تتعدّد وتتناقض الأسباب التي تدفعنا للانتقال والإقامة في بلد يختلف عن موطننا الأصلي. اليوم، يسعى كثيرون من مواطني الدول الأشد فقراً للسفر إلى الدول الأغنى، لتحسين ظروفهم الاقتصادية، والبعض يرغب بنيل قَدْر من الحرية الغائبة في بلادهم التي أضعفتها الدكتاتوريات والحروب. في المقابل، نجد من ينتقلون للعيش في دول يسعى مواطنوها للهجرة للخارج، ولو اختلفت الظروف والامتيازات والمصالح والمصاعب.
رغم أن تقريراً لمؤسسة تومسون رويترز صدر عام 2017، اعتبر القاهرة أخطر مدينة للنساء في العالم، استهوت هذه المدينة العملاقة سيدات من ثقافات وجنسيات متنوعة، فانتقلن للحياة إليها، ليجدن صعوبات وميزات عديدة في آن معاً.
عمل وفسحة وأوقات جميلة
نيكول، 25 عاماً، سيدة بريطانية عملت كمعلمة لغة إنجليزية في إحدى المدارس الدولية الخاصة في التجمع الخامس في القاهرة، لما يقارب العام، قبل أن تعود لبلادها بداية عام 2020، بسبب انتشار جائحة كورونا.
رغم تصنيف القاهرة على أنها أخطر مدينة للنساء في العالم، استهوت هذه المدينة العملاقة سيدات من ثقافات وجنسيات متنوعة.
تقول نيكول بأنها كانت تحب ارتياد المقاهي مع أصدقائها عندما كانت في مصر، لكنها كانت تعمل لساعات طويلة، ما لم يتح لها الكثير من الوقت لاكتشاف مصر بالقدر الكافي: "زرت الأهرامات وبعض المتاحف في القاهرة وذُهلت بها، وبعد عودتي لإنجلترا، أشتاق لأصدقائي وزملائي في مصر"، تقول في حديثها لرصيف22.
في حين أن كرستين، 26 سنة، هي سيدة بريطانية عاشت في القاهرة لما يقارب الثلاث سنوات، قبل أن تجبرها السلطات المصرية على المغادرة عام 2019 على خلفية عملها دون تصريح. فضّلت كرستين استخدام اسم مستعار في لقائها مع رصيف22، لأنها حياتها ليست مستقرة الآن وتريد أن تحافظ على خصوصيتها.
كرستين، على عكس نيكول، كان لديها الوقت لزيارة الكثير من الأماكن في مصر، تقول: "كنت أقوم بأنشطة عديدة في القاهرة، كزيارة أصدقائي في بيوتهم، الخروج للمطاعم والمقاهي أو مشاهدة الأفلام في السينما. كنت أحب التمشي في القاهرة، خصوصاً في المُنيرة أو العجوزة". وتضيف بأنها كانت تحب زيارة أصدقائها في بورسعيد والإسكندرية، والجلوس مقابل البحر لتستمتع بوقتها.
أما ريبيكا، السيدة الألمانية ذات الثلاثة والثلاثين عاماً، فقد قدمت إلى مصر منذ ست سنوات، بعدما وجدت وظيفة في شركة دولية كبيرة في القاهرة. فضلت بدورها استخدام اسم مستعار أثناء اللقاء مع رصيف22، لكي تتحدث بحرية دون أن يؤثر ذلك على خصوصيتها وعملها وسلامتها.
إيجابيات عديدة وميزات حصرية للأجانب
هنالك الكثير من المميزات للعيش في القاهرة، فريبيكا ترى بأن البيروقراطية أحياناً في مصر أقل من بلدها الأم ألمانيا، فيما يخص إيجاد وظائف ذات علاقة بالمواهب، كالمجالات الفنية والطبخ.
"في مصر يستطيع المرء استعمال مواهبه للتطور أكثر من ألمانيا، بسبب القيود التي تضعها الدولة الألمانية، وهي شروط بعضها منطقي، يتعلق بجودة العمل والنظافة، لكن كثيراً منها تهدف فقط لجني المال للمدارس المهنية"، تقول السيدة، مضيفة أنها استطاعت تطوير موهبتها بالتصوير في مصر، ولكنها لا تستطيع أن تدعو نفسها مصورة في ألمانيا دون شهادة.
من جهة أخرى، تظن كل من السيدات بأن هناك مميزات مختلفة للأجانب أصحاب البشرة البيضاء في مصر، فكريستين أشارت إلى أنها تستطيع دخول أماكن كثيرة في القاهرة أسهل وأسرع من المصريين، كالنوادي الليلية والمطاعم والفنادق. وحول ذلك تقول ريبيكا: "البعض يعتقدون فقط لكوني بيضاء بأنني غنية".
من جهة أخرى توضح السيدة: "إذا تعرضت للاعتقال في مصر لأي سبب، على الأغلب ستجبرني السلطات المصرية على مغادرة مصر، ولن يسجنوني لأنني ألمانية، بينما لو كنت مصرية قد أسجن، رغم أن قضية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، الذي اتهمت بلده أربعة من الضباط المصريين بتعذيبه وقتله، تبيّن بأن لا أحد بمأمن هنا".
عملي في القاهرة كان دوماً يشعرني بالذنب لكوني جزءاً من نظام التعليم غير العادل
من جانب آخر تبيّن كرستين: "أستطيع أن أجد عملاً في القاهرة، يدفع لي راتباً أعلى من لندن مقارنة مع سعر المعيشة، لذا أستطيع أن أعيش هنا بمستوى أفضل بالنسبة لجودة الشقة والأكل والمرات التي أرتاد بها المطاعم. ولكن حالما أخرج من مصر لن يكون لديّ أي أموال، بسبب قيمة الجنيه المتدنية مقارنة بباقي العملات".
وحول هذا ذكرت نيكول بأن راتبها في القاهرة كان أربعة أضعاف راتب أي من زملائها المصريين، الذين باعتقادها كانوا أكفأ منها، فهي حصلت على الوظيفة فقط لأنها بريطانية، رغم أنها لا تملك الخبرة ولم تدرس الأدب الإنجليزي أو أساليب التدريس، في حين أن زملاءها المصريين كانت لديهم خبرة ما يزيد عن 10 سنوات. "عملي في القاهرة كان دوماً يشعرني بالذنب لكوني جزءاً من نظام التعليم غير العادل"، تضيف، في إشارة لوجود تفكير نمطي في مصر بكون الموظفين الأجانب أفضل من المصريين، وبالتالي تدفع لهم أجور أعلى في بعض المؤسسات، ومنها التعليمية.
صعوبات على الضفة الأخرى
تعتقد السيدات الثلاث بأن هناك سلبيات وصعوبات متعددة للعيش في القاهرة.
تؤكد ريبيكا بأنها احتاجت وقتاً طويلاً حتى تشعر بأن مصر هي بمثابة بيت بالنسبة لها. تقول: "سافرت لدول مختلفة من أجل الدراسة والعمل، وكنت أعتاد على الأماكن بسرعة، لكن في مصر كان الوضع معاكساً. حصلت معي الكثير من المواقف الصعبة في البداية، فالقاهرة مدينة قاسية جداً لأي سيدة تعيش وحدها، سواء كانت مصرية، عربية أو أجنبية".
وتتذكر السيدة محاولة الاغتصاب التي تعرضت لها في بداية إقامتها، عندما كانت تأخذ كلبتها في جولة صباحية على كورنيش المعادي. تردف: "تعرضت للتحرش في كل الدول التي عشت بها حتى في بلدي ألمانيا، لكنني كنت أتعرض للتحرش خمس مرات في السنة كحد أقصى، بينما في القاهرة أتعرّض للتحرش أكثر من خمس مرات في الأسبوع".
أستطيع أن أجد عملاً في القاهرة، يدفع لي راتباً أعلى من لندن مقارنة مع سعر المعيشة، لذا أستطيع أن أعيش هنا بمستوى أفضل بالنسبة لجودة الشقة والأكل وارتياد المطاعم. ولكن حالما أخرج من مصر لن يكون لديّ أي أموال، بسبب قيمة الجنيه المتدنية مقارنة بباقي العملات
من جهتها تقول كرستين: "عندما كنت في مصر كنت أتعرض للتحرش اللفظي في أبسط الأحوال، في كل مرة أخرج بها من البيت حتى اعتدت عليه، وعندما انتقلت لبلد آخر وأصبحت أرتدي الملابس التي تناسبني، دون أن يلتفت لي الناس بالشارع، فطنت بأنني كنت أعيش في القاهرة تحت وطأة ضغط مرهق نفسياً، يجعلنا في الكثير من الأحيان، أنا والكثير من النساء، نفضل البقاء في منازلنا على الخروج".
وتعتقد ريبيكا بأن الأمان للسيدات في القاهرة يُكلف الكثير من المال، فالأغنياء يذهبون إلى العمل بسياراتهم، ويعيشون في تجمعات سكانية مقفلة، فيما يشبه الفقاعات الآمنة، ولكن هذا ليس حال معظم المصريات، فهن مجبرات على النزول للشارع واستخدام المواصلات العامة، لذلك هن أكثر عرضة للتحرش.
وحول ذلك، أشارت مُزن حسن، وهي مؤسسة ومديرة مجموعة "نظرة" للدراسات النسوية، إلى أن كل السيدات في مصر، دون مبالغة، يتعرضن لأشكال عنف مختلفة في المجال العام، على الأقل لمرة واحدة في حياتهن، سواء كان تحرشاً لفظياً أو اعتداء جسدياً أو محاولة اغتصاب، ولا يختلف الأمر إن كانت أولئك النساء مواطنات أو أجنبيات، من طبقات اجتماعية عليا أو طبقات أبسط، وباختلاف طبيعة الملابس التي يرتدينها، وسواء كن يمشين في الشارع في النهار أم في الليل.
ونوّهت أيضاً للتصور التقليدي غير الحقيقي عند البعض في الشارع المصري، بأن السيدات الأجنبيات لن يفهمن التحرش اللفظي، فيتمادون في الأذية، أو أن الأجنبية ليست لديها مشكلة في ممارسة الجنس، لذلك فلهم الحق في الاعتداء عليها.
تضيف ريبيكا بأن من يعيش في مصر عليه أن يكون دوماً في وضع القتال كيلا يتم استغلاله، وهذا مرهق ومتعب جداً: "القوي وحده من يستطيع العيش في مصر، وهذا باعتقادي بسبب عدم وجود نظام عقد اجتماعي يدعم ويحمي جميع أفراد المجتمع".
كما تؤكد بأن شكلها الأجنبي قد لا يكون امتيازاً: "من واقع خبرتي في السكن بدول مختلفة، أعتقد بأنك ستكونين في خطر أكبر عندما يلاحظ الناس بأنك غريبة. لذلك فشكلي أو مظهري كأجنبية قد يجعلني أكثر عرضة للخطر في القاهرة، لأن الناس يستطيعون تمييزي".
تعرضت للتحرش في كل الدول التي عشت بها حتى في بلدي ألمانيا، لكنني كنت أتعرض للتحرش خمس مرات في السنة كحد أقصى، بينما في القاهرة أتعرّض للتحرش أكثر من خمس مرات في الأسبوع
العائلة أولاً
من واقع تجربتها، تعتقد ريبيكا بأن معظم المصريين لطفاء وودودون جداً، ولكن حتى حد مُعين لا يسمحون للأجنبي بتجاوزه، فالعائلة بالنسبة للمصريين هي الأولوية. "المجتمع في مصر قائم على النجاة بالنفس، والعائلة وحدها من تستطيع الحماية، لأن المواطن لا يمكنه الاعتماد على السلطة، لذلك فإن الفردانية في مصر أقل منها في أوروبا"، تضيف.
وتعتبر ريبيكا بأن هذه من مصاعب العيش في القاهرة، فمن الصعب أن تحظى بأصدقاء في معظم الأحيان. "أقيم في مصر منذ وقت طويل وليس لدي أصدقاء مصريون مقربون، سوى صديقة نصف مصرية عاشت معظم حياتها خارج مصر"، تقول، وترجع ذلك ربما لظروفها أو لسنّها، فكثير من السيدات، ممن في سنها في القاهرة، متزوجات ولديهن أطفال وتجاربهن تختلف عن تجاربها.
وتستغرب ريبيكا بأن أياً من معارفها في القاهرة لم يدعها يوماً لبيته، مع أنها دعتهم إلى بيتها في عدة مناسبات. أخبرتنا بحزن بادٍ بأنها كانت تتمنى مثلاً أن يدعوها أي من زملائها في العمل أو معارفها للإفطار في رمضان، لتشعر بأنها جزء من النسيج المجتمعي في القاهرة، وهو ما يجعلها تشعر بالغربة في المدينة، حتى ولو كانت تتقن اللغة العربية وتعرف الكثير من الأماكن والشوارع فيها.
من جهة معاكسة، كان لكرستين الكثير من الأصدقاء المقربين في مصر، وما زالت على تواصل شبه يومي معهم، حتى بعد مغادرتها. تقول: "هؤلاء ناس أحترم آراءهم وتجاربهم في الحياة"، وتؤكد بأنها كانت تزورهم في بيوتهم، وبعضهم دعوها لبيوت عائلاتهم أيضاً.
تبقى القاهرة هي القاهرة؛ المدينة التي لا تشبهها مدينة أخرى، بما فيها من مميزات وصعوبات. كل السيدات قلن بأن القاهرة أصبحت مع الوقت بيتاً يحتضنهن، مع أنهن لم يتخيلن يوماً بأنهن قد يكملن كل حياتهن فيها، فهي مدينة مرهقة جداً للنساء حتى ولو كن أجنبيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...