تهب رائحة الصباح على القرى الريفية في الشمال الغربي التونسي، مختلطة برائحة خبز الكسرة، الذي تتفنّن في إعداده ربات البيوت، ثم تشرق شمس الصباح على السهول والهضاب الخضراء لتزيدها جمالاً، وترسل أشعتها الذهبية على قطرات الندى، التي تنتظرها حدة (50 عاماً) حتى تتلاشى لتطلق غنمها للرعي .
هذا هو دأبها كل صباح، فهي أرملة، وأم لثلاثة أطفال، ولا معيل لها غير منحة لا تسد الرمق، تتقاضاها من الدولة، فاختارت تربية الماشية لتؤمن مصاريف دراسة أطفالها، تقول لرصيف22: "ماذا عساني أن أفعل، يجب أن أوفر قوت عائلتي، فالمعيشة غالية جداً، وكما يقول المثل شاقي (متعب) ولا محتاج".
ورغم أن مهنة الرعي تقتصر على الرجال عادة لما فيها من مشقة ومخاطر فإن بعض النساء يتخذن منها مهنة برضا أو على مضض، ولا يعتبرن أنها تنقص من "أنوثتهن" بل تمدهن بقوة وجلَد لا مثيل لهما.
طقوس الرعي
منذ ساعات الصباح الأولى تستيقظ جودة (23 عاماً) على عجلة من أمرها، تفطر بسرعة ثم ترتدي معطفها، وتخرج نحو الحظيرة لتطلق عنان الحرية لخرافها، وتنطلق في رحلة رعي يومية، يحدد نهايتها مدى امتلاء بطون الغنم بما تيسر من الكلأ.
ألفت جودة الوحدة، وباتت خرافها، وكلبها الصغير خير مؤنس لها في الأراضي الشاسعة، بين سهول ومرتفعات منطقة غدير الربايع من محافظة سيدي بوزيد، مهد الثورة التونسية، تحمل هاتفها الخلوي المتواضع، وعصا رقيقة، تهش بها على الغنم، وتسرح نظرها هنا وهناك لوضع خطة الرعي، واختيار مكان دافئ تجلس فيه.
تقول لرصيف22: "الخراف بالنسبة لي بمثابة أفراد من العائلة، فهي مورد رزقي، ومنذ فتحت عينيّ في هذه الدنيا وجدتها في تفاصيل حياتنا، فنحن نهتم بها كما نهتم بأنفسنا حتى إنني أقدم لها الطعام قبل أن آكل، وقد أصبحت علاقتي بها وطيدة جداً لدرجة أنّ صغار الماعز تلعب معي، وتتبعني أينما ذهبت".
وتضيف ضاحكة: "أعيش طرائف عديدة في الرعي مثلاً عندما تموت أم أحد الخراف، أرضع الخروف حليباً في آنية خاصة، فيتعلق بي جداً كأنني أمه، ولا يفارقني حتى في النوم. من الطرائف أيضاً أنني نمت وأنا بصدد الرعي، فعادت الخراف إلى الحظيرة، وبقيت وحيدة في الخلاء".
مخاطر جمة ومشاعر مختلطة
تتمركز العناصر الإرهابية عادة في الجبال المتاخمة للحدود الجزائرية، وقد استهدفت أكثر من مرة رعاة عزَّلاً، وقامت بتصفيتهم بعد أن حاولوا مراراً استقطابهم بهدف الحصول على المؤونة أو المعلومات، وكل من لا يخضع لهم يعد عدواً، ويتم استهدافه وتصفيته، ويُعتبر مرشداً للأمن، مما جعل الرعاة والراعيات يخشون الاقتراب من الجبال عند الرعي، مثل منيرة (49 عاماً) التي تنحدر من محافظة القصرين. تقول: "أنا أقطن قرب جبل سمامة، حيث كنت أرعى أغنامي بكل طمأنينة، لكن اليوم بت أخاف من الإرهابيين، ولا أتجرأ على التوغل في الجبل رغم كثرة الكلأ فيه".
"أعيش حياة طريفة في الرعي، الأغنام بمثابة أفراد عائلتي، ذات يوم أرضعت خروفاً من آنية فتعلق بي كأني أمه ولا يفارقني حتى في النوم"
وتمثل الحيوانات البرية أيضاً مصدر خطر وخوف لدى الراعيات، مثل الخنازير والذئاب التي تعيش في الجبال، تروي سمية (22 عاماً) كيف هاجمها خنزير بري، عندما كانت ترعى الخراف مع أختها الصغرى في جبال بني مطير، وتصف الرعب الذي تملكها حينها، وكيف أصبحت لديها فوبيا من الرعي بعيداً عن المنزل.
على عكس سمية، تنكر جودة خوفها من الإرهاب أو الحيوانات البرية، وتعتبر أن منطقتها آمنة، وأن الصعوبة الوحيدة بالنسبة لها عندما لا تجد الخراف أعشاباً تقتاتها في موسم الجفاف، فتضطر لشراء العلف الباهظ الثمن، خاصة إذا لم يزرعوا شعيراً وقمحاً في أرضهم بسبب قلة الأمطار.
"نعيش في كوكب آخر"
تعبر مريم (47 عاماً) التي تنتمي لمنطقة تالة التابعة لمحافظة القصرين، عن مشاعرها بالسعادة في رعي الماشية، ولا ترى في ذلك حرجاً، لأنها ترعى رزقها "الذي منحها الحياة، هي وأطفالها وزوجها الذي يشتغل عامل بناء".
جودة، راعية غنم تونسية، من منطقة غدير الربايع من محافظة سيدي بوزيد
"صحيح أنها مهنة الأنبياء لكنها شاقة جداً".
أما زينب من محافظة باجة ( 25 عاماً)، فلا تحب مهنة الرعي، إذ اختارتها مكروهة عليها، تقول لرصيف22: "انقطعت عن الدراسة في عمر مبكر، ووجدت نفسي أرعى أغنام أبي يومياً، صحيح أنها مهنة الأنبياء لكنها شاقة جداً، وتشكل خطراً على حياتنا".
وتضيف: "عندما يمر بجانبي شخص ما أشعر بالخجل الشديد، في تلك اللحظة أفقد إحساسي بالثقة والأنوثة، فأنا لم أتقبل يوماً أن أكون راعية أغنام، لكن الظروف أجبرتني على ذلك، يجب أن أساعد أهلي".
هاجم سمية خنزير بري، عندما كانت ترعى الخراف مع أختها الصغرى، وأصابها فوبيا من الرعي بعيداً عن المنزل، أما منيرة فتخاف من الإرهابيين المنتشرين في الصحراء أكثر
وتتابع: "أشعر أنني مختلفة عن بنات جيلي اللواتي واصلن تعليمهن، ووصلن إلى أبواب الجامعة لكنني أمضيت ربيع عمري بين أبواب زريبة الأغنام، وأقضي نهاري في الحقول الشاسعة، أحترق بشمس الصيف، وأتعرض لبرد الشتاء، إنها مهنة شاقة، سرقت مني طفولتي وأحلامي وإحساسي بالأنوثة والجمال"، على حد تعبيرها.
وتختلف معها أسماء القماطي، الراعية التونسية التي سطع نجمها في وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام لتفاخرها بمهنتها في الفلاحة وتربية الأبقار، وتشدد في مقابلاتها مع وسائل إعلام محلية على أن هذه المهام لا تقلل من قدرها أو جمالها كامرأة، تقول لرصيف22: "أنا فخورة جداً بمهنتي والفاشلون فقط هم من يتنمرون علينا، لأنهم لم يستطيعوا الوصول إلى ما وصلت إليه".
تعد السهول والمرتفعات والجبال مسرح الأمان والخوف، الحب والكره، التعب والراحة، فهي أماكن تختلط فيها مشاعر الراعيات، وهي حياة أخرى بالنسبة لهنّ، مختلفة تماماً عن حياة البيت والعمران والبشر، فهناك تتعانق أحلامهن مع الطبيعة.
أسماء القماطي، راعية أبقار وريفية تونسية ناشطة على السوشال ميديا
أسماء القماطي، راعية أبقار وريفية تونسية ناشطة على السوشال ميديا
ولعل أهم مزايا الرعي في المناطق الريفية الشاسعة، التي يختبرها الرعاة هذه الأيام، مع تزايد مخاطر انتشار جائحة كورونا، أنها لم تزعزع الاستقرار النفسي للراعيات، اللواتي لا يخالطن الكثير من البشر، ويقضين معظم أيامهن مع الحيوانات، والطبيعة، وهن يتنفسن هواءً نظيفاً وصحياً. تقول مريم: "نحن في عزلة جميلة لم نعرف قيمتها إلا عندما اجتاح العالم الفيروس اللعين العالم، تقريباً لم نحس به إلا عند مشاهدة نشرات الأخبار، وكأننا في كوكب آخر".
رغم التعب، والمخاطر المتنوعة، وبرد الشتاء، وحر الصيف باتت حياة الرعاة البسيطة حلم الكثيرين في هذا العالم في ظل الخناق الذي فرضه فيروس كورونا على الجميع، وحتّم عليهم حياة تشبه السجن، مادياً ومعنوياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون