هنالك فئة من الحكام مهووسة بأن يقترن اسمها بكل ما هو أضخم، أكبر، أعظم، فيما تحرص فئة أخرى على تقديم الإنجازات الحضارية والتكنولوجية والمعمارية كستار تخفي خلفه فسادها وطغيانها ربما من قبيل تبييض السمعة أو شغل الداخل و/ أو الخارج عن السلبيات والانتهاكات.
منذ صعوده إلى السلطة عام 2017، يسعى الأمير محمد بن سلمان. لا سيّما عقب جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، إلى تقديم نفسه كقائد إصلاحي يعمل على دخول بلاده المستقبل من أوسع أبوابه. ماذا حقق من وعوده حتى الآن؟
مع تولي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن السلطة الشهر الماضي، نشطت حملات تروج لمنجزات حكومة بن سلمان لا سيما الاقتصادية، شارك فيها مؤثرون وإعلاميون. عبّر بايدن خلال حملته الانتخابية عن مواقف غير ودودة محتملة تجاه بن سلمان وشدد مراراً على عدم التصالح مع انتهاكات حقوق الإنسان المتهمة به قيادته.
قبل يومين مثلاً، أشاد الإعلامي السعودي وصانع المحتوى عبد الله البندر بسياسة الحكومة تسهيل استضافة الرياض لمقارّ شركات عالمية في معرض تعليقه على خبر نقل 24 شركة عالمية مقارها الرئيسية إلى العاصمة السعودية.
الرياض عاصمة أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط
— عبدالله البندر (@a_albander) February 3, 2021
أكثر من 20 شركة عالمية قررت إنشاء مكاتب إقليمية رئيسة لها في مدينة الرياض ??#الرياض_مقر_الشركات_العالمية pic.twitter.com/9iNeRHYNzz
زعم البندر أن استضافة الرياض لهذه المقار من شأنها أن توفر للسعوديين "35 ألف وظيفة" وأن تعزز السوق السعودي في مجالات هذه الشركات، متوقعاً أن تزيد الشركات العالمية التي تنقل مقارها إلى بلاده بينما تؤتي جهود السلطات ثمارها في هذا الشأن.
"نيوم" و"ذا لاين"
قبل بضعة أسابيع، أعلن الأمير محمد بن سلمان بنفسه عن مدينة "ذا لاين" (The Line)، التي عرّف عنها روج الإعلام الرسمي السعودي كـ"درة مدن المستقبل" التي تعد جزءاً من مشروع ولي العهد الأثير: "نيوم" الذي أُطلِق للمرة الأولى عام 2017.
يحتفظ بن سلمان لنفسه بمنصب رئيس مجلس إدارة شركة "نيوم" التي تعتبر إحدى ركائز "رؤية المملكة 2030" التي أطلقها ولي العهد الشاب أيضاً.
في استعراضه للمشروع، ركّز الأمير محمد على أن "ذا لاين" ستصبح "أنقى نموذج لمفهوم المدن الحديثة" و"أكثر مدينة صديقة للبيئة والأكثر حفاظاً على الطبيعة في العالم" أي "مدينة مليونية بطول 170 كم (نحو 100 ميل)، تحافظ على 95% من الطبيعة، في أراضي نيوم صفر سيارات، صفر شوارع، وصفر انبعاثات كربونية".
نيوم، ومدينة ذا لاين، والرياض الخضراء، وتحويل العاصمة لواحدة من أغنى مدن العالم، والوعود باستضافة عشرات مقار الشركات العالمية… كشف بن سلمان عن العديد من المبادرات المكلفة والمزعوم إنجازها جميعاً بحلول 2030. من أين له بالمال أو العمالة الماهرة؟
وفق التفاصيل المعلنة، المدينة المفترضة هي خلاصة ثلاث سنوات من التخطيط، ومن المقرر أن يبدأ تطويرها في الربع الأول من العام الجاري، بدعم مالي حكومي ومن صندوق الاستثمارات العامة والمستثمرين المحليين. تبلغ الكلفة الإجمالية المتوقعة لنيوم 500 مليار دولار، ستتكلف البنية التحتية لـ"ذا لاين" من 100 إلى 200 مليار دولار.
تباهت وسائل إعلام سعودية بـ"المدة الزمنية القياسية" لإنجاز "ذا لاين" التي قالت إنها تبتعد كثيراً عن أقرب المنافسين، في إشارة إلى سعي مدينة نيويورك الأمريكية إلى الوصول إلى 10 دقائق مشياً لبلوغ الأماكن المفتوحة عام 2050، والعاصمة الفرنسية باريس لقصر المشي داخل الأحياء بحد أقصى 15 دقيقة بحلول 2030، ورغبة ملبورن الأسترالية في اختصار المشي داخل الأحياء إلى 20 دقيقة عام 2050.
زُعم أيضاً أن المدينة المفترضة "ستشكل أساساً متيناً لبناء اقتصاد المعرفة لاحتضان الكفاءات، والعقول العلمية، والمهارات من مختلف المجالات لخدمة البشرية" بما في ذلك توفير "380 ألف فرصة عمل عام 2030".
بلغ معدل البطالة في المملكة 14.9 بنهاية الربع الثالث من العام الماضي 14.9 (7.9 في صفوف الرجال و30.2 في صفوف النساء)، وفق أرقام هيئة الإحصاء السعودية.
ولنا هنا أن نسأل: كيف لبلد لا يستطيع العثور على وظائف للعاطلين عن العمل، وعاصمته، الرياض، مليئة بناطحات السحاب الفارغة أن يؤسس لمدينة مستقبلية يزعم أنها ستعالج أزمة البطالة وتوفر الآلاف منها؟
"الرياض من أغنى مدن العالم"
لم تقتصر الوعود على نيوم فحسب. خلال مشاركته في مبادرة مستقبل الاستثمار، الأسبوع الماضي، قال الأمير محمد إن النهضة التي يسعى إليها تشمل جميع مناطق المملكة. وخص العاصمة الرياض بالإشارة إلى اعتزامه جعلها واحدة من أغنى مدن العالم.
قال: "اليوم نحن نعمل على إستراتيجيات لكل المناطق؛ أطلقنا إستراتيجية نيوم ومدينة نيوم ذا لاين، المدينة الرئيسية في نيوم. والآن، قريباً، سوف نطلق إستراتيجية مدينة الرياض. كذلك نعمل على إستراتيجية مدينة مكة المكرمة، وإستراتيجية المنطقة الشرقية، ومنطقة عسير، وكل منطقة حسب الفرص والإمكانات اللي فيها".
واستطرد: "لكن مدينة الرياض فيها مميزات خاصة جداً، فهي اليوم تشكل 50% من الاقتصاد غير النفطي بالمملكة وتكلفة خلق وظيفة فيها أقل 30% من بقية مدن المملكة، وتكلفة تطوير البنى التحتية والتطوير العقاري أقل بـ29% من بقية مدن المملكة، والبنية التحتية في الرياض رائعة جداً".
وبينما وصفها بـ"إحدى ركائز النمو الاقتصادي" في المملكة، قال الأمير محمد إن المأمول أن يرتفع عدد سكان المدينة من 7.5 مليون حالياً إلى ما بين 15 و20 مليوناً عام 2030. والتخطيط سيجعل الرياض من "أميز المدن" أي أكثرها تميزاً في جودة الحياة والسياحة والخدمات.
علاوة على ما سبق، كشف بن سلمان عن برنامج مرتقب بعنوان "الرياض الخضراء" والمتعلق بغرس ملايين الأشجار في مدينة الرياض لخفض درجة الحرارة ومستوى الغبار فيها، فضلاً عن إنشاء محميات ضخمة حول المدينة لتحسين الوضع البيئي بها.
كيف لبلد لا يستطيع العثور على وظائف للعاطلين عن العمل، وعاصمته مليئة بناطحات السحاب الفارغة أن يعلن تأسيس مدينة مستقبلية يزعم أنها ستعالج أزمة البطالة وتوفر الآلاف من الوظائف؟
غوغل وأرامكو
في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أُعلن عن شراكة بين شركة أرامكو السعودية وغوغل كلاود يتم بموجبها "إضافة المملكة لشبكة مناطق منصات غوغل السحابية العالمية" وتقوم بدورها عملاقة التقنية "بإنشاء وتشغيل منطقة خدمات سحابية جديدة في المملكة" مع التركيز على قطاع الأعمال داخل المملكة.
أثارت فكرة نقل الخوادم السحابية إلى السعودية مخاوف حقوقية واسعة تتعلق بموثوقية وضع معلومات ملايين المستخدمين تحت سيطرة النظام الذي تورط اسمه مراراً في عمليات قرصنة إلكترونية وتجسس على منتقدين. لكن غوغل تعهدت أن المعلومات ستكون مؤمنة بشكل رئيسي وأن النظام السعودي لن يتمكن من الوصول إليها. مع ذلك، ليس واضحاً إلى أي مدى قد تصمد الشركة أمام ضغوط السلطات السعودية للحصول على بيانات مواطنين.
هذه الشراكة الإستراتيجية أيضاً روج إليها كإحدى "الدعائم الأساسية في رحلة الوطن نحو الريادة والابتكار"، وبالطبع بـ"دعم وتوجيه" من الأمير محمد.
هنا أمر آخر إشكالي بشأن سباق المملكة نحو الريادة في مجال التقنيات المتقدمة. تُلزم اللوائح والقوانين السعودية المستثمرين الأجانب بنسبة معينة من العمالة المحلية، فكيف تتم مراعاة ذلك في ظل أزمة نقص العمالة في مجال التقنية في البلاد؟
أدت عقود من الوصول السهل إلى الوظائف الحكومية ذات الراتب المجزي والحوافز والمعاش المضمونين في المملكة إلى ندرة الكفاءات السعوديين في عالم التكنولوجيا المتقدمة والعديد من التخصصات "غير السهلة" الأخرى.
مع تبقي أقل من 10 سنوات من المدة الزمنية المعلنة لإنجاز هذه المبادرات المتلاحقة، الممولة جميعها بشكل أساسي من الحكومة، وفي ظل انخفاض أسعار النفط كمصدر رئيسي لاقتصاد البلاد، وإحجام المستثمرين الأجانب بسبب الانتقادات الحقوقية لقيادة الأمير محمد، ليس واضحاً كيف ستتمكن المملكة من التنفيذ: كيف سيصبح نيوم مشروع المستقبل وذا لاين المدينة الأنقى والرياض العاصمة الأغلى...
هل يبدو منطقياً اعتبار كل هذه الإعلانات جزءاً من حملة إعلانية تستهدف الغرب وتروج لسعودية رائدة مستقبلاً بقدر ما تحاول الترويج لحاكم عصري واسع الأفق؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...