"الرجل مجنون وليس متحرشاً"
تبدأ حكاية ياسمين البدري (30 عاماً) من الإسكندرية، في 3 مارس من العام الجاري. كانت متواجدة في محل عملها، وهو متجر خاص بأدوات التجميل، ففوجئت بشاب في العشرينيات من عمره، يقف خارج المحل ويخرج عضوه الذكري، ويقوم بأفعال وإيحاءات جنسية.
تقول ياسمين لرصيف22: "في البداية، لم أقو على أي رد فعل من الصدمة، وبعدما تمالكت نفسي وأعصابي، خرجت للخارج محاولة إمساكه، طبعاً كان قد جرى وهرب، فرجعت لكاميرات المراقبة الخاصة بالمحل".
"لم أقو على أي رد فعل من الصدمة".
"وجدته في الفيديو كان منتظرني نصف ساعة كاملة حتى أكون وحدي، نشرت الفيديو على حسابي على الفيس بوك، وبالفعل الفيديو انتشر بشكل كبير جداً، في عدد كبير من الصفحات والمجموعات الفيسبوكية، في البداية كانت التعليقات كلها مشجعة ومساندة، وتدعمني في تحرير محضر في مركز الشرطة، لكن مع الوقت بدأ الهجوم عليّ بقوة وتوجيه السباب والشتائم لي، بحجة أن الفيديو خادش للحياء، وكيف لفتاة أن تنشر فيديو كهذا، واتهمت بأني منحلة لأنني غير محجبة وطبعاً أستحق التحرش".
تكمل البدري: "وقتها تمسّكت بحقي. ذهبت لمركز الشرطة، وحررت محضراً بالواقعة، وتم ضبط المتحرش في 24 ساعة، وتم تحديد جلسة، ولكن لظروف انتشار وباء كورونا تم تأجيل الجلسة، ثم تم النطق بالحكم في 13 يونيو بالحبس سنة".
عندما رويت ياسمين ما حدث معها أثناء تحرير المحضر، تم الاستهزاء بما تعرضت له، وقال لها أحد أفراد الأمن: "ولكن هذا ليس تحرشا، لم يمد يده عليك، وممكن يكون مجنون"، ثم أرسلوها لمركزي شرطة مختلفين، محاولين دفعها للملل
ولكن الأمر لم يسر بسلاسة أو سهولة، فقد تعرضت ياسمين لعدد من الضغوط النفسية، أولها هو ردّ فعل المتابعين والمعلّقين على فيسبوك، والذي كان "عنيفاً وهجومياً ومهيناً لحد كبير"، وكأنها هي الجانية وليست الضحية، كذلك تعرضت للضغط من جانب أهل المتهم، الذين أخذوا يلحّون عليها، ويطاردونها لإقناعها بالتنازل عن البلاغ.
ولكن كل هذه الأنواع من الضغوط النفسية لا يمكن مقارنتها بما تعرضت له ياسمين داخل مركز الشرطة، فقد تعرضت لنوع من التعنت في التعامل مع شكواها، ففي البداية تم إهمالها وتركها منتظرة من الساعة 12 مساء وحتى الخامسة والنصف فجراً، قبل تحرير المحضر.
وعندما رويت البدري ما حدث معها أثناء تحرير المحضر، تم الاستهزاء بما تعرضت له، وقال لها أحد أفراد الأمن: "ولكن هذا ليس تحرشا، لم يمد يده عليك، وممكن يكون مجنون"، ثم أرسلوها لمركزي شرطة مختلفين، محاولين دفعها للملل والتخلي عن فكرة تحرير بلاغ ضد الجاني.
وفي النهاية، وبعد إصرار ياسمين، أدخلوها للضابط المسؤول عن المركز الأمني التابعة له منطقة وقوع الجريمة، فتروي ياسمين: "هو الوحيد الذي تعامل بجدية مع شكواي، واتصل بأحد الضباط وأمره بعمل تحريات فوراً عن الولد الظاهر في الفيديو، والحقيقة أنه لولاه لما كانت البلاغ تم أو أخذت القضية مسارها القانوني".
"أخذت حقي وشعرت بالراحة"
أما إيناس كمال (34 عاماً)، صحفية مقيمة في القاهرة، فقد كانت أكثر حظاً، فتروي لرصيف22: "الحقيقة، إنني لم أتخيل يوماً أن أدخل قسم شرطة أو أن أقدم على تحرير محضر لأي سبب، ولكن في 2015 وكنت أبلغ 29 عاماً، كنت أحاول العثور على شقة للإيجار في منطقة السيدة زينب، وقصدت حارس عقار لأرى شقة معينة بغرض إيجارها. ولابد هنا من ذكر أن زوجته وأطفاله كانوا متواجدين بالعمارة في الغرفة المخصصة لهم. فصعدت معه، وكنا كلما نصعد دوراً يفعل حركات سخيفة مثل أن يقترب مني دون داعي، أو يلمس يدي أو جسمي وهو يستدعي المصعد، وهكذا حتى أصبح الوضع لا يطاق وغير مريح، ولا يحتمل أي حسن نية أو احتمالية أنه يتحرك بشكل عفوي أو غير مقصود".
وتتابع كمال: "الموقف كان مهيناً لأقصى درجة، وشعرت وكأني مستباحة ورخيصة، مع العلم إنني كنت وقتها محجبة ومظهري محافظ جداً، فحتى أي محاول للومي أو تحميلي مسؤولية التعرض للتحرش لن يكون لها أي موضع من الصحة، بل إنني تعمدت أن أذهب بنفس الملابس ونفس المظهر وقت تحقيقات النيابة، وقتها رجعت للمنزل منهارة، فشجعتني صديقتي على التوجه لمركز الشرطة وتحرير بلاغ ضد حارس العقار، وهو ما فعلته".
وعن الأجواء داخل قسم الشرطة، تقول إيناس: "الحقيقة أن الكل اهتم وقتها، ونظرا لأن القضية كانت مطروحة بقوة كقضية رأي عام، كذلك الاهتمام لأنني صحفية، وبالفعل تم ضبط المتهم في خلال 10 دقائق تقريباً، وعندما رآني ظل يعتذر ويكرر اعتذاره، ويدعي أنه لم يكن يقصد ما فعله. ومن بين ما عرفته فيما بعد أن هناك عدداً من السماسرة شهدوا أن أخلاقه ليست مستقيمة، بل وأن عليه عدداً من الأحكام وأنه مدان في جرائم أخرى ليست تحرش، ولكن كل هذا دعم موقفي".
"عندما أخذت حقي بالقانون شعرت براحة".
وعن التأثير النفسي بعد لجوئها إلى القانون، تقول إيناس: "عندما أخذت حقي بالقانون شعرت براحة نفسية كبيرة، لأنني وقتها لم يصل إليّ شعور سوى إنني منتهكة، وأن أي رجل يمر عليّ من حقه أن يفعل ما يحلو له، كذلك لم أشعر بأي ضغط نفسي ولم أتعرض لأي نوع من أنواع التعنت، وهذا كان بفضل أن قضية التحرش كانت وقتها قضية رأي عام، ومحتلة موقعاً مهماً في المناقشات على السوشيال ميديا، كذلك توجه الدولة الذي كان واضحاً للاهتمام بهذا الملف، خدمني بقوة".
"أحتاج لوقت وجهد"
حالف الحظ كذلك الصحفية نادية مبروك (33 عاماً)، من القاهرة، فتروي: "منذ 8 سنوات تقريباً، كنت في وسط البلد، أنا ومجموعة من أصدقائي، وكنا متوجهين لنقابة الصحفيين لغرض شخصي، عندما تعرضت صديقة لي للتحرش اللفظي من أحد العمال بالشارع، ولما ردت عليه، ضربها بكرسي نتج عنه كسر في أنفها. طبعاً اندلعت مشاجرة كبيرة في الشارع، فاتصلت بالنجدة وكان رد الفعل سريعاً جداً، فوجدت قوة من مركز الشرطة التابع للمنطقة متوجهة إلينا، فحررنا المحضر. وفي النيابة وأثناء التحقيقات، فوجئنا أن واحداً ممن ذهبوا معنا للمركز حاول أن يستغل الموقف لتوريط شاب آخر بسبب خلافه مع والده، وكان موقفاً غريباً جداً، ولكننا توصلنا لاسم المتهم الحقيقي، وسارت القضية في مسارها القانوني وحكم فهيا بـ6 شهور حبس".
تتابع مبروك: "وقتها لم أشعر بأي ضغط نفسي أو تعنت، بالعكس كانت كل الأطراف داعمة ومهتمة، بداية من العساكر في مركز الشرطة وصولاً للضباط، وخط النجدة نفسه اتصل بي أكثر من مرة للمتابعة، ولكن برغم كل هذا، ليس سهلاً أن أكرر التجربة مرة أخرى، فمع مسؤوليات الحياة والالتزامات الملقاة علي، يصبح صعباً جداً التوجه للمركز وتحرير محضر، ثم التوجه للنيابة لمتابعة التحقيقات، ثم حضور جلسات المحاكمة، كل هذه الاجراءات تحتاج وقتاً وجهداً، لذلك فأحياناً كثيرة جداً أكتفي بأخذ حقي في وقتها".
"قصور تشريعي وثغرات"
المحامية الحقوقية عزيزة الطويل، كان لها إضافة أيضاً فيما يخص القوانين المنظمة لمحاسبة المعتدين جنسياً في مصر، فقالت لرصيف22: "البنية القانونية والأمنية في مصر طرأ عليها تعديلات كبيرة بعد 2011، ثم مرة أخرى في 2014، فيما يخص جريمة التحرش، حيث أنها لم تكن مجرمة ولا واردة بشكل واضح في التشريعات، ولكن هذا ليس كافياً، لأنه لايزال هناك قصور تشريعي وثغرات تسمح للجناة بارتكاب بعض أنواع الاغتصاب، مثل الاغتصاب الشرجي، ولا يتم توجيه تهمة الاغتصاب لهم، بل تكون التهمة هي هتك عرض".
"من ناحية البيئة الأمنية، فالملاحظ أن هناك عزوفاً شديداً من النساء عن الإبلاغ عن أي انتهاك تعرضن له، سواء في المؤسسات الإدارية أو في المجال العام نفسه، فمثلا مراكز الشرطة في مصر ليس بها وحدة أو مكتب خاص بالتحرش الجنسي، فضلاً عن أن الوعي عند رجال الأمن لا يختلف كثيراً عن الوعي المجتمعي، فنجد دائماً لوماً للمرأة أو إطلاق أحكام أخلاقية عليها بأنها منحلة، فنتيجة طبيعية أن نجد النساء يتراجعن ويعزفن عن اللجوء للمؤسسات الأمنية".
وتتابع الطويل: "كذلك البيئة الاجتماعية، فالمجتمع المصري لا يساند النساء ولا الناجيات إطلاقاً، بالعكس ينبذهن ويلوم الضحية على مظهرها أو مكان تواجدها، ويتسامح مع الرجال المعتدين، وأحياناً يعتبر التحرش والاغتصاب علامة فحولة ومصدر فخر. لذلك نجد أن تلك الضغوط تسبب أذى نفسي مضاعفاً إلى جانب الأذى الواقع من الجريمة".
وأشارت الطويل أيضاً إلى أن القانون يخوّل المعتدي الحق في تحرير محضر مضاد، "وهو ما يحولها من مجني عليها لمتهمة".
"الوعي عند رجال الأمن لا يختلف كثيراً عن الوعي المجتمعي، فنجد دائماً لوماً للمرأة أو إطلاق أحكام أخلاقية عليها بأنها منحلة، فنتيجة طبيعية أن نجد النساء يتراجعن ويعزفن عن اللجوء للمؤسسات الأمنية"
وتشير المحامية الحقوقية، لبعض التطورات الإيجابية في التعامل القانوني مع حالات التحرش، قائلة: "بدءاً من 2014، هناك تطور جيد يحدث، بداية من تجريم التحرش بشكل صريح لأول مرة في القانون المصري، وصولاً لمقترح الحكومة الذي تم تقديمه مؤخراً، بعد قضية أحمد بسام ذكي، والذي ينصّ على حماية بيانات المجني عليهن، ولكننا لازلنا ننتظر خطوات أكبر وأوسع تسمح بوجود مساندة نفسية للضحايا، وتقدير الظرف النفسي للمجني عليها، وتفهّم حالة الصدمة التي تصاب بها وكيف أنها تكون سبباً قوياً لتأخر تقديم البلاغ لحين تستجمع قواها النفسية، فضلاً عن أن المغتصب نفسه، لو كان يمارس عليها أي سلطات، فيكون هذا الأمر سبباً إضافياً لتأخر البلاغ".
وتنهي الطويل حديثها لـرصيف22، قائلة: "إلى جانب ضرورة تحديث التشريعات الخاصة بالجرائم الجنسية، لابد من وجود تركيز خلال المرحلة المقبلة على توعية الأطفال وتربيتهم بشكل صحيح، فيما يخص الجسد والجنس وأي انتهاكات يمكن أن يتعرضوا لها، كذلك لابد من وجود مساحة في قوانين العمل للإشارة للتحرش والاغتصاب، خاصة في القطاع الخاص، لما له من دور في حماية العاملات من أي ممارسات أو ابتزازات جنسية. كذلك ضرورة وجود عناصر نسائية في تشكيل النيابة، حيث لديهن القدرة الأكبر على فهم التكوين البيولوجي والنفسي، وتوابع الآلام الخاصة بالتحرش والاغتصاب، وغيرها من الاعتداءات الجنسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...