في مدينة دورهام، شمال شرقي إنجلترا، يروي لي بيل وزوجته اللذان يقطنان هذه المدينة منذ أكثر من خمسين عاماً، ويعرفان كل من مر بها، قصص نساء وطالبات من الشرق الأوسط يُخضعن للرقابة الاجتماعية، التي تفرضها بيئاتهن المحافظة البعيدة آلاف الأميال عن بلاد الضباب.
يرويان قصصاً لنساء يرتدين الحجاب فقط في حضور وافدين من بلدانهن، يمارسون رقابة عليهن "غير مفهومة" بالنسبة إليهما.
يفتح بيل عينيه الزرقاوين على اتساعهما، ويسألني باستغراب: "هل تصدقين ذلك؟"، ويضيف بالكلمة العربية الوحيدة التي يعرفها: "مجنون".
الابتعاد آلاف الأميال عن مركز الضغط الاجتماعي، لا يعني أنكِ خارج دائرة انتقادات تطل برأسها من محادثات الأقارب أو تعليقات السوشال ميديا، أو حتى من وافدين عرب قد يتطوعون لممارسة دور رقابي على المغتربات العربيات، الأمر الذي يشكل ضغطاً اجتماعياً يثقل كواهلهن.
تحدثت نساء عربيات انتقلن للإقامة في أوروبا عن الضغوط الاجتماعية التي ما زلن يرزحن تحت وطأتها، منهن من اخترن التمرد على هذه الحدود الاجتماعية، والتخلص من القيود التي رافقت حياتهن في السابق، مرة أخيرة وإلى الأبد، وأخريات ما زلن يخشين عواقب عدم الانصياع، فيتحايلن على الرقابة التي تلاحقهن بشكل أو بآخر.
انتقادات المقيمين العرب
"أشعر وكأن بعض العرب ينتقدوننا كنساء كثيراً حتى لو كانوا غرباء عن محيطك، بس يعرفك عربية يحكي (ينتقد)" تقول رويدة (37 عاماً)، تقطن مع ابنتيها في تركيا منذ ما يزيد على سبعة أعوام.
وتضيف لرصيف22: "إذا بنت عربية لبست مثل الدولة اللي عايشة فيها بيحكوا عليها أنها طلعت من العادات والتقاليد، وإذا صار عندها صديق أو زميل في الشغل يحكوا عنها، وكثير، وينتقدوها".
غادرت رويدة العراق مع عائلتها عام 2014 إلى تركيا، على وقع الملاحقة الأمنية لزوجها، لكن الأمور لم تسر على نحو جيد، وانتهت بالانفصال عن شريكها أخيراً.
في مدينة يلوا التركية، تحاول رويدة التشبث بأهداب الحياة مع ابنتيها، في ظروف غير مستقرة، ولا تسمح لهن بالعيش الملائم في ظل رفض السلطات منحها حق اللجوء أو السماح لها بالعمل، بالإضافة إلى ما تصفه بـ "التمييز ضد العرب"، تقول: "التعامل أبداً مو منيح مع العرب، أنا شفت هواية تعرضات (تحرش) للنساء العربيات، بس يسمع هاي البنت عربية يتحرشون فيها".
وعلى الرغم مما تمر به رويدة ترفض العودة إلى العراق، فالانضمام إلى نادي المطلقات في البلدان العربية المحافظة، يكلف بعضهن البقية من حريتهن، واستقلالية معيشتهن، كما تقول.
وتتابع رويدة: "أنا صار لي فترة انفصلت عن زوجي، وتعرفي عادات وتقاليد العراق، يعني صعب أعيش بالعراق، وانا وبناتي لوحدنا، من غير المقبول أن تعيش المطلقة لحالها"، وعلى رغم من وجودها بعيداً عن العراق ما زالت تواجه سيلاً من الانتقادات من أقاربها بشأن الانفصال، بالإضافة إلى تعليقات متواصلة من مقيمين عرب في تركيا حول علاقاتها الاجتماعية، وأسلوب حياتها.
"تركت الحجاب والعادات"
مدينة الناظور شمال المغرب، وادعة تطل على البحر المتوسط، لكنها تضيق بأحلام أميمة بوار (24 عاماً) التي تركت وخطيبها البلاد نحو رومانيا لتحقق حلمها المؤجّل بدراسة الهندسة المدنية.
أتمت بوار درجة البكالوريوس في الأدب الفرنسي في المغرب، لكن حلم دراسة الهندسة لم ينفك يراودها إلى أن واتتها الفرصة المناسبة للدراسة في رومانيا. تقول إنها تواجه انتقادات طوال الوقت خصوصاً بعد قرار الانفصال عن خطيبها في سبيل متابعة دراستها.
في مناسبات كثيرة، توضع النساء تحت ضغط الاختيار بين متابعة طموحهن والاستقرار في "ظل راجل" فـ "البنت ما لها غير بيت زوجها" مهما ارتفع طموحها.
الابتعاد آلاف الأميال عن مركز الضغط الاجتماعي، لا يعني أنكِ خارج دائرة انتقادات الأقارب أو السوشال ميديا، أو حتى من وافدين عرب قد يتطوعون لممارسة دور رقابي على المغتربات العربيات
بوار وجدت نفسها في موقف مماثل، وتقول إنها انفصلت عن شريكها بعد أيام فقط من وصولها إلى رومانيا.
تضيف: "قال لي إني ما رح أقدر أحقق شي من يلي بحلم فيه، هاي المقولة بالذات دفعتني أكثر لأكمل حلمي"، لكن في الوقت ذاته، لا تزال تواجه ضغطاً اجتماعياً بعد قرارها ذاك، تشرح: "أواجه انتقادات كبيرة من أقاربي، لأنه عندهم فكرة إنه البنت خلقت بس لتتزوج، وأن البنت مهما تعلمت مصيرها للزواج فقط، عائلتي متقبلين الفكرة، وهلا لاحت الفرصة لأتابع حلمي منذ كنت صغيرة، وما بدي أفلّتها مهما كلف الأمر".
منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها نور أمير (29 عاماً)، رومانيا في رحلة لجوء ستنتهي في ألمانيا، تركت وراءها ما تصفه بـ "العادات الشرقية" مع الحجاب، فهي لم تكن متحمسة لهذه العادات، على حد تعبيرها.
تقول نور لرصيف22: "فور وصولي رومانيا تركت الحجاب لأن عقليتي بعيدة شوي عن الشرق، وهاي كانت رغبتي من زمان أرفع الحجاب".
ولكن الأمر لم يمر هيناً على عائلتها، التي رفضت قرارها ذاك، وواجهته بالانتقادات الشديدة، ومقاطعتها، تقول نور: "صار ضغط من عيلتي وأهلي وشوية مشاكل بسبب قراري ترك الحجاب، زعلوا، وبطلوا، يحكوا معي، لكن بعد فترة تقبلوا الأمر".
للتحايل على الرقابة، امتنعت عن مشاركة صورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لتبقي على علاقتها مع عائلتها.
وتكمل: "الصور بملابس بأكمام قصيرة ما بنزلها على صفحتي، بخفيها حتى أهلي ما يزعلوا، بيضلهم أهلي، وما بدي أفوت بمجادلات كتيرة بدون فايدة".
وتتابع: "أساير عائلتي بالحديث، ودائماً بردد إن شاء رح أرجع ألبسه، لكنه كان قراري من زمان، لكن عقلية الشرق بتضل صعبة، وهمهم الوحيد أنه شو الناس بدها تحكي علينا".
"راحت عليكِ"
في كل مناسبة خطبة أو ارتباط اعتادت يارا بدر الدين أن تسمع ممازحة زملائها بـ "عقبالك"، ثم يتبعونها سريعاً بـ "مع إنها بعيدة عنك"، تقول: "يقصدون أن وجودي في أوروبا يضيع عليّ فرص الارتباط".
وتضيف يارا، وهي فلسطينية من قطاع غزة، انتقلت للإقامة في اسكتلندا قبل نحو عام لمتابعة دراسة الماجستير بجامعة أبردين: "لما سافرت بيقولولي طالعة تعنسي، وراحت عليكِ (فرص الزواج)".
ترى نور أن الكثير من العربيات تتغير مشاعرهن حيال بلادهن بعد اندماجهن في الحياة بأوروبا، فلا يرغبن في العودة، لأنهن "قد يتعرضن للعنف الأسري نتيجة تمردهن على القيود الاجتماعية في بيئاتهن المحافظة"
وبالنسبة للمجتمع الفلسطيني فإنه غالباً ما تعتبر الفتاة العزباء، ما فوق سن الخامسة والعشرين بـ "المتأخرة جداً عن سن الزواج".
تحاول بدر الدين، التي بدأت العمل في مجال التطعيم ضد فيروس "كورونا" المستجد، إحداث تغيير في الثقافة عن الزواج بإثارة نقاشات عبر صفحتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وتقول إن الأمر يشكل ضغطاً نفسياً عليها، لكن ليس إلى حد كبير، ولا يعكر صفو الحياة التي وجدتها خارج القطاع.
مثل نور تمتنع بدر الدين عن مشاركة صورها التي تمثل حياتها في أوروبا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للتملص من الرقابة على أسلوب حياتها الجديد، وتقول: "الناس في غزة ما بتستوعب اختلاف نمط الحياة في الخارج، البلد اللي بتعيش فيها بتفرض تغيير في نمط اللبس وأسلوب الحياة، أوقات بلبس كاب بدل الحجاب لأشعر أكثر بالاندماج والأمان، لكن الناس ما رح تفهم هالشي".
لذلك ترى نور أن الكثير من العربيات تتغير مشاعرهن حيال بلادهن بعد اندماجهن في الحياة بأوروبا، فلا يرغبن في العودة، لأنهن "قد يتعرضن للعنف الأسري نتيجة تمردهن على القيود الاجتماعية في بيئاتهن المحافظة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت