السؤال الأساسي في علاقة الإنسان مع الله، هو كيف يمكن أن نفهم الله؟ بشكل واضح وجلي هناك طريقتان لفهم الله، الأولى هي النظر للإله على أنه كيان لا يجب أن نقوم بأي خطأ اتجاهه، وألا نقع في أي معصية، ولا نقوم بأي تفكير يؤدي بنا إلى إشعال جذوة الغضب الإلهي على الكائنات البشرية البائسة، لأنه غاضب دائماً ويريد تدمير أي خطّاء بأسوأ صورة حياتية وأزلية في جحيم لا مغفرة فيه. وهذه الصورة هي ما ترسخه السلطة الدينية القائمة، والقائمة على أن الله هو الكيان الذي لا تتجرأ في التفكّر به في أي شيء خارج نطاق المؤسسة الدينية التي تقوم مهمتها على تأويل النصوص المقدسة وتأويل الله نفسه بما يخدم مصالحها.
إنّ أي محاولة منك كفرد للتفكير خارج ما تبيحه تلك المؤسسة، كون وصمة الإلحاد بك جاهزة دائماً، ستكون محاولة لأن يغضب الله منك. تشعر في ذلك الخطاب وكأنّ الله قاتل متسلسل يريد إفراغ كل شيزوفرينيته العاطفية فيك. إنها طريقة سهلة من حيث خضوع القطيع الديني لسلطة الكهنة والمؤسسات التي تشكلها، وتتحكم بوعي البشر لقبولهم كل واقع مهما كان مزرٍ، تحت اسم إرادة الله الإمتحانية. جرّبْ أن تفسّر الأشياء بمنطق حتى تقوم عليك الدنيا بأكملها. وطبعاً هذا التصوّر عن الإله الغاضب لا يخلو من تقديم رومانسي للعلاقة بين البشر والله، لكنها رومانسية خاضعة، وهو ما سنناقشه لاحقاً.
أما الطريقة الثانية، فهي الأصعب نسبياً، لكنها الأكثر إمتاعاً، لأنها تنظر للإله على أنه كيان يمكن تأويل وجوده وما قاله وما فعله بشكل منطقي وعقلاني. لكنه الأصعب لأنه مُجابَه من كل قوة دينية مسيّسة. فالتفكر المنطقي الفرداني بالإله يُغضب سلطة الدين ومصالح كهنته اللصوص والأجراء لدى السلطات السياسية. واحدة من الأشياء التي تحاول السلطات الدينية إقناع الناس بها دائماً، هي شيء أقرب لمقولة (تشكّر دون تفكّر) احمد الله على كل النِعم المتاحة.
التصوّر عن الإله الغاضب لا يخلو من تقديم رومانسي للعلاقة بين البشر والله، لكنها رومانسية خاضعة
دائماً ما تصادفني، في عالم الانترنت، بعض العبارات الدينية التسويقية والتي أصبحت حقيقة الدين. ولا أحد يريد النظر إليها كأساليب من الذهنية الوثنية المعاصرة التي يقوم بها البشر دون تفكّر. تدعو تلك الثقافة الناس إلى شكر لله دائماً وأبداً، وحمده على كل ما يُحيط بنا، كون ما نعيش فيه هو نعمة من الله علينا. يُقصد بمفهوم النعمة هنا الهِبة، الأعطية، الهِبات الكثيرة التي لا تنتهي، والأشياء الفائضة، غير الضرورية، الزائدة عن الحاجة. لكن الله أراد أن يقدمها لنا؛ مثل الهواء والماء والرمل والشمس الخ.
يتعامل الجميع، في مسألة التسويق الديني الرائج، مع هذه الأمور على أنها هِبة الله لنا نحن العباد الفقراء؛ يُشعِرونك وكأنك كائن لا تستحقها وأنها فائض يجب أن تظل طوال حياتك تركع من أجل إعطائها لك. إنها تشبه في سياقها تماماً صورة الرئيس الملك الواهب للشعوب بعض الأعطيات، فالسلطة الدينية تريد إقناع الناس بأعطيات الله بنفس المعنى الذي يريدون فيه إقناع الشعوب بأعطيات وهِبات الملك.
نعود إلى السياق، هِبات الله للبشر، كهواء مجاني وماء يروي الظمأ، والشمس ودفئها... إنها تقديم إلهي للبشر بشكل يقوم على معجزة رومانسية. إنها محاولة ترسيخ ثقافة العلاقة بين العبد والرب على أنها رومانسية محضة ويجب عليها أن تستمر بالشكر والحمد دون أي فكرة مغايرة أو تفكير مختلف.
وهنا لا أريد أن أناقش المواضيع كعلوم مجردة كي لا يخرج أحد ويُطلق كالعادة أراءه بالإلحاد، كتسميات شائعة وعامة، بل سأناقش فلسفة العلم الإلهي من منظور الله نفسه.
عزيزي المؤمن في كل الأديان، عندما خلق الله الماء والهواء والشمس، فلم يخلقها لأنها نعمة أو هِبة إضافية للوجود، بل هي ضرورة للوجود. وجودها ضرورة لفيزيائية الجسد الذي يحملنا ونعيش فيه كأرواح.
التفكر المنطقي الفرداني بالإله يُغضب سلطة الدين ومصالح كهنته اللصوص والأجراء لدى السلطات السياسية
الله مجبر على خلق الماء والهواء والشمس، لأنّ عدم خلقها سيعني الفناء البشري، وعليه يسقط التابع الرياضي لوجودنا وهو التفكّر بقيمة الله. العلاقة مترابطة رياضياً. فالتفسيرات الرومانسية في علاقة الإنسان بالله هي من مصلحة السلطات الدينية لإنشاء أكبر قدر من القطيع الذي لا يفكر بل يشكر دون أي إعمال للعقل.
الآن قد يخرج أحد ليقول بأن التفسير الرياضي غير مقبول لأنّ الله يستطيع أن يُنشئ كائن بلا ماء ولا هواء ولا شمس ويبقى حياً. وهذا صحيح، لأن الله كلي القدرة ويستطيع فعل ما لا يمكن لإنسان تخيله. لكن حتى في خلق كيان لا يحتاج كل تلك الأشياء آنفة الذكر. فهو أيضاً مضطر لخلق عناصر مختلفة لاستمرار كيان البشر والحيوانات، حتى وإن كنا كبشر عبارة عن هلام لا نتغذى على شيء، فالله مضطر لخلق عناصر تناسب بقاء الهلام هلاماً وتحميه ليستمر لإنشاء القاعدة الثانية لوجوده؛ وهي التفكّر. فلا يمكن اعتبار تلك العناصر التي تقوم بمهمة حماية الهلام أنها هِبة إضافية من الله. إنها ببساطة ضرورة لاستمرارنا البشري مهما كان نوعنا الفيزيائي إن كنا صلصالاً أم هلاماً.
لذا فإنّ التشكّر دون التفكّر، هو نوع من الوثنيّة الحديثة، التي تعطي الأشياء ما هو أكبر من حجمها. إن تعظيم العلاقة بشكل رومانسي بين البشر والله على أنه خضوع مطلق ولا يجب التفكير فيه كنقاش طبيعي بين كيانين، هو طريقة يتم استخدامها من قِبل القوى السياسية للأديان. وذلك لتهميش التفكير العقلاني في كينونة الإله، تماماً مثل المثال الذي أوردناه في المادة، بأنّ الخلق الإلهي للعالم ليس لهدف البطر الزائد لكينونة الوجود، بل هو ضرورة الوجود.
في مثال آخر، الله لم يخلق حزام كيبلر كي نقول "سبحان الله" بل هو ضرورة وجودية كي نفهم ماهية تشكّل العالم لنحافظ لاحقاً على استمرارنا الفيزيائي الذي هو الهدف الأساسي من خلق وجودنا ليلحق به الهدف الثاني وهو التفكّر في الإله.
ولا يخرج أحد الآن ليناقش أهمية التفكّر بالإله على الوجود الفيزيائي، لأن المنطق والعقل والبديهة تقول إن كان لا وجود فيزيائي لنا فلا وجود للتفكّر بالإله. إذاً، أهمية الاستمرار الفيزيائي سابقة على العبادة من المنظور الإلهي نفسه. فكل شيء في هذا الكون هو ضرورة لاستمرارنا الفيزيائي من أجل تحقيق الغاية الثانية.
السلطة الدينية تريد إقناع الناس بأعطيات الله بنفس المعنى الذي يريدون فيه إقناع الشعوب بأعطيات وهِبات الملك
أما المسألة الأكثر سخرية، والتي يروجها كهنة المؤسسات الدينية وتدعم فكرة الرومانسية البشرية في فهم المحيط بنا وعلاقتنا مع الله، هي فكرة خلق العالم من قِبل الإله، من أنّ الله خلق البحار والأشجار والشمس والقمر والهواء والماء وكل شيء، ثم جلس يفكر بأن هناك شيء ناقص. تشعر وكأنّ الله في هذا التصوير، قد وضع يده على خده متفكّراً: "ما هو الناقص؟ ما هو الناقص؟" وفجأة اكتشف أن ما ينقصه هو الإنسان فخلقه؛ وهذه هي الصورة النمطية للخلق في كل الأديان السماوية.
ألا أباد الله وثنيتكم أيها الكهنة المختفون في جلباب التوحيد.
تشعر بترويج تلك الصورة عن الله، وكأنّ الله عبارة عن كائن ضجر لا يعلم ماذا يريد قبل بخلق الأشياء. وهذه الصورة تتنافى مع المعرفة الأزلية لله، لأنه عندما بدأ بخلق العالم كان يعلم أنه سينتهي في خلق الإنسان، فالترابط رياضي أصلاً، لأنّ الشمس والماء والهواء ضرورة لوجود الإنسان الفيزيائي أيها العباقرة المؤمنون. عندما تروجون ذلك التصوّر عن الخلق الإلهي، فأنتم تحطون من قيمة الله، هذا التصور الوضيع هو ما تروجه المؤسسات الدينية المسيّسة.
وعليه، التشكّر دون تفكّر، والتعامل مع الإله بالصورة الرومانسية هو خطيئة منطقية وعقلانية في وجود الله وتعادل تماماً الخطيئة التي تروجها مؤسسات الدين السياسي عندما تحاول التفكّر في مسائل خارج بنود تلك المؤسسات.
الله لم يخلق الإنسان لأنه بحاجة لعبادات الإنسان، فهو موجود منذ الأزل إلى اللانهاية، فلا معنى لعبادة روتينية وغير مفكّرة في قيمة الإله. الله بحاجة لتطوّر العقل البشري من أجل التفكير في الحفاظ على الوجود الفيزيائي لنا أولاً، ولنتأمّل في قيمة الإله ثانياً، ونقوم بالتأويلات المنطقية للاجتهاد في قيمته من منظورنا البشري، لأنّ قيمة الإله أزلية ولا تُقاس أصلاً، إنما يُجتهد لفهمها فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...