على مرحلتين، احتلت إثيوبيا أكثر من 600 ألف فدان من أراضي منطقة الفشقة الزراعية الخصبة، في ولاية القضارف الواقعة على الحدود بينها وبين السودان، وتضم ثلاثة أنهار: عطبرة، باسلام، وستيت.
بدأت المرحلة الأولى من الاحتلال عام 1993 حين أرسلت الحكومة الإثيوبية مليشيات تابعة لإدارة إقليم أمهرا المحاذي لشرق السودان، فاحتلت مساحات واسعة من الفشقة، بعد أن طردت المزارعين السودانيين وصادرت محاصيلهم وممتلكاتهم. حينها كانت حكومة الإخوان المسلمين في الخرطوم غائبة في غفلتها الإيديولوجية الجهادية، ومشغولة بشن حرب أهلية على مواطنيها في جنوب البلاد، تلك السياسية التي دفعتهم إلى الانفصال عام 2011.
وجاءت المرحلة الثانية من احتلال الفشقه عقب المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في أديس أبابا، عام 1995. اتخذ رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق مليس زيناوي الحادثة كقميص عثمان، وبعد أن أتهم حكومة البشير/ الترابي بالتورط فيها، عبرت قواته حدود البلدين التي أفرغتها الحكومة السودانية من الجيش، وتمكنت من السيطرة على أجزاء أخرى من المنطقة، لتبلغ جملة الأراضي المحتلة من الفشقة أكثر من 600 ألف فدان.
لاحقاً، وبعد أن تحسنت العلاقات بين السودان وإثيوبيا، عقب خوض الأخيرة حرباً حدودية مع إريتريا، بين عامي 1998 و2000، لم تطالب حكومة البشير بالانسحاب الإثيوبي من الأراضي المحتلة، إذ ربطت الرئيس السوداني السابق علاقات مصلحة بحكومة رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق مليس زيناوي.
صمت عن الاحتلال
لم تكتفِ الحكومة السودانية الإخوانية بالصمت عن الاحتلال، بل أن بعض المحسوبين عليها من المفكرين والكتاب، وعلى رأسهم الدكتور حسن مكي، مدير جامعة إفريقيا العالمية وقتها، روّجوا لمقترح ادعى أن الحكومتين ربما تتبنيانه، ومفاده أن تسمّى الفشقة المحتلة تخوماً خاليةً من الوجود الإداري والسياسي، على أن تكون تابعة سيادياً للسودان، وأن يسمح للمزارعين الإثيوبيين بالتملك فيها وأن تكون المنفعة والعائد منها متاحاً ومفتوحاً للطرفين، وفقاً لبروتوكولات قانونية تحدد طبيعة الانتفاع، وكيفية تقسيم الأراضي والمطلوبات الأخرى التي تنجم عن هذا الوضع.
ومنذ ذلك الوقت، وحتى 20 كانون الأول/ ديسمبر 2020، تاريخ استعادة الجيش السوداني لمعظم أراضيه المحتلة، عدا بعض الجيوب الصغيرة، ظلت إثيوبيا تمارس سيادةً فعلية على المنطقة، بل أحدثت عليها الكثير من التغييرات الديموغرافية، بتوطين إثيوبيين عوضاً عن أصحاب الأرض الذين جرى إخلاؤهم في أوقاتٍ متفرقة على مدى ربع قرن.
الغريب في الأمر أن إثيوبيا نفسها تعترف بسيادة السودان على المنطقة، إلا أن الحكومات الإثيوبية المتعاقبة ظلت على الدوام رهينة لرغبات شعب الأمهرا الذي يدّعى حقوقاً تاريخية في الفشقة، بل تتواطأ معه خفية في عملية الاحتلال.
وبينما تتنصل إثيوبيا علانية من الأمر وتدّعي أن ما يجري هو محض أفعال تقوم بها ميليشيات وعصابات خارجة عن القانون، لكن ما أنْ يمارس الجيش السوداني حقه الطبيعي في ردعها حتى تستنكر الإدارة الإثيوبية الأمر، وتتهم الجيش السوداني بالاعتداء على قواتها.
واقع الأمر أن تاريخ ادّعاء السيادة على منطقة الفشقة من قبل الحكومات الإثيوبية بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، لكن النزاع عليها بقي في حدود معقولة، خاصة أن الموقف الرسمي الإثيوبي يعترف باتفاقية الحدود لعام 1902، بين بريطانيا التي كانت تستعمر السودان وقتها وإمبراطور إثيوبيا منيليك الثاني، والتي تُعرف باتفاقية "هارنقتون – منيليك"
بجانب ذلك، تعترف إثيوبيا ببروتوكول الحدود الموقع بين البلدين عام 1903، وبالعلامات الحدودية المعروفة بـ"خط قوين"، والتي وضعها المفتش الإنكليزي الميجور جون قوين غريفث عام 1902، بموافقة الحكومة الإثيوبية. كما وقّعت إثيوبيا على اتفاقية مع حكومة الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري عام 1972، اعترفت بموجبها بسيادة السودان على الفشقة.
ما إن حط الوفد الإثيوبي في أديس أبابا، عائداً من الخرطوم، حتى تواترت أنباء عن أن الحكومة الإثيوبية تحشد عشرات الآلاف من المقاتلين، لشن هجوم على منطقة الفشقة السودانية خلال الأيام القليلة المقبلة
لكن الواقع لم يتغيّر على الأرض، بل تفاقم خلال الأعوام الثلاثين الماضية، ووصل إلى ذروته عندما شرعت الحكومة الإثيوبية في بناء قرى وبلدات بطابع إثيوبي داخل الأراضي السودانية المحتلة، للإيحاء بأنها تتبع فعلياً لسيادتها، في ذات الوقت الذي كانت تستثمر فيه عامل الوقت عبر بذل الوعود بإجراء ترتيبات لإخلائها من الميليشيات والانسحاب منها.
الأمهرا وادعاء الحق بالفشقة
ظلّت قوميتا الأمهرا وولغاييت القاطنتن في إقليم أمهرا المجاور للفشقة تدّعيان ملكيتهما التاريخية لها، ولا تعترفان باتفاقية "هارنقتون – منيليك" التي أقرت تبعيتها إلى السودان.
وبناءً على ذلك، يبدو أن هنالك تواطؤاً خفياً بين الحكومات الإثيوبية المختلفة والقوميتين، تلعب بموجبه الأولى دور الدبلوماسي الذي يقول كلاماً ناعماً ويعترف للسودان بسيادته على الفشقة، فيما تلعب القوميتان دور مخلب القط، بأن ترسلا ميليشيات الفانو التابعة للأمهرا، وعصابات الشفتا التابعة لوولغاييت، لمهاجمة القرى والمزارع السودانية واحتلالها وإخلائها من السكان، وتغيير معالمها المعمارية والديموغرافية بسرعة شديدة.
هذا يشي بأن الحكومة الإثيوبية ضالعة بثقلها في الاحتلال الممنهج، إذ تحتاج مثل هذه العمليات إلى دعم لوجستي وعسكري كبير، ولا يمكن أن تنجزها مجموعات قبلية خارجة عن القانون.
هذا التواطؤ المفترض يستند على حقائق، إذ أن جميع الحكومات الإثيوبية التي سيطرت على البلاد منذ وصول الإمبراطور منيليك إلى السلطة عام 1898، ترأسها حكام من قومية الأمهرا التي تدّعي ملكية الفشق، بمَن فيهم منغستو هايلي ماريام، الضابط الشيوعي الذي انقلب على الإمبراطور هايلي سلاسي، مطلع سبيعنيات القرن الماضي.
بطبيعة الحال، لم يكن لدى مليس زيناوي، رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق المنتمي إلى قومية تيغراي، رغبة في بقاء قواته والميليشيات التابعة لها في أرض الفشقة، لكن رعونه حكومة الإسلاميين في السودان هي التي دفعته إلى الاحتفاظ بأجزاءٍ منها منذ عام 1995، من أجل تأمين حدود بلادة خشية من إرسال حكومة البشير-الترابي إرهابيين إليها عبر الحدود، فقد كان نظام الخرطوم يستضيف حينها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وعتاة الإرهابيين و الجهاديين من كل أنحاء العالم.
الفشقة وحكومة آبي أحمد
مع وصول آبي أحمد علي، وهو من قومية الأرومو، إلى السلطة، عام 2018، استبشر السودانيون خيراً، خاصة بعد أن أرسل الرجل رسائل تعجّ بعبارات السلام والمحبة إلى جيران بلده.
شرع أحمد في تصفية النزاع الحدودي بين إثيوبيا وبين جارتها الشمالية إريتريا على مثلث بادمبي الذي احتلته عام 2000 في حرب ضروس راح ضحيتها زهاء 100 ألف من الجانبين، وأجرى وساطة ناجحة بين الفرقاء السودانيين، العسكريين والمدنيين، بعد مذبحة فض اعتصام الثوار في ساحة القيادة العامة للجيش السوداني في الخرطوم، في الثالث من حزيران/ يونيو 2019، وما أعقبها من بيان انقلابي على الثورة صدر عن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحالي.
يمتلك السودان بجانب جيشه النظامي، وقوات الدعم السريع، جيوشاً موازية أخرى جيدة التسليح وتمتلك خبرة طويلة في حرب العصابات، قوامها حركات الكفاح المسلح التي وقّعت على اتفاقية جوبا للسلام مع الحكومة قبل عدة أشهر
إلا أن آبي أحمد، الحاصل على جائزة نوبل للسلام عام 2019، سرعان ما انقلب على الجميع، وأولهم حلفاؤه داخل إثيوبيا، إذ شنّ على الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي حرباً ضروساً شاركت فيها بجانبه مليشيات الأمهرا ووحدات من الجيش الإريتري، بحسب تقارير موثقة، وارتكبت هذه المليشيات فظائع في حق المدنيين من سكان إقليم تيغراي، ترقى إلى جرائم حرب، بحسب تقارير صحافية.
وقبل أن يحسم حربه الداخلية، سمح حامل نوبل لذات المليشيات بالاعتداء على منطقة الفشقه مجدداً، بينما كان السودانيون يستقبلون نحو 60 ألف مواطن إثيوبي هربوا من حربه عليهم، وشرعت هذه المليشيات، وهي في الواقع محض اسم حركي للجيش الفدرالي الإثيوبي، بعبور الحدود ومهاجمة معسكرات الجيش السوداني، فقتلت خلال أقل من شهرين ضابطين سودانيين وعدداً من الجنود والمواطنين، ونهبت الكثير من المحاصيل والممتلكات الخاصة والعامة.
مع ذلك، ظلت الحكومة الإثيوبية صامته، لا تنبس ببنت شفة، وعندما شرع الجيش السوداني في مطاردة الميليشيات ودحرها واستعادة القرى والبلدات المحتلة، أصدرت وزارة الخارجية الإثيوبية، في 21 كانون الثاني/ ديسمبر 2020، تعمماً صحافياً، قالت فيه إن الجنود السودانيين فتحوا النار على الحدود بين البلدين.
كذلك، نشر آبي أحمد على حسابه على تويتر بياناً باللغة العربية، اتهم فيه جهات لم يسمّها بالوقوف وراء تخطيط وتمويل وتنفيذ المواجهات الأخيرة، وقال إن حكومته عازمة على تجفيف بؤرة الخلافات وإيقاف الاشتباكات في المناطق الحدودية نهائياً.
وأرسل أحمد نائبه دمقى مكنن، على رأس وفد أمني رفيع يضم وزير الدفاع ومستشار الشؤون الأمنية ووزير الدولة للشؤون الخارجية إلى السودان، إلا أن مبعوثه (من قومية الأمهرا) تمسك بضرورة انسحاب السودان من الأراضي التي استعادها، تمهيداً لمناقشة قضية ترسيم الحدود.
سيناريو الحرب
عاد الوفد الإثيوبي أدراجه بعد أن رفض السودان طلبه، وما إن حط في أديس أبابا حتى تواترت الأنباء عن أن الحكومة الإثيوبية تحشد عشرات الآلاف من المقاتلين، لشن هجوم على الفشقة خلال الأيام القليلة المقبلة.
إذا حدث ذلك، فإن الأمور ربما تخرج عن السيطرة، وتتطور إلى حرب شاملة بين البلدين، خاصة أن بإمكان السودان التنسيق مع نحو أكثر من 100 ألف مقاتل من المنتسبين إلى جبهة تحرير تيغراي المحاصرين في المرتفعات الإثيوبية الشمالية القريبة من الحدود السودانية، عبر فك الحصار عنهم وفتح الحدود السودانية أمامهم.
كذلك، بمقدور السودان فتح جبهة أخرى ضد الحكومة الإثيوبية من ناحية إقليم بني شنقول/ قمز الذي يبنى عليه سد النهضة، ومعظم سكانه من أصول سودانية.
إلى ذلك، فإن السودان يمتلك بجانب جيشه النظامي، وقوات الدعم السريع، جيوشاً موازية أخرى جيدة التسليح وتمتلك خبرة طويلة في حرب العصابات، قوامها حركات الكفاح المسلح التي وقّعت على اتفاقية جوبا للسلام مع الحكومة قبل عدة أشهر. وقد زار جبريل إبراهيم، أحد كبار قادتها، نهاية الأسبوع المنصرم، منطقة الفشقة، وخاطب الجيش السوداني المرابط هنالك، وأكد أن قواته تحت أمر الجيش في أي وقت، وستخوض الحرب بجانبه، إذا ما فُرضت على البلاد.
بناء على هذه الوقائع والحيثيات، فإن الحكومة الإثيوبية التي تخوض حرباً أهلية في شمال البلاد، وتعاني من تمردات في أقاليم أخرى كثيرة، خاصة بني شنقول/ قمز، وأروميا، ربما تخسر كثيراً إذا ما أقدمت على فتح جبهة جديدة مع جارتها السودان، مع الأخذ في الاعتبار أن هنالك مَن ينتظر هذه اللحظة ليقدّم كل ما يملكه من خبرات عسكرية ودعم لوجستي واستشارات للجيش السوداني، بحال طلب منه ذلك. وفي غالب الأمر سوف لن يبقى آبي أحمد في السلطة طويلاً إذا ما قرر مهاجمة السودان!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...