لسنوات عديدة، سوّق نظام الرئيس المخلوع عمر البشير للشعب فكرة أن السودان موعود بخيرات لا حصر لها من جراء إنشاء سد النهضة الإثيوبي. لكن عقب خلع البشير، استيقظ السودانيون على تحذيرات كثيرة بشأن تأثيرات سلبية محتملة قد تطالهم وتحوّلهم إلى أكبر الخاسرين في الصراع على مياه النيل.
ويُعَدّ الدور الأبرز للسودان في هذه الأزمة الدائرة منذ وقت طويل انحيازه للعب دور الوسيط بين وجهتي النظر الإثيوبية التي تعتبر السد عملاً مشروعاً وحيوياً للأمن القومي الإثيوبي ومنصةً للنهضة التنموية، وبين الإصرار المصري على أنه يمثل تهديداً واضحاً لحقوق مصر المائية في النيل.
ولا يزال الموقف الرسمي السوداني متأرجحاً بين التأييد شبه المطلق لعملية بناء السد، وبين التسليم بالقضاء والقدر، وظهر ذلك جلياً في تصريحات وزير الدولة في وزارة الخارجية عمر قمر الدين التي أفاد فيها بأن السودان لن يدخل في مواجهة مع إثيوبيا بحال قررت ملء بحيرة الخزان بشكلٍ أحادي.
أخيراً، وعقب جهود سودانية مضنية، استأنفت دول حوض النيل الشرقي (السودان، مصر، إثيوبيا) المفاوضات حول سد النهضة، برعاية إفريقية، بعدما وصل التصعيد بين القاهرة وأديس أبابا حدّ التلويح باستخدام الخيار العسكري.
وقبل قبولها بالعودة إلى طاولة التفاوض، كانت إثيوبيا قد هددت بأنها ذاهبة إلى بدء ملء الخزان خلال شهر تموز/ يوليو الجاري، حتى من دون موافقة السودان ومصر، وقال وزير خارجيتها غيدو أندارغاشيو: "الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه".
حقائق ووقائع
شرعت إثيوبيا في إنشاء سد النهضة عام 2011، على النيل الأزرق، في إقليم بني شنقول، على بعد 900 كيلومتر من الحدود السودانية، لأغراض توليد ستة آلاف ميغاواط من الطاقة الكهربائية، وهو ما يتطلب تخزين كميات ضخمة من المياه تُقَدَّر بـ74 مليار متر مكعب، ما يعني أكثر من حصة السودان ومصر من المياه سنوياً، وبتكلفة تفوق 4.7 مليارات دولار أمريكي.
وطبقاً لآخر تقرير رسمي، بُني 73% من السد. ويتركز معظم الجدل حالياً على الملء وجداوله.
فوائد أم أضرار؟
في سنوات حكم البشير، تطابق موقفا الخرطوم الفني والسياسي، فأعلن المخلوع تأييده لقيام السد، وقال أكثر من مرة إن السودان ومصر بمنأى عن أي أضرار مزمعة، في وقت وعد قادة وزارة الري والموارد المائية ببشائر عدّة آتية بلا شك من المشروع، وقللوا من أي تأثيرات سلبية محتملة.
هذا الموقف لا يزال هناك من يؤيده. يقول المهندس الجيولوجي محمد حسام الدين لرصيف22 إن فوائد السودان من سد النهضة أكبر بكثير من احتمالات التعرّض للأضرار.
وتشمل قائمة الفوائد طبقاً لحسام الدين: ضمان حصول السودان على حصته المائية البالغة 18.5 مليار متر مكعب كاملة من دون هدر، وضمان تشغيل السدود السودانية بكفاءة عبر تنظيم جريان المياه، لا سيما في فترة الصيف، ووقف تدفقات الطمي التي تهدد البحيرات المحلية، وزيادة الرقعة الزراعية عبر زيادة المساحات المروية، وإقامة مشروع الربط الكهربائي مع إثيوبيا لتدعيم الشبكة القومية، مع ازدهار في حركة الملاحة النهرية وعمليات صيد الأسماك.
لسنوات عديدة، سوّق نظام الرئيس المخلوع عمر البشير للشعب فكرة أن السودان موعود بخيرات لا حصر لها من جراء إنشاء سد النهضة الإثيوبي. لكن عقب خلع البشير، استيقظ السودانيون على تحذيرات كثيرة بشأن تأثيرات سلبية محتملة قد تطالهم وتحوّلهم إلى أكبر الخاسرين
ويقلل الخبير الجيولوجي من التحذيرات من إمكانية انهيار السد، ما سيؤدي إلى تدمير معظم المدن السودانية على شريط النيل، وينفي ما يشاع عن إقامة السد في منطقة نشطة زالزالياً.
وكان وزير الموارد المائية والري المصري، محمد عبد العاطي، قد جدد التحذير بأن سد النهضة في حال انهياره، سيغرق السودان بالكامل، وذلك وفقاً لبرامج محاكاة ذكية جرى تطبيقها أخيراً.
من جانب آخر، يشكو خبير القانون الدولي في مجالات المياه، د. أحمد المفتي، من تنازل السودان منذ البداية عن لعب دور أصيل يبلور مصالحه المائية في مياه النيل، لحساب الانقياد لإستراتيجية إثيوبية قائمة على حصر النقاش في قضيتي الملء والتشغيل.
يقول المفتي لرصيف22 إن هذا التوجه قاد السودان للتخلي عن حقه في الإخطار المسبق، وحقه في معارضة قيام السد دون رضاه نزولاً عند الاتفاقيات القائمة (اتفاقية مياه النيل 1902)، بل وإلى عدم ربط الموافقة على بناء السد بشروط واضحة بشأن سلامته وأمانه، من خلال إعداد دراسات علمية. أما ثالثة الأثافي، برأيه، فكانت اشتراط السودان تحرير نص يضمن حقوقه المائية التي كفلتها اتفاقية مياه النيل لسنة 1958.
وكان تقرير للجنة خبراء دولية، عام 2013، قد قال إن إثيوبيا لم تراعِ التأثيرات السلبية، الاجتماعية والاقتصادية، التي قد تلحق بدولتي المصب، السودان ومصر.
رأي فني
يصبّ المهندس حيدر يوسف اهتمامه على قضية السلامة والأمان الخاصة بالسد الإثيوبي.
يقول لرصيف22 إن السد قام من دون دراسات مسبقة كافية، ورفضت شركات كبرى بناءه نظراً لحجم المخاطر المرتبطة به، ولا تُعرف الجهة التي تموّله حالياً، بعد رفض مؤسسات التمويل الدولية المشاركة فيه، وهو أمر يضاعف من حجم القلق بشأن دوافع هذه الجهة.
يبدي خبراء نقاط اعتراض على بناء سد النهضة، منها أن إثيوبيا مع انتهاء تشييده ستملك ورقة ضغط كبرى ممثلة في قدرتها على التحكم في المياه، ما يمكّنها من إملاء الشروط على السودان ومصر، ومنها فقدان السودان لخصوبة أراضيه جراء حجز الطمي
وعند تذكيره بأن أديس أبابا تصرّ على أن بناء السد تمّ بتمويل ذاتي، أجاب ساخراً بأن إثيوبيا دولة فقيرة ولا تستطيع توفير كل هذه الرساميل الضخمة لمشروع السد، وخلافه من مشروعات تجري حالياً كمشروع المترو والربط السككي مع دول الجوار.
ويبدي يوسف نقاط اعتراض أخرى على بناء السد، منها أن إثيوبيا مع انتهاء تشييده ستملك ورقة ضغط كبرى ممثلة في قدرتها على التحكم في المياه، ما يمكّنها من إملاء الشروط على السودان ومصر، ومنها فقدان السودان لخصوبة أراضيه جراء حجز الطمي.
ويشير إلى أن مسألة إمداد إثيوبيا للسودان بالكهرباء ستكون محل شك مع حالة النمو والانفجار السكاني في الجارة الشرقية.
يد السياسة
هل كان للسياسة يد في تأييد السودان لقيام السد، في فتراتٍ سابقة، وعدم اعتراضه على إكمال تشييده وتشغيله حالياً؟
كانت لنظام البشير ذي التوجهات الإسلامية تحفظات على سياسات النظام المصري ضد جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يجعله يبني كثيراً من مواقفه الخارجية على أساس النكاية بالقاهرة.
يقول محمد حسام الدين إن تصوير الأمر بهذه الصورة فيه طعن كبير في الخبرات السودانية في مجالات الري، وتشكيك في غير محله بالرأي الفني.
ويضيف أن موقف السودان من سد النهضة ينبغي أن يظل على حاله، والنأي به عن دروب السياسة، كونه قد يضر بمصالح البلاد مستقبلاً بحال إظهار العداء لإثيوبيا.
بيد أن المفتي يذهب إلى أن الرأي السوداني في قضية سد النهضة قام على أسس سياسية، وإن الفرصة مواتية لمراجعته وتغييره بعد التغيير الذي عمَّ البلاد.
سيناريوهات
ينتقد المهندس حيدر يوسف اكتفاء السودان بلعب دور وساطة بين كل من أديس وأبابا والقاهرة، ويطالب بضرورة التمسك بحق الخرطوم في إخضاع قضيتي بناء وتشغيله لدراسة متفحصة، واستصدار قرارات من المؤسسات الدولية.
بدوره، يرى المفتي إن مسار التفاوض بات بلا جدوى عقب اقرار المفاوض السوداني بأن حجم الخلافات على السد لا يتعدي 10%، رغم إن الوقائع تقول بخلاف ذلك.
ويقول إنه ليس أمام الخرطوم سوى الاستسلام لوجهة النظر الإثيوبية، أو الدخول في مواجهة بمعناها العريض وبكافة احتمالاتها، أو الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي.
وينوّه إلى أن خيار الاستسلام بمثابة الانتحار، وخيار المواجهة باهظ الكلفة، "فكل بيضات الأمل توضع في سلة مجلس الأمن، عساه يصحح الصورة المقلوبة".
أما المهندس حسام الدين فيقول إن على السودان عدم التفريط في مكاسبه من السد بالإنجرار وراء وجهة النظر المصرية التي تتخوف من الشراكة المائية المرتقبة بين دول المنبع والممر، وترتعد فرائصها من فكرة أن السودان يمكنه الاستفادة من كامل حصته المائية دون أن تذهب منها قطرة واحدة نواحي المصب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...