تعلّمت ألا أسأل امرأة عن سبب ثقل حقيبتها، لكن اضطررت لذلك مؤخراً، حين سافرت مع صديقتي إلى شرم الشيخ، وهالني ثقل حقيبتها، قبل أن تجيبني أنها جلبت معها كل الملابس التي لا تستطيع ارتداءها في القاهرة، أو التي لا تصلح سوى للمدن السياحية، كشرم الشيخ والغردقة.
لم أفهم قصدها بالضبط، إلا حين وجدتها ترتدي "شورتاً قصيراً" لتقضي به اليوم خارج الفندق، وتسير به في الشوارع بدون أي قلق، وهو ما تكرر بعد ذلك بأشكال مختلفة، حين ارتدت فساتين قصيرة للتنزه وحضور الحفلات البدوية، وحدث أيضاً حين وجدتها تتمايل مع أنغام الموسيقى وتطلق العنان لنفسها بالرقص دون أي خجل.
الفرحة الطفولية والطمأنينة التي فيها صديقتي وهي تفعل ذلك وكأنها بدولة أوروبية، دفعتني لأن أتابع أعين المارة وأرهف السمع لالتقاط أي "تحرش لفظي" قد يصدر ضدها، أو ربما تتطور الأمور للأسوأ، لكن ذلك لم يحدث، فالمارة من حولنا، خاصة الفتيات، يرتدون أيضاً ملابس صيفية ويستقلون بها المواصلات العامة باطمئنان كامل.
لماذا يمكن لفتاة أن ترتدي شورتاً قصيراً وتسير به في شوارع مدينة مصرية بأريحية، في حين أنها لو فعلت ذلك في مدينة مصرية أخرى تتعرض للتحرش، وقد يتم اغتصابها، والحوادث في ذلك أكثر من أن تحصى؟ ولماذا يتعامل المصريين بكل هذا الرقي؟ فلا أحد يتدخل فيما لا يعنيه، والجميع يسير بحريته رغم أننا لم نغادر البلاد، تلك هي الأسئلة التي حاولت الإجابة عليها.
برأيي، أول تلك الأسباب هو التواجد الأمني المكثف في شرم الشيخ أو أي مدينة سياحية أخرى، وهو بالطبع تواجد أمني معني بالدرجة الأولى بالسائحين: نحن لسنا على قائمة الاهتمامات
برأيي أن أول تلك الأسباب هو التواجد الأمني المكثف في شرم الشيخ أو أي مدينة سياحية أخرى، وهو بالطبع تواجد أمني معني بالدرجة الأولى بالسائحين: نحن لسنا على قائمة الاهتمامات.
لكن ذلك لم يمنع أن المصريين يستفيدون أيضاً، خاصة أن أفراد الأمن يتعاملون بحزم وصرامة مع أي قضية تتعلق بالتحرش، لأن ذلك يعني "فضيحة عالمية"، وهو ما لاحظته حين تعرضت سائحة قررت السير بـ "المايوه" لتحرش لفظي من أحد المارة، فتمّ احتجازه على الفور، ومثل تلك الإجراءات السريعة هي ما تردع المتحرشين وتجعل الفتيات يسرن بأمان.
أما السبب الثاني فيتعلق بالصورة الذهنية لتلك المدن السياحية في مخيلة المصريين، بمعنى أن أي قادم لشرم الشيخ مثلاً، لديه صورة أنها مدينة تتمتع بحرية نسبية، وبالتالي سير فتيات يرتدين ملابس قصيرة أو أجانب يرتدين مايوهات هو أمر طبيعي.
وبسبب تلك الصورة الذهنية يلتزم معظمهم بضبط النفس، رغم أن كثيراً ممن التقيتهم في شرم الشيخ مصريين جاؤوا من محافظات مختلفة، وبعضهم قد يتحرش بأي فتاة غير محجبة في القاهرة، بل وبعضهم قد يبرر الاغتصاب، لكنهم في شرم الشيخ لا يفعلون ذلك، خاصة في ظل تواجد أمني قادر على ردعهم، ولعل ذلك هو ما دفع صديقتي، حين تناقشنا في الأمر، للقول: "دي شرم"، في إشارة أن ما يسرى هنا لا يسرى على باقي المدن المصرية للأسف.
أما السبب الثالث فهو الاعتياد، فحين تحدثت مع عامل أحد المقاهي عن تلك النقطة، أخبرني أن مشاهدة امرأة ترتدي ملابس قصيرة في البداية "كان يثيرهم"، أما الآن فاعتادوا على ذلك، وبالتالي لا تحدث أي مضايقات أو تحرش، وإجابة عامل المقهى تلك لربما أجابت على سؤال لماذا كانت المرأة المصرية في أحد الأيام ترتدي "ميكروجيب" وتسير به في شوارع القاهرة دون أي مضايقات؟ ببساطة، لأن المصريين وقتها اعتادوا ذلك.
والأهم الآن أن تلك الأسباب الثلاثة أثبتت أن منع التحرش وتوفير بيئة آمنة للمرأة المصرية ليس مجرد حلم، ولا يتعلق الأمر بسوء أخلاق المصريين، تلك الحجة التي تستخدمها مؤسسات الدولة للتنصل من مسؤوليتها، وإلقاء الكرة في حجر المواطن، متناسية أن التحرش جريمة مثله مثل السرقة، فهل تبرر الدولة السرقة بسوء الأخلاق أم تتصدى لها؟
مقاومة التحرش أمر بمقدور الدولة المصرية، بدليل شرم الشيخ أو غيرها من المدن السياحية، فالأمر يتعلق أولاً وأخيراً بالإرادة السياسية، فكما أعطت تعليمات لرجال الأمن المنتشرين في شرم الشيخ، بعدم التهاون مع أي قضية تحرش،يمكنها أن تعمم تلك التعليمات على جميع محافظات مصر
كما تثبت تلك الأسباب أن مقاومة التحرش أمر بمقدور الدولة المصرية، بدليل شرم الشيخ أو غيرها من المدن السياحية، فالأمر يتعلق أولاً وأخيراً بالإرادة السياسية، فكما أعطت تعليمات لرجال الأمن المنتشرين في شرم الشيخ، بعدم التهاون مع أي قضية تحرش، سواء لفظي أو جسدي، دون إلقاء أي لوم على الفتاة، يمكنها أن تعمم تلك التعليمات على جميع محافظات مصر، خاصة أن التواجد الأمني منتشر في كل شوارع المحروسة.
وبتوفير تلك البيئة الرادعة للمتحرشين يمكن أن تسير الفتيات بحرية، وهي الخطوة الثانية قبل أن يحدث الاعتياد الذي أخبرني به عامل المقهى، ووقتها لن يكون هناك حاجة كبيرة لرجال الأمن، لأننا لن نعتبر ارتداء فتاة لفستان قصير في شوارع القاهرة أمراً غريباً، وأملي أن يحدث ذلك قريباً، لأن صحتنا لن تساعدنا على حمل حقائب ضخمة كثيراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...