بالنسبة لعشراتٍ من المغربيات، تحوّل الموت منذ سنوات إلى مصدر رزق وراحة وإيمان.
تقول بهيجة لطفي التي تسكن في مدينة خريبكة ( تبعد 120 كيلومتراً عن الدار البيضاء) إن "غسل الموتى بالنسبة لها تحوّل إلى مصدر راحة"، حيث أن تعاملها مع الميت يُذكّرها بأن "الدنيا فانية".
تضع بهيجة رقم هاتفها رهن إشارة سكان المدينة، لتستقبل عليه اتصالات يتم فيها إخبارها بالعنوان، فتتوضأ وتُحضّر نفسها قبل التوجه نحو بيت الميت، من دون أن يكون مهماً سواء كان الوقت ليلاً أو نهاراً.
توضح بهيجة، في حديثها لرصيف22، أن "غسل الميت يفترض من المُغسِّل أن يكون على وضوء، وأن تكون نيته رفع الحدث الأكبر والأصغر عن الميت، ثم تجريده من ملابسه، وستر عورته إن كان بالغاً، ثم إجلاسه وإعادته ثلاث مرات مع تدليك منطقة البطن لإزالة النجاسة إن وجدت"، وذلك "لأن صلاة الجنازة لا تجوز على ميت يحمل النجاسة".
تُتابع بهيجة كلامها موضحة أنه ينبغي على المُغسِّل إيصال الماء إلى كافة أنحاء جسد الميت، بدءاً من رأسه ثم جانبه الأيمن ثم الأيسر، مع ترديد دعاء المغفرة للمتوفى، ثم تكفينه بثلاث طبقات من قماش القطن وربطه ثلاث ربطات عند الرأس والبطن والقدمين.
مُغسِّلة حاصلة على بكالوريوس
رشيدة الجبار تنشط كذلك في غسل الموتى. كانت قد حصلت على إجازة بكالوريوس في الاقتصاد، لكنها عاطلة عن العمل في مجالها منذ أربع سنوات، وهي تعمل اليوم في المهنة التي ورثتها عن والدتها.
"الدخول إلى غرفة الميت له وقع خاص"، تُعلّق رشيدة قائلة خلال حديثها لرصيف22: "لا يمكنني أن أصف الإحساس، لكن يمكنني أن أؤكد أنه مميز ومختلف ويجعل القلب يرتجف في كل مرة، ورغم أن البعض يظن أن توالي العملية يجعلنا نعتادها، إلا أن ذلك غير صحيح بالمرة".
وتوضح رشيدة أنها تقوم بغسل الموتى لكنها لا تفرض على أسرة المتوفى الدفع لها. "اللي كيجي (الذي يأتي) من عندهم بركة"، تقول مشيرة إلى أن الكثيرين من أفراد عائلتها وزملائها وجيرانها يستغربون فكرة غسلها للموتى بسبب مستواها التعليمي، لكن "لا يعلمون أن كل ميت أغسله يُعلّمني درساً جديداً، ويجعلني أقرب إلى الله وربما تكون هذه المهنة مصدر رزقي إلى أن أموت".
الغسل... في سبيل الله
لعبت الصدفة دوراً كبيراً في بدء فاطنة زهير مشوارها في غسل الموتى.
"قبل ثماني سنوات، ماتت سيدة من أقاربنا في البادية ولم نجد من يغسلها، فتم اختياري لهذه المهمة تحت إشراف إمام المسجد الذي ظل مختبئاً في مكان قريب ليُلقّنني المراحل بتفاصيلها".
فاطنة زهير
وتُردف: "لا أتقاضى مالاً، لأنني قررت أن أستمر في غسل الموتى في سبيل الله، خاصة أن الدخول إلى غرفة الميت يعلمني الكثير من الدروس، أهمها أننا لا نأخذ معنا من هذه الحياة، سواء كنا فقراء أو أغنياء، إلا أعمالنا الصالحة".
"ماتت سيدة من أقاربنا في البادية ولم نجد من يغسلها، فتم اختياري لهذه المهمة تحت إشراف إمام المسجد الذي ظل مختبئاً ليلقنني المراحل بتفاصيلها"... تقول فاطنة عن بدء مشوارها في غسل الموتى، وهي كما مغربيات كثيرات تحوّل الموت بالنسبة لها إلى مهنة
وعن المواقف الصعبة أو الغريبة التي صادفتها، تقول فاطنة لرصيف22: "لم أصادف موقفاً غريباً، لكنني تعجبت من النور والرائحة الطيبة اللذين انبعثا من جثث بعض الأخوات أثناء الغسل".
اتهامات بالشعوذة
لا تسلم المُغسِّلات من اتهامات تدور رحاها حول السحر والشعوذة، حيث يُشاع أن الماء المستعمل في غسل الميت وما يتبقى من ثوب الكفن يُستعملان للتفريق بين الأزواج.
المُغسِّلة بهيجة استنكرت في حديثها ما تفعله بعض المُغسِّلات، معتبرة أن في الأمر ظلماً للميت ولأسرته التي ائتمنت المُغسِّل.
بهيجة لطفي
تقول: "فور الانتهاء، أجمع كل ما يرتبط بالغسل وأسلمه لأقارب الميت، وحتى الماء نحرص على تجفيفه بالكامل".
بدورها، ترى فاطنة أن مثل هذه الممارسات التي ترتبط بالشعوذة كانت منتشرة قبل سنوات، إلا أنها بدأت تندثر شيئاً فشيئاً، لأن الناس برأيها أصبحوا أكثر وعياً.
محاربة قلق الموت
كل المُغسِّلات اللواتي التقيناهن، سواء من قبلن الحديث عن تجربتهن أو من اعتذرن لأسباب "شخصية وعائلية" على حد قولهن، أكدن أن التعامل مع الميت يترك أثراً نفسياً بالغاً لديهن.
يقول الباحث في علم النفس مهدي الخطابي لرصيف22: "مهنة غسل الموتى، ورغم أنها تشترك مع باقي المهن القريبة من الموت كالتشريح وحراسة مستودع الموتى في الأثر النفسي الذي يمكن أن تُخلّفه، إلا أنها تختلف عن باقي المهن كونها تعتمد المرجعية الدينية كأساس للممارسة".
ويرى أنه وبغض النظر عن قوة الجهاز النفسي أو تكوين من يمارسها من عدمه، إلا أن المغسل يُؤمن أن تعامله مع الموتى يقوي إيمانه، بل يعتبره واجباً دينياً.
ويُضيف الخطابي: "التسليم النفسي يُجنّب المُغسِّلين حالة القلق، خلافاً لممارسي المهن الأخرى، فالتشريح مثلاً يُزاوج بين الإجبارية والاختيار لأن من يقوم به اختار تخصصاً ودرسه، وحراسة مستودع الأموات إجبارية في المغرب بحكم أن الموظف ينتقل من منصب لآخر حسب الاختصاص، أما غسل الموتى فهو اختياري بشكل كامل".
ويشدد المتحدث على أن مُغسِّل الموتى يُمارس ما يفعله وهو مرتاح، بسبب المرجعية الدينية، حيث أنه يحارب قلق الموت بتعامله مع الميت، موضحاً رأيه بالقول إن "الجهاز النفسي يكون عادة بين قطبين، إما قطب الحياة والملذات وإما القطب المعاكس، حيث نجد البعض يتمنى أو يشتهي الموت... ولأن الموت تجربة لا تعاش، لذلك يلجأ البعض لأقرب طريقة وهي غسل الموتى أو حفر القبور وغيرها من المهن، بغية تخفيف حدة القلق منه".
المهنة في زمن كورونا
كانت طقوس الدفن في المغرب قد عرفت تغييرات ملحوظة ابتداءاً من آذار/ مارس الماضي بسبب تفشي فيروس كورونا، إذ لم يعد يتم غسل الموتى المصابين بالفيروس بالطريقة المعتادة، ويُمنع أقاربهم من احتضانهم، وتقبيلهم للمرة الأخيرة، كما لا تتم الصلاة عليهم في المساجد، ولا تُقام الجنائز في البيوت.
"مهنة غسل الموتى، ورغم أنها تشترك مع باقي المهن القريبة من الموت كالتشريح وحراسة مستودع الموتى في الأثر النفسي، إلا أنها تختلف عن باقي المهن كونها تعتمد المرجعية الدينية كأساس للممارسة"... قصص عن المهنة وآثارها النفسية ترويها مُغسِّلات موتى في المغرب
و في نفس السياق، تؤكد المُغسِّلات اللواتي التقيناهن أن وزارة الصحة سبق وتواصلت معهن عقب تفشي فيروس كورونا، لأخذ مزيد من الحيطة والحذر وتجنب غسل أي ميت تحيط به شكوك الإصابة بكوفيد19.
وتُشير رشيدة إلى أنها كانت على وشك غسل سيدة، إلا أن ابن الأخيرة جاء قبل البدء مباشرة وأكد أن نتيجة تحاليل والدته إيجابية، فخرجت مباشرة من الغرفة.
رشيدة الجبار
وكان "المجلس العلمي الأعلى" في المغرب قد أفتى، بدوره، في 25 نيسان/ أبريل الماضي، بـ"جواز عدم غسل وعدم تيمم المتوفى بسبب مرض كورونا الجديد، لاعتبارات شرعية وصحية".
وفصّل المجلس، في فتواه التي جاءت كجواب على رسالة وجهها إليه وزير الصحة خالد آيت الطالب، أن "الإسلام يحرص، من خلال النصوص الشرعية والأقوال والقواعد الفقهية، على صحة الأفراد في المجتمع، وسلامتهم من التعرض لأية آفة مضرة، تودي بحياة الإنسان وهلاكه بكيفية أو أخرى، أثناء قيامه بواجبه التعبدي والمجتمعي".
واستند المجلس الذي يُعتبر مؤسسة دينية حكومية مغربية تُعنى بالإفتاء في إصدار الفتوى إلى ما ورد في القرآن بأن "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين"، كما استند لآراء فقهاء المالكية السابقة في فترات تفشي الطاعون.
وقالت فتوى المجلس العلمي إن علماء المذهب المالكي نصّوا على أنه لو نزل "الأمر الفظيع" بكثرة الموتى، فـ"لا بأس أن يُدفنوا بغير غسل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...