب المكبوتة بداخلها، تصوبها تجاه امرأة مثلها".
وتضيف شيماء، وهي مدرسة تسكن في منطقة المرج: "إن حدث ودخلت عربة السيدات، أشعر دائماً بالنظرات التي تخترقني، خصوصاً من نساء محجبات، غالباً ما يمارسن التنمر على غيرهن من السيدات اللواتي لا يرتدين الحجاب، وسيكون الأمر أكثر سوءاً إن كنتِ ترتدين ملابس يعتبرنها خليعة، أفضل الهروب من هذا العالم المشحون بالغضب، حفاظًا على سلامتي النفسية".
صخب ساعات الذروة
في أوقات الذروة، تتحول محطات المترو، خاصة الرئيسية منها "السادات، ورمسيس، والعتبة"، إلى ما يشبه سوقاً شعبية، من الممكن أن تفقد فيها نفسك، وفي ذلك الوقت، لا بد من حدوث مشاجرات عنيفة في "عربة السيدات"، فإذا نجحتِ في العثور على مكان في أحد المقاعد وجلستِ قبل سيدة أخرى كانت ترغب في الجلوس، عليكِ أن تتوقعي أن تنشب مشاجرة معكِ، أما إذا زاحمتِ إحداهن على الدخول إلى العربة، فستنهال عليكِ الشتائم، وربما يمتد الأمر إلى مشاجرة بالأيدي.
في عربة السيدات عليكِ أن تكوني حذرة، في الدخول والنزول، في الكلام، وفي الصمت، فبعد يوم من العمل الشاق، الذي لم ينته بعد، ستتبعه أعمال منزلية أخرى، من الأفضل ألا تصبحي عبئاً آخر في طريق بعض السيدات.
هذا الصخب في أوقات الذروة سرعان ما تخفت حدته في المساء، وسيكون هناك فرصة أمام البائعات المتجولات للدخول إلى عربة السيدات بحقائبهن التي تحتوي على البضائع الخاصة بالنساء من "طرحات، وملابس داخلية، ومكياج واكسسوارات"، وتعرض كل بائعة ما في حوزتها من بضائع. القليلات يقبلن على الشراء منها، إذ ثمة شكوك دائمة في جودة بضائع البائعة المتجولة، التي تسعى بشتى الطرق للإفلات من قبضة أمين الشرطة، فهناك تربص ما من جانب "شرطة المترو" بالبائعات المتجولات، فإن كان رحيماً فسيكتفي بطردها خارج العربة، وإن لم يكن، فسيستحوذ على بضاعتها حتى تقوم بدفع الغرامة.
عليكِ أن تكوني حذرة، في الدخول والنزول، في الكلام، وفي الصمت، فبعد يوم من العمل الشاق، ستتبعه أعمال منزلية أخرى، من الأفضل ألا تصبحي عبئاً آخر في طريق بعض السيدات
المساء وقت مناسب للنساء المتسولات بالمناديل الورقية، أو بالحكايات المأسوية، فثمة امرأة شهيرة تدخل إلى "عربة السيدات" عبر خط شبرا في موعد ثابت، تحمل ملفاً بلاستيكياً بداخله أوراق، تقول إنها التقارير الخاصة بتحاليل ابنها المريض.
تحكي المرأة قصتها الدرامية بأسلوب مفجع من فرط دقته، ثم تقوم بإخراج بطاقتها الشخصية لإثبات هويتها أمام نساء يحفظن حكايتها عن ظهر قلب، لكنها لا تيأس، وتستمر في الحكي حتى تتصاعد دراميتها بذرف الدموع وسط انشغال السيدات بـ"نجمة العربة"، وهي تلك الشابة الجميلة، التي تجلس مزهوة بمظهرها، وملابسها التي تتفحصها النساء بنظرات تنطوي على إعجاب وحقد مدفون، ثم تأتي إحدى الفضوليات التي تسألها بتودد عن المحالّ التي ترتادها لشراء ملابسها، وعن قصة شعرها، وغيرها من الأمور، التي لم تستطع الشابة الإجابة عنها إذ بلغت المحطة حيث ستنزل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...