مرَّت 72 سنة على النكبة الفلسطينية عام 1948، والتي ارتكب فيها الاحتلال الإسرائيليّ مجازر عديدة بحقّ الفلسطينيين في سبيل لطردهم وتهجيرهم. وعلى امتداد السنوات انتهج الاحتلال سياسات مختلفة بعيدة كل البُعد عن عمليات التصفية والقتل والسجن والاغتيال، وإن كانت هذه المجموعة من السياسات حيّةً حتّى اللحظة، إلا أنَّ ما يمكن تسميته ب "سياسة الانفتاح" على الآخر (الفلسطيني)، وإقامة العلاقات معه بغض النظر عن نوعيتها، ليست إلا محاولة لكسب الوِدّ والأرض في آن، بطرق التفافية متسلِّحة بعلم النفس وصعوبة الظروف المعيشة.
ما ورد في هذا التقرير يمثِّل شريحةً صغيرةً من الشعب الفلسطيني، وتحديداً بعض الفلسطينيين في مناطق "ج" (مناطق في الضفّة الغربيّة لا تملك السلطة الفلسطينية سيطرة عليها) الذين تقع بلداتهم وقراهم على طرق رئيسيّة بين المستوطنات الإسرائيليّة، فيكون هؤلاء الفلسطينيين في مواجهة يوميّة "غير عسكريّة بالضرورة" مع المستوطنين والجنود؛ يشتري الأخيرون منهم وربّما يزورونهم في بيوتهم زيارات أصدقاء ودّيّة.
وعلى الرغم من تعاملهم مع المستوطنين بشكلٍ طبيعيٍّ وتكوينهم علاقات شخصية خارج نطاق التجارة، إلا أنَّ البعض الآخر يرفض التعامل معهم ويغلق أبواب محاله التجارية في وجوههم.
كشفت وكالة وفا في تقريرٍ لها أنَّ وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية وصلت أعلى مستوياتها منذ 20 سنة، فعام 2020 لم يكن الأسوأ من الناحية السياسية فقط، والتي شهدت انجراراً مريراً من الدول العربية للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وإنما من الناحية الديموغرافية كذلك. فالاحتلال يخطط لرفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية ليصل إلى نحو مليون مستوطن، بالإضافة إلى إنشاء المستوطنات وعمليات هدم البيوت. فهل تغيَّر مفهوم البطولة بالنسبة إلى الفلسطيني، فلم يعد البطل من يقاتل على أراضي 1948 أو 1967، ولكنَّه تقزَّم ليُختزَل في توفير القوت اليوميّ؟ وهل أصبحت مناطق "ج" مكانًا فلسطينيًّا متحوّلاً على المستوى الاجتماعي والهويّاتي والسياسي؟
هو العدوّ وهو الصديق
يقول ساهر، مالك لمخبز وسوبر ماركت في بلدة الفندق، لرصيف22: "بلدتنا صغيرةٌ جداً. ومشكلتها الأساسيّة، مع أنني لا أعتبرها مشكلة، أنَّها تطلُّ على الخط الرئيسي أو الطريق السريع، بمعنى أنَّها تربط بين مدنٍ عِدّة وتوصل إلى مستوطنات عدّة أيضاً. من اليمين إلى نابلس وطولكرم، ومن اليسار إلى المستوطنة وقلقيلية. هذا المخبز كان يملكه والدي منذ 1994 - 1996، بدأ توافد المستوطنين إلينا منذ تعبيد هذه الطريق. الخبز ومشروبات الطاقة من أكثر الأشياء التي يشترونها هنا، نادراً ما يشترون الأشياء المكشوفة، اللحوم مثلاً بكافة أنوعها لا يشترونها أبداً".
وفي سؤاله عن طبيعة العلاقة التي تجمعه بهم وهل تقتصر على الرسمية التي تربط البائع بالزّبون أم أنَّ هناك جوانب أخرى، سألني بنبرة ساخرة: "عفواً وين إنتِ عايشة؟" وأردف: "نحن هنا نتكلم العربية والعبرية، واليهودي الذي أرجمه بالحجارة عند مستوطنة "يتسهار" في النهار أتناول العشاء معه ونلعب الورق في اللَّيل. واليهودي الذي يضرب الحجارة على سيارتي في الصباح يشتري مني في المساء، وأزوره في بيته. علاقتهم بنا قوية جداً. حين كنت في الثانية عشر من عمري، مرَّ بنا جندي كان يشتري الخبز من مخبزنا بشكل يوميّ. أعرفه جيداً وعلاقتي به جيّدة الآن، ويتكلَّم العربية قليلاً. في اللَّيل فتح النار على سيارة من نوع "سوبارو"، وكان معه مستوطنين.
يستهجن ساهر استغرابي من طبيعة العلاقة التي تربط المستعمِر بالمستعمَر، فهو يعتبرها شيئاً طبيعياً في سياق يومه العاديّ، بل ويعتمد على هذا النوع من العلاقات لتعزيز مصدر دخله الذي يشارك المستوطن في إنعاشه بنسبةٍ كبيرة. فيقول: "نبيعهم بأسعارٍ سياحيّة، مثلاً ما يُباع هنا بدولارين يشترونه بسبعة دولارات. الخبز يشتريه الفلسطيني من المخبز بدولار ونصف، ونبيعه لليهودي بأربعة دولارات. وهم بالأساس يشترون منا لأنَّ هذه المنتجات في المستوطنات أغلى سعراً. ولا يُمانعون شراء المنتج العربيّ، بل يُطرون عليه أحياناً".
تغيَّر مفهوم الضحيّة والجلاد في السنوات الأخيرة، وازداد حدَّةً في العامين الأخيرين، فلم يعُد الضحيّة مجرَّد فردٍ يتبنّى هويّةً هشّةً ضعيفةً، ويعيش حالةً من جلدِ الذات على أطلالِ الهوية القديمة القويّة، بل أُزيحت المشاعر، والحسّ الوطنيّ لصالح سياقٍ يراه البعض أقوى: أن يوجِد على طاولةِ البيت خبزاً. فلا مانع من تعامل بعض الباعة مع المحتلّ بصفته جلّاداً بل يتماهون معه أيضاً. والسَّبب على لسان ساهر هو سوء الأوضاع الاقتصادية. فيقول حين سألته عن موقف الشعب (أبناء المدينة ذاتها) والدولة والحكومة من هذه العلاقة: "جميعنا بلا استثناء نتعامل بالدرجة الأولى مع اليهوديّ في عمليات البيع والشراء، ومن لا يبيع يبني لهم مستوطناتهم وشركاتهم. فلسطين بيعت منذ زمن ولا الحكومة ولا الوزارات تلتفت إلينا، (إذا عباس باع فلسطين بدو يلحقني عشان ببيع اليهودي ربطة خبز؟)."
"بضاعتي من تاجر يهودي ولا يمكنني إفساد هذه العلاقة"
ساهر ليس الوحيد وبلدة الفندق ليست الوحيدة، نحن نتحدَّث عن جميع المناطق المسمّاة "ج". في قرية جين الصفوت عند مفترق قلقيلية، يبيع همام البلاط والمراحيض والأدوات الكهربائية في محل يحاذي الطريق الرئيسي. يشتري منه اليهوديّ ما يشاء بالأسعار الخيالية ذاتها، فما يُباع للعربيّ هناك بخمسين دولار يشتريه اليهوديّ بتسعين ومئة. الفارق بين هذين الشخصين أنَّ همام يعترف قائلاً: "كان يجب عليّ طرد أوّل يهوديٍّ جاء ليشتري مني، لكن من المؤسف أنَّ بضاعتي من تاجرٍ يهوديّ، ولا يمكنني إفساد هذه العلاقة".
في جين الصفوت بعض الباعة الذين يرفضون فتح محالهم لليهوديّ المارّ، ويرضون بالرزق القليل مقابل الحفاظ على كرامتهم. بحسب همام، هؤلاء الباعة يعتبرون وجود اليهوديّ بينهم، ودفعه المال لهم نوع من إثبات وجوده، والاعتراف به وبدولته المزعومة. ومن هذا الباب يرفضون أيَّ تعاملٍ بينهم وبينه. كما يؤكد همام أنَّ موقفهم وطنيٌّ يستحقّون الإجلال عليه، مع أنَّ الدولة لا تُحاسب أولئك الباعة، ولا تُغلق محالهم التجارية، فهي مناطق لا تسيطر إسرائيل عليها. وهذه حجَّتهم الأبرز، إن لم تكن الوحيدة، في وجه أيّ عملية تهريبٍ أو تطبيعٍ أو تجارة.
يقول محمد، وهو ميكانيكي من بلدة حوارة، بين مدينة نابلس وحاجز زعترة، ما يُسمّى "تفوح": "لديّ محلٌ على الطريق الرئيسي وأتعامل مع اليهود بشكلٍ يوميّ، يصلحون سياراتهم في كراجي، بعضهم لا يستحق الثقة. وأقول هذا لأنني تعرَّضت للسرقة مرة، بعد أن أصلحت سيارته رفض دفع المال لي. وقال بأنَّ عربياً في المنطقة رشق سيارته بالحجارة على حاجز زعترة، فأراد أن يردّ الصاع وإن كان للشخص الخطأ. من جهة أخرى أعرف يهودياً يزورني باستمرار ولا يصلح سيارته إلا في كراجي. جاء ذات يوم وكنا نأكل وجبة الإفطار فأكل معنا، وهو يلتزم بدفع المال بعد كلّ عملية إصلاح. بمرور الوقت تعلَّمت ألا أثق بجميع اليهود".
وأضاف: "يشترون منا لأنَّ قطع السيارات في الداخل الفلسطيني تباع بأسعارٍ باهظة، عدا عن الضريبة. نحن نشتري منهم السيارات، والحقيقة أنّه لم يعد اليهود كما السابق؛ فأنا أذكر مثلاً حين كان أخي مالكاً لهذا الكراج يبيعه اليهودي السيارة دون أن يأخذ شيئاً من داخلها، إذا كان هناك تلفاز أو حاسب محمول يتركه للمشتري العربي، ولكنَّهم اليوم يحضرون السيارة دون راديو، أو دون سولار. وما شهدته مؤخراً هو أخذهم "للمانير" أو ما يسمّى "برميل البيئة" في الفصحى، و"الفحمة" هو المصطلح الدارج بيننا. لم يعد الربح من هذه السيارات يُجدي بالنسبة لنا كما السابق، فنحن نشتريها لنبيع ما فيها، إن كانت خاليةً أصلاً فماذا سنبيع؟"
يقول محمد بأنَّ جيرانه يصنعون حلويات من ضمنها "الكنافة" ويتوافد الإسرائيليون جنوداً ومستوطنين إليه بشكلٍ يوميّ، يقفون في الطابور إلى جانب الفلسطينيّ ويعودون أدراجهم. والحقيقة أنّي صدف ورأيت جيباً للجيش يقف على قارعة الطريق في حوارة، يتكئ على بابه جنديان يأكلان الكنافة. ويبدو أنني الوحيدة التي دُهشت فهذا مشهدٌ روتينيٌّ بالنسبة إلى جميع أبناء البلدة. وكلّ ما هو روتينيّ تُهمله الذاكرة، تعتاده، وبمرور الوقت يصير غيابه مثار تساؤلٍ وتعجُّب. أتساءل حين يأكل المنعطف آخر لمعةٍ لضوء الجيب: تُرى هل سنصل يوماً إلى حالة اعتيادٍ على وجود الاحتلال؟
التماهي بين الضحيّة والجلّاد
محمد أيضاً لا يتذمر من استقباله اليهود وتعامله معهم في محله، فهو يرى أنَّ الفرق شاسعٌ بين أن تتعامل مع كيانٍ مستعمِر وآخر يعيش مثله مثلك حالةً من التشرذم والضياع في دولةٍ لا يعرف شيئاً عن تاريخها، سوى ما ذكر في التوارة. وهذا يُعيدنا إلى نقطة التماهي بين المستعمِر والمستعمَر. فحتى على صعيد اللغة، يُعرف الاحتلال الإسرائيلي بلغة متقوقعة على ذاتها، لغةٍ "غيتوية" إقصائية، ليست تشاركيةً احتوائية. ومن أسهل الأمثلة على ذلك حضور اللغة الإحلالية؛ ما يسمّى "الخط الأخضر" الذي يفصل أراضي 1948 عن باقي فلسطين، ويرمز إلى الأمان للمستوطنين والخصب، حيث أرض الميعاد التي وعدوا بها. وكذلك "الجدار العازل" الذي يقصي كلامياً كينونة كاملة تتمثَّل في مدن وأشخاص وقرى تقبع خلفه، تفصل المستوطن عن الفلسطيني. هذه اللغة الإحلالية التي تحجب كينونة الفلسطيني تتماشى مع أهداف الاحتلال السياسية، والاقتصادية والاجتماعية. ولكنَّها ناقصة لأنَّها تشرح كينونة مبتورة. والشرط الأول لأيّ كينونةٍ أن تكون كاملة الوضوح، لا حجاب توارى خلفه، حتى على صعيد اللغة. فهل يرضى الاحتلال الذي يقمع الفلسطيني حتّى لغوياً بحضور الفلسطينيّ في أي مشهدٍ من مشاهده إلا إن كانت هناك نيّة لإخضاعه؟
هناك أيضاً قصّة نظام من قرية مردة، وهو يعمل في البناء في الداخل الفلسطيني، يروي أحد الشهود العيان حكاية "معلمه" أو الرجل يعمل نظام عنده، اسمه عيلي ويقطن في تل أبيب، يزور نظام في منزله بشكل دوريّ. يأتي من الداخل ليأخذ الطعام من زوجة نظام، حتى أن زوجته وابنتيه يزرن العائلة، يجلسون في الفناء ويلتقطون الصور بجانب الورد الجوري و"المنسف" و "الخبز المسخن"، يقفن بجانب الطابون وينشرن ما يلتقطنه من صور وفيديوهات على حساباتهنّ الشخصية.
يؤكد شاهد العيان أنَّه ينظر باشمئزاز إلى طريقة تعامل نظام مع اليهودي، وهي حالة رفضٍ شبه جماعية. فمن غير الدارج في تلك المنطقة أن يستقبل أحدهم يهودياً في منزله، ويطعمه. وقبل ثلاث سنوات حين مات ابن نظام جاء اليهودي إلى عزائه وأعطى نظام مبلغاً من المال يكفيه لشهرٍ ومنحه إجازةً في ذلك الشهر، ورفض أن يستردّ المال. رغم رفض السكان المحلّيين لتعامل نظام مع اليهوديّ إلا أنَّ علاقتهم به لم تتأثر.
لعلَّ تغيُّر مفهوم المكان بالنسبة إلى الفلسطيني ساهم بشكل أساسيٍّ في تغيُّر نظرته إلى الإسرائيلي، فالمكان الفلسطيني صار يقسَّم إلى قسمين: مكانٌ مجرَّح متشظّي إلى مئات الشظايا منها ما يحملُ الحنين، ومنها ما يحمل الضعف والهشاشة. ومكانٌ حلميٌّ غامض، يقبع في عتمة الانتظار والافتراضات. لا وجودَ لمكان طبيعيّ في ذاكرة الفلسطيني ولا لغته. فالواقع لم يعد هدفاً لأنه كئيب، قاتل، ولا يملك المرء إزاءه إلا العنف البصريّ (النظر حتى الموت)، لذا جرى تحويره واستبداله. والسؤال هو أيّ نوعٍ من السرديات/ اللغات/ الذوات/ الهويات، على الفلسطيني استحضارها أو خلقها لينجو من الذوبان في الآخر المستعمِر، وليقاوِم هذا الإحلال القسريّ لكينوناتٍ أخرى لا تشبهه، وهل ستكون عواقب سيطرة الاحتلال على مناطق "ج" أكبر من مجرد استعمار للأرض لتصل إلى علاقاتٍ شخصيّةٍ مع "الفلسطيني" الذي تطمح إلى طرده من الجنّة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين