"بحرقة احتضن ابنه، وقال له "هيحرموني منك"، وحضن زوجته، وذهب ولم يعد"، تقول نهى، شابة عشرينية قاهرية تعمل في مجال الإخراج التلفزيوني، مختزلة مشهد وداع زوجها لها، بعد مرور عام على الزواج.
كانت الأمور عادية في فترة الخطوبة، مع شريكها علي، مهندس بأحد مجالات الطاقة، باستثناء خلافات بسيطة تمكنا من تحديها، حتى زارتها حماتها في بيتها بالقاهرة. تضيف نهى لرصيف22: "قالت والدة زوجي له، بصّ يا حبيبي بيتك دا ما يدخلهوش فلان وفلان، وتعمل ده، وما تعملش ده، واعمل حسابك مش هطول في الإيجار هنا، وشويه وتجيب عفشك، ومراتك، تنزّلها لي البلد (القرية)، وإلا طلّقها".
وبعد ما سافرت أمه، اتصلت لتسأله عما سيفعل، "هل سَيُنزّل عفشه لها، ولا هيطلّق نهى"، انفعل علي، وقال: "كبرت يا ماما، خليني أعيش حياتي".
سايرت نهى الوضع، وأتمت عامها الأول، ورُزقت بطفلها الأول، وحماتها لا تزال تضع شروطها، وأدرك علي عجزه التام عن مقاومة والدته، وأخبر زوجته بضرورة الاستماع لكلامها، تقول نهى: "وصل الأمر إلى أنه قال لي هكتبلك وصل أمانة بالرقم اللي تكتبيه، بس سيبني أنزل العفش لماما وبابا".
قطع "المعونة" وابتزاز عاطفي
تتعدد الدراسات عن حصر نسب الطلاق في مصر، فمثلاً تجد أحدث دراسة أجريت في كانون الأول\ ديسمبر 2020 كشف عنها اللواء خيرت بركات، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن حالة طلاق تحدث كل دقيقتين و20 ثانية. وفي الساعة 27 حالة، أما اليوم فيُسجل 651 حالة، وأكثر من 7000 حالة طلاق في الشهر، بواقع 24 حالة طلاق مقابل 100 حالة زواج في اليوم.
"الطلاق بإيد أبويا"، "ماما بتقول لك يا تعيشي معاها في بيت واحد يا نطلق"، "ابني حيطلقك، وطفلك ده اشبعي بيه، ابني حيجيب عشرة زيه"... كلمات تسمعها زوجات مصريات كثيراً
والإحصائيات لا تقلّ نسبتها في الخُلع أيضاً، إذ تم رصد أكبر نسبة أحكام طلاق نهائية بواقع 10.500 حالة السنة الماضية.
من ناحية أخرى، نادراً ما تجد دراسة مهتمة بالأسباب وراء تلك الأرقام، يمكنك أن تقرأ عن التقارير الصادرة عن مكاتب تسوية المنازعات في المحاكم المصرية، فتجد 90% من حالات الطلاق بسبب تدخل الأهل في الحياة الزوجية وإثارة الخلافات.
تعلّق الدكتورة هالة حماد، استشارية الطب النفسي، والعلاقات الأسرية، وعضوة في الكلية الملكية البريطانية للطب النفسي لرصيف22: " من واقع الممارسة اليومية، فإن نسب الطلاق بسبب تدخل أهل الزوج، واقعية جداً ربما تفوق ذلك، كل يوم نستقبل حالة جديدة عن آثار هذه التدخلات في العيادة مع اختلاف طفيف في التفاصيل".
وتضيف: "في غالبية الحالات يكون الأب هو المتحكم في دخل الزوج، فيواجه الزوج تهديدات بقطع المعونة من الأب، أو يتعرض لابتزاز عاطفي من الأم".
وتتابع: "الحالات كثيرة، تجد الجدة تمارس الضغط على ابنها ليعيش معها داخل بيت العائلة مثلًا للقرب من الحفيد/ة، ومدى عشقها له/ها. ثم تجدها تخرب البيت بإصرارها، فتحرم نفسها، وابنها من ابنه/ابنته لسنوات، وكذلك تُحرِضه على عدم الإنفاق عليه/ها".
وتُطلِق الدكتورة هالة على الزوج في هذه الحالة "المسكين"، كما تَذكُر أن سلبيته ليست وليدة اليوم، فهي نتيجة تراكمات وتشوه في نشأته من تعرض للقمع، والخوف، وكسر الشخصية.
"أبونا أبو لهب"
أحد الأزواج قال لهالة: "اتربيت في بيت على إن أبونا "أبو لهب" من الرعب الذي يسببه لنا فلا مجال لرأي أو نقاش أبداً".
ويحدث نفس الأمر مع المستقلين مادياً عن الأهل، تروي الطبيبة هالة: "إحدى الحالات، الزوجة على مستوى عالِ من الثقافة، والاستقلال، هي وزوجها، حَدث خلاف بسيط مع أم الزوج؛ فأخذت الأم قرار الطلاق، وقالت للزوجة "ابنك دا تشبعي بيه، ابني هيجيب عشرة زيه".
وتكمل: "بعد ثلاث سنوات، حاول الأب الوصول لابنه دون علم أمه، ليراه في أحد المساجد، وينهار الأب باكياً، وبعدها ترك أمه، وابنه، وماله، وهرب إلى إحدى الدول العربية. وتَرَك الأم والألم".
وتوافقها في الرأي الدكتورة حسنية البطريق، استشارية العلاقات الأسرية، والخبيرة بالوعي الحميمي، تقول لرصيف22: "أسمع العجب داخل العيادة، تجد أحدهم يقول: "بحبها بس ماما وبابا مش عايزينها، يبكي ويقول نفسي أربي ابني، وما يعيش طفولة مشوهة زيي" وغير ذلك الكثير".
"بابا وماما مش عايزيني أتجوزها"، ""اتربيت في بيت على إن أبونا "أبو لهب" من الرعب الذي يسبّبه"، تشدّد الطبيبة النفسية هالة على ضرورة لجوء رجال إلى الطب النفسي ليختبروا الاستقلالية الكاملة
وتضيف: "تلك العبارات في الغالب هي أعراض لاضطرابات نفسية سلوكية، تظهر نتيجة أنماط تربية خاطئة، كأن تُربي الطفل مثلاً على أنك خُلقت لمهمة معينة، ذاكر، أنجح، أترك لنا أمور الحياة سنرتبها لكَ، فَتُخرِج للمجتمع شاباً فاقد الأهلية".
التحكّمات ليست بعد الزواج فقط، بل تبدأ منذ لحظة اختيار الشريك.
التحكّمات ليست بعد الزواج فقط، بل تبدأ منذ لحظة اختيار الشريك وما قبلها، فالأم هي من تختار العروس لابنها.
يوضح الدكتور هاشم بحري أستاذ الطب النفسي لرصيف22: "تحكمات الأهل في اختيار الشريك لها موروثات ثقافية قديمة داخل الأسرة المصرية، وخصوصاً القرى، حيث كانت الأسرة تعيش في بيت واحد مع أبنائها، وزوجاتهم، تتحكم الأم في كل شيء، وتأتي معايير اختيار العروس على مدى توافقها مع شخصيتها".
ويضيف بحري أنّ "تحكّم الأهل لا يتوقف على احتياج الزوج للمال، لكن هناك آباء ربوا أبناءهم آرجوزات، لا يملكون قراراً أو رأياً في حياتهم".
هل العلاج ممكن؟
"يأتي الشاب إلى العيادة، ويقول: "يا دكتور عايش طول عمري أنفذ أوامر، عاوز أعيش زي الناس"، وهنا عند توفر الإرادة لديه، أستطيع القول إنه يمكنه التعافي، فنُتابع معه خطة لتعديل السلوكيات السلبية لديه، ويمكنه أن يُحقق نجاحات بعد إصراره على العلاج حتى يُنقذ حَياته".
وتنصح الدكتورة حسنية البطريق الأم بأن تربي رجالاً لا ذكورأ، وبمعالجة نفسها إن كانت مسيطرة أو متسلطة، وتضيف: "لا بد من المعالجة أولاً ثم البدء في تربية رجل متحمل للمسؤولية منذ صغره؛ حتى يخرج لنا جيلاً مستقلاً قوي الشخصية، وتختفي ظاهرة الشباب التوتو، إلى الدرجة أنَّ بعض البنات أصبحت أمنياتهن أن يتزوجن رجالاً مستقلين، أو كما تطلق على كلمة الرجال في مصر".
وهذا ما تتمناه نهى، التي في النهاية لم تستطع مع زوجها أن تحصل حتى على "أبغض الحلال" الطلاق. قال لها ذات مساء: "استعدّي، سيارة نقل العفش على وصول، لنقل العفش لماما".
سألته: "ماذا عن ابنك؟ وأم أولادك؟ جاء رده كالتالي: "خرّجوني من المشهد. الطلاق بإيد أبويا، وعارف إن مصاريف الأولاد كتيرة، بس في تعليمات من الحاج (الأب) ما اصرفش".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...