شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عالم بائعات المترو: عندما تتحول عربات السيدات إلى حمام نسائي شعبي

عالم بائعات المترو: عندما تتحول عربات السيدات إلى حمام نسائي شعبي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 9 مارس 201706:21 م
ربما غدت قصة الثامن من مارس، يوم أمس، معروفة لدى أكثر المهتمين بالشأن النسائي في المنطقة العربية. هو اليوم الذي يُعرف أيضاً في الأدبيات المتخصصة باسم "يوم الخبز والورود"، إثر خروج الآلاف من عاملات النسيج الأمريكيات في اليوم نفسه من عام 1908، للتظاهر في شوارع مدينة نيويورك وقد حملن قطعاً من الخبز اليابس وباقات من الورود مطالبات بأمور عدة، على رأسها تخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال. لذا، في اليوم العالمي للورود والخبز اليابس والنساء، قررت أن أقف مع فتيات يسعين في طلب الخبز، أو "لقمة العيش". فتيات المترو يملأن عربات مترو الأنفاق في القاهرة. لا يتوقفن عن الصياح على بضائعهن الرخيصة: "أيوة معايا السويت السوري... معايا الكحل اللي مابيسيحش... معايا شرابات حريمي وكريمات تنعم تعطر تهدي المزاج... معايا نعناع يعطر الفم ويروق الدم... جربي البضاعة يا أختي قبل ما تشتري" . هكذا تنادي الفتيات اللواتي لا تزيد أعمارهن على العشرين عاماً، بصوت مجهد مشروخ لكثرة الصياح. تعدن زبوناتهن من راكبات المترو بجودة عالية، وتقسمن بأغلظ الأيمان على كون المنتجات تحمل على عبوتها تاريخ الإنتاج وانتهاء الصلاحية.

بضائع عربة السيدات: بهجة مختلسة

لم يعد من المستغرب أن تجد فتاة من هؤلاء في عربة السيدات في المترو، وهي تمسك مستحضرات التجميل وتشجع الراكبات على تجريبها قبل شرائها. تحمل مادة دهنية محفوظة في علبة بلا اسم، تؤكد أنها خلطة سرية لا تعرفها إلا نساء السودان، وتدعو "الزبونات" إلى خلع أغطية الرأس لتجربة الكريم. ثم هناك ماكينات نزع الشعر الزائد، إذ تنادي إحدى البائعات مشجعةً الفتيات على الكشف عن أذرعهن أو عن شيء من سيقانهن لتجريبها قبل تسديد ثمنها الزهيد، فيفعلن ذلك خجولات ضاحكات، لتتحول عربة المترو النسائية في دقائق لشيء أقرب للحمام النسائي الشعبي أو غرف مراكز التجميل.

عاملات بلا غطاء اجتماعي

المعروف بحسب الإحصاءات الأكثر حداثة في مجال الاقتصاد وسوق العمل في مصر، أن النساء، اللواتي أعمارهن بين 15- 64 عاماً، يشكلن 22.9% من إجمالي القوى العاملة، بحسب المركز القومي للتعبئة والإحصاء، 2015. وتتمتع 82% منهن بغطاء التأمينات الاجتماعية، وقرابة الـ20% يتكفلن إعالة أسرهن. ونجد في دراسة أقل حداثة، أنجزها البنك الدولي في مطلع الألفية، أن نسبة العمالة النسائية في مصر تمثل نحو 18%، وأن المؤشرات الأولية تُظهر أن أغلب هؤلاء العاملات يشغلن أماكن في قطاعات العمل الأقل استقراراً من ناحية الدخل والحقوق الاجتماعية والتأمين الصحي. كذلك لفتت الدراسة إلى أن المسوح الإحصائية في ذلك المجال كثيراً ما تُسقط من حسابها العاملات في الأنشطة الزراعية والأنشطة الأخرى المصاحبة لها، كالصناعات الغذائية المنزلية وأعمال التجارة المتناهية الصغر التي لا تدر دخلاً ثابتاً على ممارساتها. وهو ما يجعل تلك المسوح في الغالب غير ممثلة لحقيقة المشهد الخاص بالعمالة النسائية المصرية.
عالم مترو الأنفاق المخصص للنساء، الذي يتحول في دقائق لشيء أقرب للحمام النسائي الشعبي أو غرف مراكز التجميل
ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر عقب تعويم سعر الصرف في نهاية 2016، ومع انسداد سوق العمل المصرية وعجزها عن استيعاب القوى العاملة، في مجتمع تقترب فيه نسبة الشباب في سن العمل من 40% من إجمالي تعداد السكان، ومع ارتفاع نسبة الأمية بين الإناث على نظيرتها بين الذكور (33.5% بين الإناث مقارنة بـ18% بين الذكور) فإن قطاعاً عريضاً من الفتيات والنساء المنتصفات العمر لا يجدن بديلاً عن بدء تجارتهن المتناهية الصغر، والتي لا يزيد رأس مالها غالباً على الألف جنيه  (نحو 60 دولاراً) كي يكسبن قوتهن. وفتيات المترو هن من هؤلاء النساء: تاجرات صغيرات يحملن البضاعة وينتقلن.

تعرفوا على "س"

من بين هؤلاء البائعات كانت "س"، التي وقفت وسط حشد من السيدات تصيح منادية على بضاعتها التي تحملها في حقيبة ظهر مهترئة. ظهر حارس الأمن التابع للمحطة على باب العربة لدى توقف المترو عند إحدى المحطات، فدست الفتاة بضاعتها على الفور خلف ظهر إحدى الشابات الواقفات وسألت هامسة: هو ده بتاع الأمن؟ فردت الشابة بصوت خفيض: "شششش... آه هو... اسكتي وخليكي ورا ضهري لحد المترو ما يتحرك". تتذمر البائعة من رجال الأمن على محطات المترو، فهم لا يكفون عن اصطيادها هي وزميلاتها. والوقوع في أيديهم يعني انتظار ساعات في غرفة الأمن والإدارة التابعة للمحطة. "ويا ياخدوا مننا البضاعة يا ياخدوا مننا فلوس... أهو مرار".

بائعات المترو، راكبات المترو، ورجال الأمن: ثلاثة مكونات ثابتة لمشهد متغير

في هذا المشهد تواطأت السيدة الشابة المتأنقة مع البائعة ضد مطاردات الأمن التي يبدو أنها جزء مألوف من حياة بائعات المترو اليومية. لكننا نجد لقطات أخرى تقف فيها بعض النساء ضد البائعات متهمات إياهن بمزاولة نشاط تجاري غير مرخص وفي غير المكان الملائم له. "ر" بائعة منتقبة، ترتدي السواد ولا يظهر منها إلا العينان. صعدت إلى عربة السيدات في محطة "السيدة زينب" الشعبية حاملةً بعض الإكسسوارات البلاستيكية الرديئة الصنع التي تبيعها بأثمان بخسة جداً، والتي لا تجد رواجاً كبيراً على الغالب في عربات المترو، إلا بين المراهقات من طالبات المدارس الثانوية والمعاهد المتوسطة. ما إن بدأت "ر" تنادي على بضاعتها حتى امتعضت إحدى الراكبات من "مزاحمتها" وانحشارها وسطهن ببضاعة رديئة وبصياح مؤذ للآذان، إذ كان الأولى بها أن تعرض بضاعتها في "بوتيك" بدلاً من التطفل على نساء أنهكهن يومهن الطويل في العمل ومواصلات القاهرة الساحقة. رفعت "ر" غطاء وجهها كأنما تعلن عن شخصيتها في "مواجهة شريفة". ثم أخذت تتحدث عن تاريخ الصحابي عثمان بن عفّان وكيف أنه، وهو أشرف منها ومن خصمتها التي تحاربها في لقمة عيْشها، بحسب وصفها، ورث التجارة عن أسلافه، فاهتم بها وعكف على تنميتها. ثم تابعت بإلقاء مسرحي ولغة عربية سليمة، كيف أنه يُنتظر منها أن تعتذر عن ممارستها التجارة أسوة بالصحابي الجليل، لتقي نفسها شر الزلل في أن تتاجر بجسدها ذات يوم. ختمت البائعة "ر" المشهد بإسدال نقابها على وجهها معلنةً إنهاء الجدل، واثقة أنها نالت من خصمتها التي لاذت بالصمت. نالت البائعة تعاطف باقي الراكبات معها في معركتها، وبدأن بالتهافت على الشراء من بضاعتها الرديئة تشجيعاً لموقفها، مع دعوات بسعة الرزق والستر من "أعين الحكومة".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image