قد يشتعل الحب بين الثنائي بشكل سريع وخاطف، دون الحصول على استئذان حتى من أصحاب العلاقة نفسها، إلا أن خوض غمار الحياة والعيش تحت سقف واحد هو أمر مرهون بموافقة كلي الطرفين، والتعهّد أمام بعضهما البعض بالبقاء معاً في السرّاء والضرّاء.
لكن العلاقات العاطفية لا تسير وفق خط ثابت، بل تمرّ بمطبّات عديدة وتتأثر بالعديد من العوامل النفسية والاجتماعية والمعيشية، كما أن الدماغ البشري يميل بطبيعته للتركيز على النقاط السلبية في العلاقة أكثر من الجوانب المضيئة.
فكيف يمكن لسلبية الشريك/ة أن تدمر الحب، وتؤدي لفشل العلاقة العاطفية؟
العدوى العاطفية
السلبية أشبه بمرض شديد العدوى يصعب التخلص منه بسهولة.
فقد وجد الباحثون أنه عندما يُطلب من الشركاء، بشكل منفصل، التفكير في جوانب علاقتهم، فإنهم يقضون وقتاً أطول بكثير في التفكير في الأمور السيئة أكثر من الجيدة.
أما السبب فيعود إلى كون أفكارنا ومشاعرنا تخضع لما يُعرف بـ "التأثير السلبي"، وهو ميلنا للاستجابة بقوة للأحداث والمشاعر السلبية أكثر من الإيجابية، فعندما نسمع مثلاً مزيجاً من الإطراء والنقد، فإن الأمور السلبية التي قيلت عنّا تستحوذ على عقلنا بدلاً من الاستمتاع بالثناء والإطراء.
تبقى الأشياء السيئة راسخة في أذهاننا بسهولة أكبر من الأشياء الجيدة، وعليه، فإن هذه "البرمجة" للعقل البشري يمكن أن تحرف بشكل كبير نظرتنا إلى الشريك/ة، وربما تعمينا عن كل الجوانب الجيدة في العلاقة
والمفارقة أن هذا الميل المعروف أيضاً باسم التحيّز السلبي، تطور تدريجياً في الدماغ البشري، وكان مفيداً لكونه أبقى أسلافنا في حالة تأهب للتهديدات القاتلة، لكنه غالباً ما يشوّه منظورنا وسلوكنا وعلاقاتنا، بخاصة وأن السلبية التي تطغى على عقل الشريك/ة قد تنتقل تلقائياً نحو الطرف الآخر، بمعنى آخر، عندما يكون أحد الطرفين غارقاً في حزنه وكآبته، فإن مشاعر البؤس ستطرق بدورها باب الطرف الثاني، حتى ولو كان هذا الأخير يتمتع عادة بالإيجابية وروح الفكاهة.
من هنا، ينظر الباحثون إلى ظاهرة "التقاط" مشاعر شخص آخر على أنها "عدوى عاطفية"، معتبرين أننا كبشر نحاكي، دون وعي، لغة جسد الشخص الآخر أو تعابير وجهه، ومن خلال مجموعة متنوعة من العمليات الفيزيولوجية والعصبية، نشعر فعلاً بالعواطف التي قلّدناها، ثم نتصرف بناءً عليها.
واللافت أنه كلما كانت العلاقة وثيقة مع الآخر، كلما كنّا أكثر عرضة بشكل خاص لالتقاط مشاعره، لهذا السبب، قد يكون من الصعب للغاية أن نظلّ إيجابيين، عندما يكون الشخص الذي نحبّه متقلب المزاج أو في حالة توتر وغضب.
ولكن ما هي خطورة "التأثير السلبي" على سير العلاقة العاطفية؟
أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل السلبية قوية للغاية، هي الميل لتذكر الأمور السلبية، والاستجابة بشكل أكبر للتفاعلات السلبية من التفاعلات الإيجابية، فكما أشرنا في السابق، من الممكن أن تبقى الأشياء السيئة راسخة في أذهاننا بسهولة أكبر من الأشياء الجيدة، وعليه، فإن هذه "البرمجة" للعقل البشري يمكن أن تحرف بشكل كبير نظرتنا إلى الشريك/ة، وربما تعمينا عن كل الجوانب الجيدة في العلاقة.
في الحقيقة، يعمل "التأثير السلبي" على تضخيم أخطاء الشريك/ة، سواء كانت موجودة بالفعل أو من نسج الخيال، بدءاً من اتهامه/ا بنكران الجميل وعدم الامتنان، وذلك بسبب الانحياز للثقة الزائدة بالنفس، بحيث يتساءل المرء: كيف يمكن أن أكون مع شريك أناني لهذا الحدّ، ويتجاهل كل ما فعلته من أجله؟ وهكذا يبدأ الشخص المعني بالتفكير في السبب الذي يجعل الآخر لا يقدّره بشكل كاف.
في هذا الصدد، انكب العديد من علماء النفس على تتبع سعادة الأزواج، واكتشفوا، بناء على تقييمات الأزواج لمدى الرضا الشخصي، أن العلاقات الزوجية لا تتحسن في العادة مع مرور الوقت، وبالتالي لا يتم تعريف الزيجات الناجحة بالتحسن، بل من خلال تجنّب التدهور.
السلبية أشبه بمرض شديد العدوى يصعب التخلص منه بسهولة
هذا لا يعني بأن الزواج "مقبرة الحب"، وأن جميع العلاقات الزوجية يكون مصيرها البؤس، إلا أنه، وبحسب العلماء، فمن المرجح أن يتلاشى الافتتان مع الوقت، كما أن النشوة التي كانت تربط الزوجين لا يمكنها أن تحافظ على شعلتها على مدى عقود، لكن معظم الأزواج ينجحون في إيجاد مصادر أخرى للشعور بالرضا، أما بالنسبة للبعض الآخر، فإن الانخفاض في الرضا يكون حاداً لدرجة أنه يحكم على الزواج بالفشل.
واللافت أنه، ومن خلال مراقبة تفاعلات الأزواج وتتبعها بمرور الوقت، طوّر الباحثون نظرية مفاجئة لانهيار العلاقات.
فقد حدد علماء النفس في جامعة كنتاكي استراتيجيتين عامتين، بنّاءة أو هدامة، يمكن أن تكون كل منهما إما سلبية أو نشطة. بدت الاستراتيجيات البنّاءة معقولة ومثيرة للإعجاب، لكنها لم تكن ذات أهمية كبيرة، فما كان مهماً في الواقع هو الأشياء السلبية، كما استنتج علماء النفس: "ليست الأشياء الجيدة والبنّاءة التي يفعلها الشريكان أو لا يفعلانها لبعضهما البعض، هي التي تحدد ما إذا كانت العلاقة ناجحة، بقدر ما هي الأشياء المدمرة التي يفعلانها أو لا يفعلانها كرد فعل على المشاكل".
بمعنى آخر، عندما يتعامل المرء بهدوء مع شريك حياته السلبي بهدف الحفاظ على العلاقة، غالباً لا يتم حتى ملاحظة إخلاصه، ولكن عندما ينسحب بصمت من العلاقة أو يصدر تهديدات غاضبة، يمكن حينها أن تبدأ دوامة كارثية من الانتقام.
تعليقاً على هذه النقطة، قالت كاريل روزبولت، التي قادت الدراسة عن الأزواج: "إن سبب صعوبة العلاقات طويلة الأمد هو أن شخصاً ما، عاجلاً أم آجلاً، قد يكون سلبياً لفترة طويلة، بحيث يبدأ الآخر في الاستجابة بشكل سلبي أيضاً"، وأضافت: "عندما يحدث ذلك، يكون من الصعب إنقاذ العلاقة".
ولكن قد يسأل البعض: لماذا كل هذه القسوة في التعامل مع شريكنا رغم الحب الكبير الذي يجمعنا به؟
بحسب موقع سيكولوجي توداي، فأن المسألة قد تكون مرتبطة بعدة عوامل، من بينها: التمسّك بالمشاعر الماضية، عدم التعبير عن احتياجاتنا بشكل صحيح أو الاهتمام بصحتنا النفسية والجسدية، وضع توقعات معيّنة لسلوكيات الشريك/ة والنظر إلى الزواج كأمر مسلّم به.
من المهم عدم التقليل من التأثير المحتمل للسلبية، ليس فقط على الزواج ولكن أيضا على الصحة النفسية.
في حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت الأخصائية في علم النفس، لانا قصقص، أنه عند الحديث عن السلبية في العلاقات، فإن العلاقة العاطفية بحد ذاتها قد لا تكون سلبية، بل يكون الشخص بطبعه سلبي: "يتعاطى الشخص المعني مع كل الأمور في حياته بطريقة سلبية، وبطبيعة الحال يكون سلبياً في تعاطيه مع شريك حياته".
وأشارت قصقص إلى أن السبب في تكوين شخصية سلبية تعود بشكل رئيسي إلى مرحلة الطفولة والتجارب القاسية، لاسيما في حال التعرض للانتقادات والتنمّر، من دون القدرة على التعامل مع مثل هذه المواقف بطريقة صحية وسليمة، بالإضافة إلى تأثر الشخص المعني بأهله وبشخصيتهم وبطريقة تصرفهم في الحياة.
من هنا شددت لانا على أهمية التواصل الصريح والشفاف بين الشريكين، بالإضافة إلى أهمية العلاج المعرفي السلوكي لتغيير طريقة تفكير الشخص السلبي، ومساعدته على رؤية الجوانب المشرقة، بالإضافة إلى وضع أهداف على المدى البعيد، وحثّه على القيام بالأمور التي تجلب له السعادة: "الهدف أن نساعد الأشخاص السلبيين على إعادة اكتشاف الأمور الإيجابية في حياتهم، وإعادة برمجة دماغهم لكي يدخلوا الفرح والتفاؤل إلى حياتهم".
الحل "السحري"
غالباً ما تعمل السلبية مثل السمّ البطيء بين الشريكين، فالتفاعلات الصغيرة غير المحببة التي تتكرر على مدار أيام وشهور وسنوات، قد تلحق ضرراً كبيراً بالإحساس الجسدي والعاطفي بين الطرفين، ما يعيق القدرة على الثقة ببعضهما البعض، هذا ويمكن أن يكون التأثير السام للسلبية كبيراً لدرجة أن يحكم على العلاقة العاطفية بالفشل.
ماذا يمكن للمرء أن يفعل في حال شعر بأنه بات يتأثر سلباً بالشخص الذي يحبه؟
في البداية، يجب الانتباه لكيفية تأثير الحالة المزاجية للشريك/ة عليكم/نّ، إذ إن الوعي الذاتي هو أمر بالغ الأهمية في مثل هذه المواقف، وبالتالي، قد تلاحظون/ن مثلاً أن سلبية الطرف الآخر تجعل معدل ضربات قلبكم/نّ ترتفع، أو تُحدث لكم/نّ ضيقاً في التنفس، كما أنه من المهم فصل مشاعركم/نّ عن مشاعر الطرف الآخر، وذلك من خلال الاعتناء بالنفس، أي منح الأولوية للرعاية الذاتية ودعم الشريك/ة من دون تبني مشاعره السلبية، إذ إنه من الممكن إيجاد حل وسط بين الانغماس في مشاعره وتجاهل ما يمرّ به.
عندما يتعامل المرء بهدوء مع شريك حياته السلبي بهدف الحفاظ على العلاقة، غالباً لا يتم حتى ملاحظة إخلاصه، ولكن عندما ينسحب بصمت من العلاقة أو يصدر تهديدات غاضبة، يمكن حينها أن تبدأ دوامة كارثية من الانتقام
وفي الختام، يمكن اعتماد نظرية "النسبة السحرية" التي تحدّث عنها عالم النفس الشهير والباحث، جون غوتمان، للحفاظ على العلاقات العاطفية: مقابل كل تفاعل سلبي يجب خلق خمسة تفاعلات إيجابية.
صحيح أن هذا الأمر يمكن أن يشكل تحدياً كبيراً في بعض الأحيان، بخاصة وأنه لا توجد علاقة أو زواج مثالي. ومع ذلك، فإن الانفتاح على التواصل والاستمتاع بميزات بعضنا البعض، هي بعض مفاتيح العلاقة العاطفية الصحية والسعيدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...