موجة غضب عارمة اجتاحت المدونين السودانيين عقب تصريح لوزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي في القاهرة، فهم منها أنها تدعو الدول المجاورة إلى استعمار بلادها.
قالت الوزيرة: "كما تعلم استاذي، أن السودان به ولله الحمد أراضٍ واسعة، وهو من الدول الأقل سكاناً في العدد، لذلك نريد أن نصل بصورة إستراتيجية لمعادلات تعاونية مع كل جيراننا الذين لديهم حاجة لأراضٍ، لأنه بهذه الصورة نستعمر أراضينا".
"نستعمر أراضينا" كانت كافية لفتح أبواب جهنم صفحات التواصل الاجتماعي على كريمة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، في زيارتها الثانية خارج الحدود، منذ توليها المنصب الدبلوماسي الرفيع شهر شباط/فبراير المنصرم.
وقد اعتبر الكثيرون أن تلك الدعوة لاحتلال بلادهم، تزامنت مع الارتباك البادي الذي ظهرت عليه الوزيرة، في مؤتمرها الصحافي بمعية نظيرها المصري سامح شكري، بما لا يليق بمنصب لسان حال السودانيين للخارج.
من جانبها ردت الخارجية السودانية على ذلك الهجوم الكاسح ببيان رسمي أوضحت فيه أنها ترصد بالأسف التناول غير الموضوعي في وسائل التواصل الاجتماعي، للتصريحات التي أدلت بها مريم الصادق وزيرة الخارجية أثناء زيارتها لجمهورية مصر العربية، مشيرةً الى أن مضمون حديث الوزيرة قد أُسيء عرضه.
وأكد البيان أن مريم الصادق هي وزيرة الخارجية في الحكومة الانتقالية التي أتت بها ثورة ديسمبر المجيدة، وأنها تضع نصب عينيها السيادة غير المنقوصة للسودان.
استدعاء ذكريات أليمة
وبمجرد سماع السودانيين بكلمة جيرانهم حاضرة بجوار كلمة (نستعمر)، نهضت كل الأحاسيس المخبأة بداخلهم إزاء ما يرونه من محاولات انتقاص من سيادتهم، وهم الذين أنجزوا لأجل حرياتهم ثلاث ثورات شعبية للإطاحة بالجنرالات عمر البشير (نيسان/أبريل 2019) وجعفر النميري (نيسان/أبريل 1985) وإبراهيم عبود (تشرين الثاني/أكتوبر 1964).
وانتظمت حملة للمناداة بالإطاحة بمريم، متهمة إياها بضعف القدرات الدبلوماسية، ودعوة الإثيوبيين والمصريين لاستعمار التراب الوطني.
في الوقت الذي يرى البعض ما بدر من الوزيرة هو خيانة للكرامة الوطنية في أقل تقدير، يرى آخرون أن منصات التواصل الاجتماعي تتعمد بدأب ملحوظ في دق الأسافين بعلاقة البلدين، عبر تضخيم كل حدث، وتصوير كل إساءة شخصية بأنها موقف الدولة المصرية، مع إثارة الروح الشعبوية
ولمزيد من الفهم، فإن من يقول بأن الوزيرة دعت إثيوبيا لاستعمار أراضٍ سودانية، يذهب إلى حديثها المقروء بالسؤال الموجه إليها عن تطورات الأوضاع مع الجارة الشرقية إثيوبيا.
أما من قال بأن دعوة الاستعمار مقصود بها مصر، فعمد إلى مشاهدة المقطع المجتزأ من حديثها، وربطه بالزيارة، ومن ثم توجه إلى منصات التواصل الاجتماعي ليشارك بفاعلية في هاشتاغ #اقالة_مريم_الصادق.
فخ اللغة
قبل استجلاء الجانب السياسي لأحاديث الوزيرة، يلزمنا فحصه من جوانب لغوية.
يقول أستاذ اللغة العربية بعدد من الجامعات السودانية، محمد بشير طه، إن الفعل (اِستَعمَرَ) يأتي بمعنى الاستخلاف والإعمار (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) وبالتالي فإن الوزيرة حسب إفادته لرصيف22 تريد التعمير وليس إنهاء حقبة الاستقلال والتحرير وإعادة الاستعمار.
أما عن سوء الفهم الذي وقع لكثير من الناس، فيعتقد طه بأن منشأه هو تفسير حديثها في سياق (الدول الاستعمارية) التي تحتل دولاً أخرى بدعوى إعمارها، وهو ما أثبتت التجربة –معظم الأحيان- خطله ومفارقته للواقع.
وعليه –والكلام لا يزال لطه- سقطت مريم في فخ الالتباس اللغوي، فيما كان بالمقدور توضيح دعوتها للتكامل بين السودانيين وجيرانهم بطريقة أكثر حصافة ودبلوماسية، وتجنب استخدام كلمات قد يكون لها عدة مدلولات في سياقات العلاقات الخارجية بين الدول، وطبيعي أن تثير حفيظة السودانيين.
خيانة لمعركتنا مع إثيوبيا
معظم الانزعاج من حديث مريم، في حال ذهبنا بموضوعية إلى أنها تنشد التكامل مع إثيوبيا؛ نجده يجيء بالتزامن مع خوض الجيش السوداني لمعارك ضارية مع القوات والمليشيات الإثيوبية على الحدود الشرقية.
ويشير آخر الأخبار الواردة من هناك إلى وقوع معارك عنيفة بين الجانبين، بعدما قرر الجيش السوداني إعادة انتشاره، واستعادة أراضٍ وقرى شديدة الخصوبة، من قبضة القوات والعصابات الإثيوبية المعروفة محلياً باسم (الشفتة)، في ظل انشغالات الجيش الفيدرالي الإثيوبي بخوض صراع أهلي ضد جبهة تحرير تيقراي.
تحركات الجيش السوداني تطابق ما جرى في العام 1994 حين سحب عمر البشير، الجيش السوداني من على الحدود الإثيوبية عقب الصراع ألاهلي بجنوب السودان (دولة جنوب السودان حالياً)، وهو ما سمح للإثيوبيين بوضع أياديهم على قرابة 40 قرية سودانية في منطقة الفشقة الحدودية، وإقامة مستعمرات عليها، مُدت بخدمات المياه والكهرباء، وتم ايصالها بطرق برية لداخل العمق الإثيوبي.
من جانبها تصف إثيوبيا ما جرى بأنه احتلال لأراضيها، فيما يصر السودان على استعادة المتبقي منها ولو بقوة السلاح، ضمن عملية عسكرية واسعة، وسط مخاوف من إنزلاق الأمور إلى أتون حرب شاملة بالمنطقة.
ويصف كثير من المغردين اللغة المهادنة للوزيرة، في ظل مدافعة الجيش السوداني عن التراب ضد الهجمات الإثيوبية، بأنه أمر يرقى للخيانة، وعليه فإن مطلب الإطاحة بها قد يتحول إلى أمر موضوعي بالنسبة للسودانيين الذين يعتقد معظمهم أن جيشهم يخوض حرباً للتحرير في الجبهة الشرقية، ويحتاج إلى كامل الدعم، لا العبارات المُخذلة.
حمولات تاريخية مع مصر
لا يمكن تفسير دخول مصر في خضم هذا الصراع إِلَّا من بوابتين، بوابة القراءات الرغائبية القائمة على اجتزاء التصريحات ومن ثم محاولة قيادة الرأي العام لتبني مفاهيم مغلوطة حولها، أو من بوابة التحريض بحشر كثير من أسباب التباين والخلاف وتسويقها لخدمة أجندات محددة.
وبالرغم من أن حديث الوزيرة عن استغلال المورد البشري الإثيوبي، لصالح إعمار أراضي الشرق السودان، ذات الكثافة السكانية المنخفضة (معادلة الأراضي والأيدي العاملة) فإنه جرى تصوير الحديث على أنه دعوة لتمليك مصر أراضي داخل العمق السوداني.
تقول أستاذة علم النفس السياسي، براءة سيف الدين، لرصيف22، بوجود حمولات تاريخية بين السودان ومصر، تطل برأسها عند كل موقف وقول، وعليها تعد تيرمومتراً لقياس علاقة البلدين، مصداقاً للمقولة الشائعة: السودان ومصر مرة حبايب، ومرة حلايب).
متى وكيف يحسم السودانيون معركة علاقاتهم بمصر؟ هذا سؤال اللحظة الراهنة، وسؤال العقود الماضية، وللأسف سؤال المستقبل الذي عجز الجميع عن إيجاد إجابة شافية له
وترى سيف الدين أن بعض السودانيين يعتبرون مصر دولة مستعمرة بكل ما يعنيه ذلك الإرث من استعلاء، ولذا لا غرو أن تسمع عبارة (السودان هو الفناء الخلفي لمصر).
وتعتقد سيف الدين أن الاستعمار الإنجليزي المصري للسودان (1898 – 1956) ومن ثم سيطرة المصريين على حلايب منتصف التسعينيات ترسخ لفكرة مصر الاستعمارية في العقل الجمعي السوداني. زاد على ذلك بعض تفلتات الخطاب الإعلامي المصري تجاه السودان، وتصوير أبناء وادي النيل الجنوبي –أحياناً- في صورة غير لائقة في الأعمال السينمائية والتلفازية.
في المقابل –والكلام لسيف الدين- هناك من ينظر لمصر بامتنان كبير، ويعدها معبراً للدين (الأزهر) والسياسة (نشوء أحزاب سياسية تنادي بوحدة وادي النيل "الاتحادي الديمقراطي" ومتكونة في مصر "الشيوعي" ومتأثرة بمصر "الأخوان المسلمون").
وأثرت مصر حسب سيف الدين في تكوين وجدان السودانيين الثقافي والفني، بالكتب والتلفزيون والسينما، وظلت مصر وجهة محببة للسودانيين الراغبين في السياحة والعلاج.
ومع اعتقادها الجازم بأن عوامل التكامل حاضرة بأكثر من عوامل الفرقة في علاقات البلدين.
معارك الجبهات العديدة
في الوقت الذي يرى البعض ما بدر من الوزيرة هو خيانة للكرامة الوطنية في أقل تقدير، يرى آخرون أن منصات التواصل الاجتماعي تتعمد بدأب ملحوظ في دق الأسافين بعلاقة البلدين، عبر تضخيم كل حدث، وتصوير كل إساءة شخصية بأنها موقف الدولة المصرية، مع إثارة الروح الشعبوية. مطالبين بضرورة طرد المصريين من حلايب، ورافعين الشعار الشهير (السودان للسودانيين) والذي جرى رفعه في مقابل أحزاب كانت تنادي باستقلال السودان من بريطانيا والوحدة مع مصر.
تتصاعد الحملة في السودان ضد وزيرة الخارجية، مريم الصادق، لاستخدامها عبارة لا تليق بدبلوماسية اللحظة، اللحظة التي يخوض فيها الجيش السوداني معركة ضد إثيوبيا، وفي طريقه إلى حسمها بمنطق الحق والقوة.
لكن متى وكيف يحسم السودانيون معركة علاقاتهم بمصر؟ هذا سؤال اللحظة الراهنة، وسؤال العقود الماضية، وللأسف سؤال المستقبل الذي عجز الجميع عن إيجاد إجابة شافية له.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه