حين شاركت في جولة لبعض آثار القاهرة الإسلامية قبل أيام قليلة، لم أقصد سوى"نزهة" لكسر الملل، وبدأ الأمر برؤيتي صفحة على فيسبوك تحمل اسم "المماليك" وتعلن تنظيم رحلة إلى بعض الآثار الإسلامية، ولأنني من المقتنعين أن القاهرة عاصمة تنتمي للعصر المملوكي رغم شهرتها كعاصمة فاطمية، قررت خوض التجربة.
ما لم أدركه وقتها هو أن ضغطي على زر الذهاب لتلك الجولة سيفتح أمامي عالماً جديداً، إذ وجدتني حيال ترشيحات للانضمام إلى عشرات المجموعات التي تعمل في تنظيم رحلات سياحية لمعالم القاهرة فيما يمكن تسميته بـ"غروبات استكشاف آثار القاهرة"، إذ إن نظرة سريعة تكفي لإدراك أن الجميع، رغم عدم وجود صلة في ما بينهم، يعملون بنفس الآلية؛ تنظيم رحلات أسبوعية لآثار القاهرة خاصة غير المشهورة منها. لا يوجد أي اشتراطات سوى الحضور في الموعد المحدد ودفع مبلغ رمزي للمنظمين وهم إما باحثون في الآثار أو مرشدون سياحيون.
جولتي بدأت في العاشرة صباحاً من أمام مسجد أحمد بن طولون، ثالث أقدم مساجد القاهرة، ثم انتقلنا لمسجد السلطان قايتباي فمتحف "جاير أندرسون"، والأخير كان اكتشافاً لي، ليس لأنه شهد تصوير أشهر الأفلام المصرية مثل "السكرية" و"الفيل الأزرق"، لكن لأن "جاير أندرسون" وهو ضابط أنجليزي عاش في القرن العشرين، ولشغفه بالتحف الإسلامية جمع الكثير منها من دول كثيرة ووضعها في هذا المكان موصياً بعدم البيع لتظل متاحة للجميع.
وبجانب السرد المعماري للآثار الذي تولاه مرشد الجولة، كان أول ما لفت نظري هو عدد المشاركين الذي تخطي الخمسين، متنوعين في الأعمار والزي والديانة، فضلاً عن مجموعات أخرى رأيتها بجوارنا تقوم بنفس الدور وأعدادها كبيرة.
رغم أنني تعرفت على آثار كنت أجهلها واستمتعت بحضارة عظيمة، وهذا ما يمكن تسميته بالـ "غود نيوز"، لكن الـ"باد نيوز" أن مرشد الجولة في حديثه عن تاريخ تلك المباني تبنى وجهة نظر أحادية أقرب للعنصرية، بإصراره على تصوير الخلافة الإسلامية تاريخاً ناصع البياض
رؤية هذا كله ليس دليلاً على أن تلك "الغروبات" نجحت في الوصول إلى الناس واجتذاب جمهور من كافة الأعمار فقط، بل هو دليل على فشل الدولة التي ترى أن انتعاش حركة السياحة الداخلية وتشجيع المواطنين على رؤية آثار بلادهم يحتاجان إلى خطط تُصرف عليها ملايين الجنيهات ويستغرق تنفيذها سنوات. المؤسف أن منظمي تلك المجموعات تعرضوا لمضايقات في بداية عملهم من قبل رجال الأمن، وكما روى مرشد "الغروب" فإنه خضع للاحتجاز أكثر من مرة لسؤاله عن ماهية عمله، هذا بجانب رجال الأمن المنتشرين في المواقع الأثرية لمتابعة ما يُقال!
ورغم أنني تعرفت على بعض الآثار التي كنت أجهلها واستمتعت بحضارة عظيمة، وهذا ما يمكن تسميته بالـ "غود نيوز"، لكن الـ"باد نيوز" أن مرشد الجولة في حديثه عن تاريخ تلك المباني تبنى وجهة نظر أحادية أقرب للعنصرية، بإصراره على تصوير الخلافة الإسلامية تاريخاً ناصع البياض، وأن كل ما قيل عنها كذب حتى لو رافقته وقائع مثبتة، بالإضافة لاعتباره أن الفضل في تلك الآثار يعود للمسلمين العرب فقط.
ظهر ذلك حين تحدث عن أحمد بن طولون الذي انفصل عن الخلافة العباسية واستقل بمصر ليؤسس دولته عام 884 ميلادياً، ورغم أن الحادثة دليل على ضعف "الخلافة" وقتها، كشأن أي مملكة كبرى تفقد جزءاً من أراضيها، رفض "مرشد الغروب" ذلك وزعم أن تأسيس دولة مستقلة كان بالاتفاق مع الخليفة وليس دليل ضعف، وكان يمكن تصديق ذلك لولا أنه في نفس توقيت تأسيس الدولة الطولونية كانت الخلافة العباسية تواجه ثورة "الزنج" التي زلزلت العرش العباسي. وهذا دليل آخر على ضعف الخلافة وتدليس التاريخ الذي يُروى.
زاد التدليس بالتأكيد أن تلك الحضارة نتاج جهد المسلمين العرب وحدهم في ظل سيادة الإسلام، كما تكشف لماذا تُحاك المؤامرات من الغرب المسيحي واليهودي ضد أي دعوة إسلامية، والمثير أن "مرشد الغروب" الدارس في كلية الآثار بجامعة القاهرة، أغفل أو تغافل عن أن مسجد أحمد ابن طولون صممه مهندس مسيحي، هو سعيد بن كاتب، الذي لجأ إليه ابن طولون بعدما فشل في الحصول على مهندس مسلم يبني له المسجد كما أراد، ناهيك بأن جاير أندرسون ليس مسلماً، كما أن الكثير من حكام الدولة المملوكية الذين شيدوا تلك الحضارة ليسوا عرباً.
الكارثة الأكبر أن من يُعرّفون الناس بتاريخ حضارتهم يفقدون تلك الحضارة أهم معانيها، فآثار القاهرة الإسلامية هي المثال الحي على أن الحضارة لا تُنتج إلا من خلال التعايش والتبادل الثقافي والانفتاح على الآخر، فكثير من مساجد القاهرة وضع تصميمها أقباط ويهود
رواية التاريخ بهذا الشكل في تلك الجولات يمثل خطورة مزدوجة ليس في ترسيخ احتقار الآخر فحسب بل كذلك لأن ذهن المستمع مهيأ أكثر لقبول تلك المعلومات، فالذي يتحدث هو باحث وفي جولة سياحية وليس هناك مجال للشك في كلامه، وبالتالي يعتبر تزويراً للتاريخ.
وربما أتفهم أن من يتناولون التاريخ بهذه الزاوية قد يريدون إظهار عظمة الأجداد ولهم الحق في ذلك، لكن الأزمة تكمن في أنهم يظهرون تلك العظمة بإنكار جهود الآخرين وتعزيز الشوفينية والعنصرية، وهذا ما يدفعهم لتزوير التاريخ الذي يؤكد أنه ليس هناك حضارة أقيمت بالكامل على أساس ديني أو عرقي.
لذلك، فالكارثة الأكبر أن من يُعرّفون الناس بتاريخ حضارتهم يفقدون تلك الحضارة أهم معانيها، فآثار القاهرة الإسلامية هي المثال الحي على أن الحضارة لا تُنتج إلا من خلال التعايش والتبادل الثقافي والانفتاح على الآخر، فكثير من مساجد القاهرة وضع تصميمها أقباط ويهود، والكثير من فنون الزخرفة التي نفخر بها اليوم هي نتيجة جهد عمّال أجانب. ومن أمروا بتشييد تلك الأبنية ليسوا عرباً، وهذا يُحسب لنا، كمسلمين، لأننا في فترة من الفترات تقبلنا الآخر وتعايشنا معه، وكانت النتيجة تلك الحضارة التي نريد جعلها عنواناً للعنصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...