يحتفي التونسيون، كبقية العالم، بالحب، وعيد العشاق، عن طريق إرسال بطاقات معايدة، إهداء الزهور، الشوكولاتة وغيرها، فيما ينصرف آخرون إلى تقليد جديد، تبناه البعض برغبة في المحافظة على حبهم الأبدي الذي لا تنفّك أواصره إلى آخر العمر، وهو تثبيت الأقفال الحديدية على أسوار الجسور والأسيجة، ورمي المفاتيح بعيداً، كرمز لحبهما.
هذا القفل الذي يراه البعض مجرد ترّهات اختلقها فئة من الشباب، وخاصة صغار السن الذين تعودوا حفر وكتابة أسمائهم وأسماء حبيباتهم، على جدران الشوارع وطاولات المدارس وغيرها، تحول نسبياً إلى تقليد في تونس، وهو ما نلاحظه من خلال كثرة الأقفال الحديدية التي تتدلى على السلاسل الحديدية، بضفاف البحيرة في الضاحية الشمالية للبلاد، وعلى بعد 5 كلم من العاصمة تونس.
لقطة مثيرة
في طريقي إلى المنزل، استوقفتني لقطة مثيرة بين ثنائي (شاب وفتاة) يضعان قفلاً حديدياً على إحدى السلاسل المتدلية بضفاف البحيرة (تلك المنطقة الفاخرة التي يسكنها الأثرياء).
للوهلة الأولى اعتقدت أن الرجل ربما تقدم لخطبة الفتاة، وهو بصدد إلباسها الخاتم، رأيت صديقتها تلتقط لهما الصور، وهي بدورها موضة جديدة، انتشرت في بلادنا، لكن تبين لي أخيراً بأن ذلك الثنائي بصدد التوقيع عن حبهما الأبدي، عبر حفر أسمائهم على قفل حديدي، تثبيته على سلسلة البحيرة، وإلقاء المفتاح في عمق الماء.
بالقرب من "سلاسل الحب" التقينا سالم العراكي (32 عاماً) بائع متجول، وهو من بين الذين وضعوا قفلاً حديدياً، طمعاً في استمرار علاقته بحبيبته، التي رافقته سنين دراسته في كلية الهندسة.
يقول العراكي لرصيف22: "كنا نأتي باستمرار إلى هذا المكان الذي يتميز بالهدوء والمناظر الرائعة، حيث يأخذنا حلمنا للحديث عن مستقبلنا، أولادنا، منزلنا المستقبلي وكل تفاصيل الحب الرائعة، ولعل ما بقي من تلك الأحلام هو القفل الحديدي الذي تم تثبيته عشية يوم ربيعي عام 2013، وباقي الأحلام اندثرت أمام عادات وتقاليد المجتمع".
"رفضت عائلة الفتاة تزويج ابنتها ببائع متجول، غدرت به الحياة وخانه الحظ رغم صغر سنه".
طقس ثوري
تعود قصة "أقفال الحب" إلى أكثر من مائة عام، حسب ما هو متداول، حيث ترتبط بحكاية حبٍ حزينة، نشأت بين نادا، معلمة في إحدى مدارس "صربيا"، وريليا، ضابط من نفس المدينة، وقد تعاهدا على الحب مدى الحياة، وكان لقاؤهما المعتاد على جسر موست ليوبافي "جسر الحب".
ذهب الضابط إلى الحرب في اليونان، ووقع في حب امرأة محلية، لكن حبيبته لم تنسه، وماتت بعد فترةٍ وجيزةٍ بالحسرة والحزن. وقد كانت هذه الحكاية دافعاً لنساء المدينة إلى حماية أنفسهن من الغدر، وبدأن بكتابة أسمائهن وأسماء من يحببن على أقفالٍ حديدية، وتثبيتها على نفس الجسر، ومن هنا جاءت فكرة أقفال الحب.
المختص في علم الاجتماع، الأستاذ ممدوح عز الدين، يقول لرصيف22: "هذه الظاهرة الجديدة في تونس تعد طقساً من الطقوس الثورية، وتسمى بالتعبيرات الشبابية التي ترتبط عموماً بظاهرة العولمة، التي تجاوزت الحدود الجغرافية لتكسر الحدود الثقافية والأخلاقية".
"إننا نعيش في عالم من الانسيابية والسيولة في مستوى المعاملات التي ألغت الحدود التقليدية".
ضحية
يتجول صابر (25 عاماً) على ضفاف البحيرة، استوقفناه برهة ليحدثنا عن تلك الأقفال، ورأيه بما يعتقده العشاق حولها، فانفجر ضاحكاً، وقال: "أنا أحد ضحايا تلك الخرافة، كنت في العشرين من العمر حين أحببت لأول مرة، وكما تعلم حب المراهقة جارف، ويقودنا لفعل أشياء سخيفة أحياناً، من بينها ذاك القفل الذي وضعته أنا وحبيبتي، في أحد لقاءاتنا على ضفاف البحيرة، كنا نعتقد أنه بغلقه في دوائر سلاسل الحديد سيدوم حبنا طويلاً ولن ينتهي".
"منذ وضعناه والمشاكل تكبر بيننا، وكلما صدأ ذاك القفل صدأ معه قلبي وقلبها، أفكر في خلعه. بل أفكر في خلع جميع تلك الأقفال كي تتحرر قلوب واضعيها"
وتمالك صابر ضحكه، ثم أردف قائلاً: "منذ وضعناه والمشاكل تكبر بيننا يوماً بعد يوم، وكلما صدأ ذاك القفل صدأ معه قلبي وقلبها، وافترقنا بعد أقل من سنة، ومنذ ذلك الحين لم أدخل علاقة إلا وأنهيتها بسرعة، أفكر في خلعه. إنه نحس. بل أفكر في خلع جميع تلك الأقفال كي تتحرر قلوب واضعيها".
ويرفض شق من التونسيين هذا الاحتفال، ويعتبرونه "دخيلاً على العادات والتقاليد الإسلامية"، كما يستنكره غير المرتبطين والمطلقين والذين يعانون من الاكتئاب، حتى أولئك الذين لا يملكون المال الكافي للتسوق وشراء الهدايا.
ويشدد ممدوح عز الدين على أننا في تونس "نعيش اليوم ثورة ثالثة، تسمى بالحركات الشبابية التي تخالف كل ما هو سائد، خاصة التصورات التقليدية، بعدما سبقتها من قبل الثورات العمالية والجندرية"، مضيفاً أن "وسائل التواصل الاجتماعي خلقت ثقافة افتراضية عابرة للقارات، وتكاد تكون موحدة في العالم".
وجهة رومانسية
تحولت منطقة البحيرة إلى وجهة رومانسية، يقبل عليها العشاق من داخل البلاد، وحتى من السياح الأجانب، حيث يعلقون على سلاسلها المتدلية أمنياتهم وأحلامهم، ويقفلون على حكايتهم جيداً، حتى تبقى في مأمن من الجميع وتدوم إلى الأبد.
"أقفال الحب" لم تعد تقتصر على جسر الفنون بباريس، ولا على جسر ميلفيو في روما، أو بحيرة سويونغ في دايغو في كوريا الجنوبية وغيرها من الدول، فقد أصبحت موضة جديدة تغزو الجسور والأسيجة والسلاسل الحديدية في تونس.
الأقفال الحديدية، بعد أن كانت تستخدم للحفاظ على عذرية الفتاة قديماً، ووسائل السحر الأسود، أصبح يستخدمها العشاق الشباب للحفاظ على حبهم، بكتابة أسمائهم عليها، ورميها في البحر
يصفها عز الدين بأنها "أسلوب جديد للتعبير، يريد من خلالها الشباب أن يعيش اللحظة، والتمتع بأقصى ما يمكن"، ولكن من الناحية العملية "لا توجد لها أي علاقة بالواقع المجتمعي، ولو كان ذلك القفل نافعاً لتقلصت نسب الطلاق، وتقلصت معها أيضاً نسب العزوبية، والإنجاب خارج إطار الزواج".
وتثمن بدرة (26 عاماً) ناشطة في المجتمع المدني، طقوس الأقفال الحديدية، قائلة لرصيف22: "نحن بحاجة إلى الحب، ولا يهم الطريقة التي نعبر بها عن ذلك، لكن العشاق وحدهم يعرفون قيمة الشيء الذي يقومون به، وربما يكون ذلك القفل الذي يحتقره البعض رمزاً للفرح"، مستشهدة بمقولة للصحفية والمؤلفة الأمريكية ميغنون ماكلوكين: "الحب يفتح الأبواب والنوافذ التي لم تكن موجودة من قبل".
ولم يصدر في تونس أي قرار رسمي من السلطات يلغي وضع مثل هذه الأقفال، وكانت فرنسا قد قامت بإزالة مليون قفل، تزن 45 طناً بقرار من بلدية باريس بعد انهيار جزء من جسر الحب، نتيجة الثقل الكبير الذي بات يمثل خطراً على سلامة الجسر، وقد تبعتها بعد ذلك نيويورك، باعتبار هذه الأقفال تمثل أيضاً "خطراً" على جسر بروكلين الشهير.
أقفال السحر
يبدو أن البعض في تونس يؤمن حقاً بالدور السحري لتلك الأقفال، إذ تحولت "الكادنات"، في شرائح اجتماعية أخرى، إلى أداة قوية للسحر الأسود، إذ يتم الغلق على صور الفتيات والشباب وحتى الأطفال والأزواج، ودفنهم في المقابر، بغاية تعطيل حياتهم وإصابتهم بكل انواع الأمراض.
كما أصبحت أيضاً من أسهل وسائل السحر، إذ يكفي أن تتم سرقة صورة من الفيسبوك، والذهاب بها مع "كادنا"، إلى أحد المشعوذين ليقرأ عليها بعض الطلاسم.
سحر اليوم...
ما يسمى بحملة تنظيف المقابر من السحر هي أكبر دليل ان هذا الشعب تافه و متخلف لدرجة أنه مازال يؤمن بالسحر و...
Posted by بنقردان الصفحة الرسمية on Tuesday, 1 September 2020
وتستعمل بعض النسوة "الكادنا" لحماية بناتهن، والحفاظ على عذريتهن، إذ تضع المشعوذة قفلاً حديدياً تحت أقدام البنت الصغيرة، وتفتحه وتغلقه سبع مرات، مع قراءة التعويذة "أنا خيط وولاد الناس حيط"، ويتم فتح هذا القفل يوم زفافها بنفس الطريقة، وفي حال ضياع المفتاح أو وفاة المشعوذة يذهب كل شيء، وتتحطم حياة الفتاة.
وتستعمل الأقفال في السحر لأنها تعتبر الأكثر صموداً وديمومة مقارنة بالورق، وهو اعتقاد شائع وقديم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...