كانت فرحتي كبيرة، أنا الولد الواقف في الصفوف الأمامية بالقرب من أرجل المشيعيّن الذين وصلوا إلى حافة القبر، واصطفوا يستمعون إلى صلاة الجنازة ويرددون خلف الشيخ كلمة آمين برتم موسيقي رتيب؛ النساء في الصفوف الخلفية يلبسن السواد والتعب، بعيون مبللة بالكحل، يجلسن على القبور القديمة كأنما مخرج سينمائي قد وزع الأماكن بدقة مبدعة، حتى اليوم لا أفهم كيف رأيت المشهد جميلاً بل ساحراً مع أنه كان في المقبرة!
لربما السبب لحظة ما غريبة لا يمكن تفسيرها حتى الآن، لكن يمكنني أن أفسر فرحي الكبير حين قال الشيخ مخاطباً جارنا أبا أحمد الممدد في كفنه داخل الحفرة: عندما يأتيك الملاكان منكر ونكير...، رائع رائع صرخت في سري فرحاً، نعم رائع يبدو أن الله ليس كما يشاع عنه شديد العقاب وقاس، وقاهر، ويحرق بالنار، ها هو بكل طيبة ولطف يرسل مهرجين يضحكان ويسليان أبا أحمد في ليالي وحدته هنا في المقبرة، كنت أظن أن منكر ونكير ثنائي كوميدي كما لوريل وهاردي أو توم وجيري أو جودي وأسعد، حتى أن تركيبة الاسمين بهذه الأحرف المتشابهة، غريبة ويمكن أن تستثير الضحك بحد ذاتها.
في الهداية الدينية والأخلاق، ثمة رصانة مملة لا يجوز كسرها بالمزاح والفكاهة، حسب يوحنا ذهبي الفم، لم يعرف عن المسيح أنه قد ضحك مرة أو حتى ابتسم، عادة ما يتم تسويق شخصية الرسول محمد على أنه مزّاح ويحب الضحك، لكن يمكننا هنا أن نفرق بين شخصية النبي وشخصية الرسول، بين لحظته الدينية ولحظته كإنسان طبيعي، هل كان يمكن للرسول أن يمزح في تفاصيل الرسالة المكلف بها؟ حتى أنني حين قرأت ما نقل إلينا من مزاح يُنسب إلى النبي وجدت ذلك مواقف سمجة لا تثير الضحك، لماذا تخلو الكتب السماوية من أي نكات وطرافة؟ كيف للفكر الديني الذي بني على الخطيئة الأولى وكون الإنسان مبللاً بالذنب، كيف له أن يمازح ويطلق الفكاهات، لماذا لم يأخذها الله بروح رياضية و"يمشّي الموقف" الذي يخص حادثة الطرد من الجنة لأجل تفاحة لا معنى لها… لماذا لم ينتبه إلى إبليس حين غمز بعينه، تعبيراً عن دهشته من الموقف كأنه يقول له: "إي ولو بلا مزح تقيل.. .شوية طين جبلتن جاي تخليني اسجدلو!".
كيف للفكر الديني الذي بني على الخطيئة الأولى وكون الإنسان مبللاً بالذنب، كيف له أن يمازح ويطلق الفكاهات، لماذا لم يأخذها الله بروح رياضية و"يمشّي الموقف"؟
إن وجد الضحك في النصوص الدينية، فحتماً أنه لا يخرج عن مسارين اثنين هما: إما الاستعلاء على الكفار أو مكافأة مؤجلة للمؤمنين، "الساكن في السَّمَاوَات يضحك. الرَّبُ يستهزئ بهم"( سفر المزامير (2 :4)، خلا حادثة واحدة تخص التقاط المفارقة التي تعتبر أصل الضحك، إذ جاء في العهد القديم " فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة؟ وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة".(تك 17-17)، حتى هنا يستخدم الضحك كدلالة على الدهشة من مقدرة الخالق، وقد جاء في سفر الجامعة 7، ما يمجد الكآبة ويسخف الضحك "الغَمُّ خَيرٌ مِنَ الضَّحِكِ، وبكآبةِ الوجهِ يَنتَفِـعُ القلبُ، قلبُ الحُكَماءِ في بَيتِ النُّواحِ، وقلبُ الجُهَّالِ في بَيتِ المرَح".
كما جاء في العهد الجديد "طوبى لكم أيها الجياع الآن، لأنكم تشبعون. طوبى لكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون"( لوقا 6-21)... نعم إنه التأجيل الذي يطال كل ملذات الحياة بما فيها الضحك، يذكر أن يوحنا الذهبي الفم قد أشار إلى عدم جواز الضحك، وأنه من غير المقبول ولا المعقول أن نضحك بينما المسيح يتألم على صليبه لأجلنا، فالنحيب هو الفعل الأكثر ملائمة للحياة الدنيوية.
إن وجد الضحك في النصوص الدينية، فحتماً أنه لا يخرج عن مسارين اثنين هما: إما الاستعلاء على الكفار أو مكافأة مؤجلة للمؤمنين.
بعد الانفراجات المحدودة في موقف الكنيسة الرسمي خلال العصور الوسطى، جاء التطهريون في إنجلترا، في القرنين السادس والسابع عشر، بحملة دموية ضد الضحك والكوميديا، ولم يخرج القرآن عن هذا الفهم والتسويق لمعنى الضحك، فيحتوي على ذكر للضحك كعلامة على الاستعلاء على الكافرين والنصر عليهم، إلى جانب آيات تبشر المؤمنين بالضحك، إشارة إلى حسن الخاتمة يوم القيامة، وآيات تدل على كونه فعلاً خلقه الله مثل كل الأفعال "وأنه هو أضحك وأبكى" ( النجم-43).
الحياة الطبيعية لا تستطيع أن تكون بلا فكاهة وسخرية ومزاح، إنها من نسيج الحياة والعيش، فإننا نجد أن العصور التي بردت فيها مسائل الدعوة الدينية واتجه المجتمع الإسلامي من حالة القبيلة والصحراء إلى فضاء المدنية والتمازج مع الشعوب الأخرى، في العصرين الأموي والعباسي، نجد أن المجتمع قد عاد إلى طبيعته كمجتمع في ممارسة الفكاهة والضحك في المجالس العامة وحتى في مجالس الخلفاء والولاة، وليس الجاحظ وتراثه في الفكاهة إلا أحد الأمثلة المعبرة، وقد اشتُهرت شخصيات كوميدية في ذلك العصر مثل أبي العيناء وجحا والجمّاز وغيرهم، لكن في لحظات هبوط الأمم والحضارات يحصل النكوص.
فاليوم نجد المتشددين من المسلمين يعتبرون حتى صوت المرأة عورة، فما بالك بضحكتها؟ إنهم حماة الدين وروحه الحقيقية، يخرجون من إنسانيتهم الطبيعية ليتقمصوا شخصية نمطية معدة سلفاً أساسها الهداية والقسوة، فالجدية والكآبة سمتان تلتصقان في الأديان بل تكادان تكونان آلة إنتاجها، الضحك والمزاح يكسران الحواجز ويهددان مشروع الهداية الرصين. إننا في المفاهيم الشائعة نجعل للهزل نقيضاً هو "الجد". والهزل يقترن بصفات أخلاقية واجتماعية مثل "المجون"، "اللامبالاة"، "الطيش"، "قلة الهيبة"، "الباطل".
مع أن هناك بعض الدعوات التي تحاول نفي هذه الصفة عن الدين، فمثلاً قام عالم الدين والصحافي الألماني هاينريش فيستفال" بجمع أحسن النكت الدينية في كتابه "الضحك حتى في المقدس". يريد فيستفال من خلال كتابه تغيير الصورة النمطية عن القساوسة الذين يُنظر إليهم بأنهم "موظفو الله على أرضه" ويرفضون المزاح. يبدو أن كتابه ليس إلا دليلاً على ندرة الضحك في المقدس لا العكس، أن تكتب كتاباً يتتبع التنكيت ضمن المقدس كأنما تؤكد ندرته، إنها حالة دفاعية صرح بها الكاتب نفسه، هذا يدل كذلك على أن المجال الديني منذ الله حتى آخر رسول وداعية لا يستسيغ الضحك والمزاح بشكل تلقائي، وقد قال في معرض دفاعه عن القساوسة أنهم ليسوا موظفي الله على الأرض، فهم بشر طبيعيون يمزحون ويضحكون، هذا يؤكد أن الله شخصية جادة وصلبة ولا تعرف المزاح، وليس بين أسماء الله الشهيرة أي صفة تدل على كونه يتصف بالمرح والطرافة بل أكثرها يؤكد العكس.
نجد المتشددين من المسلمين يعتبرون حتى صوت المرأة عورة، فما بالك بضحكتها؟ إنهم حماة الدين وروحه الحقيقية، يخرجون من إنسانيتهم الطبيعية ليتقمصوا شخصية نمطية معدة سلفاً أساسها الهداية والقسوة، فالجدية والكآبة سمتان تلتصقان في الأديان بل تكادان تكونان آلة إنتاجها
الأديان تجردك من إنسانيتك، حين تدعي رفعك إلى مصاف الملائكة، مع أن الفلسفة عرّفت الإنسان أنه حيوان ضاحك، الضحك هو التقاط لحظة المفارقة، الضحك اهتزاز النسق، هو القطع المفاجئ للمسار الرتيب في الموقف سواء كان منظوراً أو مسموعاً، يقابله التجهم كنوع من التصلب والتحجر، إذ يذكّر بحالة السكون الأخيرة، يذكر بالموت، فيأتي الضحك تعبيراً عن الحركة وعن الفكاك من هذا الصلب وبث الحياة والسخرية من الموت قاهر البشر، حسب أبي حيان التوحيدي الضحك قوة تنشأ عن تفاعل قوتي العقل والغريزة، حين يرد إليها شيء طارئ يحدث تعجباً معيناً، يستثير الرغبة في البحث عن السبب والعلة، كما أن الضحك فعل يذكرك بأنك كائن اجتماعي بطبعك.
يقول برغسون في كتابه الذي يفلسف الضحك "إننا لا نتذوق الهزل 'النكتة' إن شعرنا أننا وحدنا، إذ يبدو أن الضحك يحتاج إلى الصدى (...) إن ضحكتنا هي دوماً ضحكة المجموعة". (برغسون، الضحك، ص 12).
ثمة حادثة تروى عن أحد الذين ادّعوا النبوة، الرجل الذي اقتاده الحراس إلى مجلس الخليفة، وبعد سؤاله عن صحة الدعوة وفحواها، سأله الخليفة عن القوم الذين أُرسل إليهم فصاح متذمراً: "أوَتركتموني أُبعث إلى أحد... بُعثت في الصباح... وقبضتم عليّ عند الظهيرة!".
حين قرأت هذه الحادثة، ابتسمت وقلت في سري لو أنني كنت في زمن ذاك الرجل لآمنت به لظرافته فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...