في خضم تفشي وباء كورونا، تقلصت رقعة عوالمنا الاجتماعية وباتت حياة الآخرين مثيرة للجدل أكثر من أي وقت مضى.
اليوم، وفي ظلّ الحجر المنزلي، يقضي الكثير من الأفراد أوقاتهم في تصفّح المقالات المصوّرة التي تظهر مثلاً الطاقم الطبي والتمريضي المنهك، أو متابعة أخبار السياسيين وخلافاتهم التي لا تنتهي، أو الاطلاع على "مغامرات" بعض المواطنين/ات، مع كسر القيود وتحدي الإجراءات المفروضة رغم التحذيرات الكبيرة من مخاطر جائحة كورونا.
والواقع أنه مع بدء هذه الأزمة العالمية، بات الجميع يقضي وقتا قياسياً على الشبكة العنكبوتية، بهدف الهروب من هذا الواقع المأساوي وإشباع الفضول البشري، فقد كشف استطلاع عالمي في وقت مبكر من تفشي الوباء، أن 40% من المستهلكين يقضون وقتاً أطول في متابعة وسائل التواصل الاجتماعي.
الفضول البشري
البشر فضوليون بطبعهم، واللافت أن قصصنا الشخصية تُنسج من خلال التبادلات التي نجريها مع قصص الآخرين.
بمعنى آخر، يمكن القول إن القصص تشكّلنا وتحدد ما نحن عليه، فإذا أردنا التعرّف على شخص ما جيداً، يجب علينا معرفة قصته، التجارب التي خاضها ونقاط التحوّل التي اختبرها، وهكذا عندما نريد بناء علاقة وثيقة مع الآخر، فإننا نشارك معه قصص طفولتنا، عائلاتنا، سنوات دراستنا، حبنا الأول، تطور آرائنا السياسية وما إلى ذلك.
واليوم، ومع غياب التفاعل الاجتماعي، ليس من المستغرب أن نستهلك المعلومات والأخبار والتحديثات الشخصية أكثر من السابق، انطلاقاً من طبيعتنا البشرية كأفراد فضوليين وأهمية تبادل قصصنا، كما أوضحت المحاضرة في جامعة برونيل في لندن، آن تشابيل، التي درست هذا السلوك مؤخراً، جنباً إلى جنب مع الأستاذة المشاركة في جامعة بليموث، جولي بارسونز.
ومع ذلك، يبدو أن اهتمامنا بحياة الآخرين أثناء الوباء، قد وصل إلى آفاق جديدة وخرج من طابعه السلبي: عندما تكون السلوكيات غير مسبوقة، يمكن أن تساعدنا مراقبة الأشخاص الآخرين في معالجة كل منعطف وحدث للوباء، وحتى تعلّم كيفية التكيّف مع أنفسنا.
المنصات الإلكترونية تجلب عنصر الهروب من الجدران الأربعة، من خلال التعمق في حياة الآخرين وكأننا نحلّق فوقهم على متن طائرة افتراضية
"الإنسان بطبعه يميل لمقارنة نفسه مع محيطه"، هذا ما قالته الأخصائية في علم النفس لانا قصقص، في معرض حديثها عن الفضول الذي يدفع العديد من الأشخاص لمراقبة الآخرين ومتابعة أخبارهم عبر السوشال ميديا.
غير أن الحياة على منصات التواصل الاجتماعي قد تعطي صورة زائفة عن الواقع، بحسب ما أكدت قصقص: "بالرغم من الخلافات الحادّة والمستمرة، قد يقوم بعض الأزواج بنشر صور شخصية تظهر الحب والغرام، وهو أمر يعكس صورة مغايرة عن حياتهم العاطفية"، مشيرة إلى أن مثل هذه الصور المنتشرة في الفضاء الإلكتروني "تثير غيرة الآخرين، وتجعلهم يبحثون عن علاقة مشابهة وسعادة زائفة".
وأضافت لانا لرصيف22: "في بعض الأشخاص بيخلقوا عالم مزيّف على السوشال ميديا، وللأسف الأفراد يلي عندهن هشاشة نفسية بيتأثروا أكتر بهالمسألة".
وفي خضم أزمة كورونا، أكدت قصقص أن الأفراد بات لديهم وقت فراغ أكبر، وبالتالي باتوا يبحثون عن وسيلة للهروب من الملل، ومن "الحيطان الأربعة يلي عايشين فيهن"، على حدّ قولها، منوهة بأن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت الوسيلة الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي.
وبمعزل عن الجانب السلبي الذي يحيط بعالم السوشال ميديا، اعتبرت لانا أنه من خلال هذه المنصات الإلكترونية، بات بإمكان الأفراد تشكيل مجموعات دعم لتعزيز الشعور بالأمان المشترك، في ظل هذه الظروف الاستثنائية التي نمرّ بها جميعاً.
تشكيل الفهم المشترك
لا شك أن استراق النظر لخصوصية الآخرين ليست مسألة حديثة، ففي السابق، كانت تشكل المجلات والجرائد "نافذة" على حياة المشاهير، وتسمح للقراء بالغوص في حياتهم الخاصة وطريقة عيشهم خلف الأضواء، ولكن اليوم باتت هناك طرق أكثر بكثير للاطلاع على ما يقوم به الغير، سواء كان ذلك عبر المقالات المصورة التي تضيف بعداً ووجهات نظر بشرية لقصص اليوم، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كفيسبوك وانستغرام ومؤخراً تطبيق كلوب هاوس clubhouse، وغيرها من المنصات المتنوعة التي توفر طرقاً مختلفة لمراقبة الآخرين.
نحن في نهاية المطاف نتطلع دوماً إلى حياة الآخرين، لفهم حياتنا الخاصة وتشكيل قصصنا الفردية من خلالهم
واللافت أن هذه الرغبة في خرق خصوصية الآخرين ليست مجرد voyeurism (استراق النظر)، بخاصة وأن هذه الكلمة غالباً ما تشير إلى سلوك غير قانوني أو جنسي، يتمثل في التلصص ومراقبة الآخرين وهم يقومون بنشاط معيّن، كخلع ملابسهم أو الانخراط في نشاط جنسي، بالطبع دون الحصول على موافقتهم، مع العلم أن الاهتمام هنا يكون أكثر بفعل المشاهدة وليس بالشخص الذي تتم مشاهدته.
ومع ذلك، أكدت آن تشابيل أن ما نحصل عليه من مراقبة الآخرين، وهو غالباً ما يكون تصرفاً غير مقصود من جانبنا، ليس "انبهاراً مرضي"، بل يصبّ في محاولة فهمنا للعالم من حولنا.
وفي هذا الصدد، أعطت تشابيل مثالاً عن المذكرات التاريخية، مشيرة إلى أنها أكثر من مجرد أفكار لشخص واحد، بل تخبرنا عن الحياة الفردية لهؤلاء الأشخاص وكيف كان المجتمع من حولهم.
إذن، يبدو أن رغبتنا في مراقبة الآخر قد ولدت من الرغبة في تبادل المعلومات حول من نحن عليه، من خلال القصص التي نرويها عن أنفسنا.
وتعليقاً على هذه النقطة، قالت تشابيل: "كل القصص التي نواجهها شخصياً مع أشخاص آخرين وتلك التي نقرأ عنها، نرى عنها، نسمع عنها، ونتفاعل معها، جميعها لها نوع من التأثير في تشكيل فهمنا المشترك للمجتمع".
"المراقبة" في زمن كورونا
منذ أن اجتاح فيروس كورونا العالم بأسره، أصبحنا مهتمين أكثر بقصص العالم من حولنا، انطلاقاً من رغبتنا المتزايدة في استهلاك جميع أنواع المعلومات التي من شأنها ملء فراغ حياتنا اليومية: "مع زيادة العزلة الاجتماعية أثناء الوباء، نشعر بالفضول والاهتمام بحياة من حولنا"، وفق ما أكده سابرينا رومانوف، أخصائية علم النفس الإكلينيكي في مستشفى لينوكس هيل في مدينة نيويورك.
وبدورها اعتبرت لورا تاربوكس، الخبيرة في استراتيجية الثقافة والعلامة التجارية التي تدرس التحولات والسلوكيات الناشئة في وسائل التواصل الاجتماعي للعملاء، أن هذه المنصات الإلكترونية تجلب عنصر الهروب من الجدران الأربعة، من خلال التعمق في حياة الآخرين وكأننا نحلّق فوقهم على متن طائرة افتراضية، مضيفة بأن هذا الأمر من شأنه "توفير علاج وهمي لفرص الاتصال مع العالم الحقيقي الذي تم تجريدنا منه".
على الرغم من أن هذه التفاعلات قد لا تكون مرضية مثل اللقاءات المباشرة، أي وجهاً لوجه، إلا أن منصات وسائل التواصل الاجتماعي هي إحدى الطرق القليلة التي تساعد على التواصل مع البشر الآخرين.
يمكن أن تساعدنا مراقبة الأشخاص الآخرين في معالجة كل منعطف وحدث للوباء، وحتى تعلّم كيفية التكيّف مع أنفسنا
بالإضافة إلى ذلك، تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في وضع معايير حياتية جديدة، كالتذمّر مثلاً عند رؤية صور زفاف والمدعوين فيها من دون كمامات، بحسب ما أكدته تاربوكس بالقول: "نراقب وسائل التواصل الاجتماعي، سواء بوعي أو بغير وعي، لفهم القواعد الجديدة لما هو مقبول أثناء الوباء، أي لاستيعاب رمز اجتماعي جديد يتم إنشاؤه في الوقت الفعلي... ما هو المقبول أن نفعل؟ كيف يجب أن نتصرف؟ مع من يمكن أن نكون؟ وما هو الآمن لمشاركته؟ بعبارة أخرى، باتت وسائل التواصل الاجتماعي المكان الذي نلتقط فيه الإشارات ونتعلم القواعد".
هذا وتوفر حياة الآخرين مكاناً للمعالجة النفسية الجماعية، بحسب تأكيد سابرينا رومانوف: "إن رؤية مخاوف الآخرين مكشوفة في منشور، أو التحقق من صحتها من قبل الآخرين الذين يعجبون بها أو يعلقون عليها، يمكن أن يكون لها تأثير مهدئ. هذه العملية تسمى "التعريف الإسقاطي" Projective identification.
وبالتالي إذا كنتم من الأشخاص الذين يقضون المزيد من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة ما ينوي الأصدقاء وحتى الغرباء فعله، أو تتبع حياة المشاهير عبر الفضاء الإلكتروني، فهذه كلها ليست أفعال "كسولة" وعادات "فضولية"، بل طريقة للتغلب على قيود عصرنا ومعالجة مخاوفنا الشخصية وفهم عالمنا الجديد الغريب، فنحن في نهاية المطاف نتطلع دوماً إلى حياة الآخرين، لفهم حياتنا الخاصة وتشكيل قصصنا الفردية من خلالهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...