الصداقة بداية أي علاقة عاطفية، ربما تنشأ هذه الصداقة في الدراسة أو العمل. والصداقة مع الفتيات يختبرها الشاب المصري بالجامعة، وذلك لأن معظم المدارس بجمهورية مصر تمنع الاختلاط بين الجنسين، حتى الخاصة واللغات، فهي تفصل بينهما في مرحلة الإعدادية والثانوية، ليجد الشاب نفسه متلهفاً في سنوات الدراسة الأولى بالجامعة للتعرف على الزميلات.
كنتُ واحداً من هؤلاء الشباب، وربما أكثر حظاً منهم، فكلية الآداب بجامعة القاهرة تُعرف بكونها "كلية الكعب العالي". حيث عدد الطلاب الذكور لا يتجاوز 10%. وهكذا أصبحت الشلة زاخرة بأسماء نسائية عديدة... ورغم هذا الثراء والتنوع الأنثوي، إلا أن القلب عادة ما يميل لفتاة واحدة فحسب. وكانت صديقتي المفضلة تسكن في نفس المنطقة، فاعتدنا الذهاب والعودة معاً، وتمضية اليوم بأكمله. ومع الوقت أدمنتها، فتبدلت الصداقة وحل محلها علاقة عاطفية... إنه الحب الأول: أول لمسة يد، أول قبلة مبتورة وخاطفة، أول حضن مختلس من أعين الناس، مشاعر جياشة وخلابة لها أثرها في القلب والروح. حتى الأغاني العاطفية كأنها كُتبت لنا خصيصاً، العالم كله صار مبتهجاً وملوناً وأكثر جمالاً.
كل هذا قبل أن تنتشر شرائط "عمرو خالد" الذي اكتسح عقول وقلوب جيلي، حينها حدث تحول فكري وعقائدي كبير بداخل حبيبتي، لتصبح لمسة اليد حرام والحب نفسه ممنوع... ما العمل إذن؟
الزواج العرفي: تحايل على المجتمع والدين
اقترحت حبيبتي أن نتزوج عرفياً، فليس هناك نص صريح على أن الزواج العرفي محرم، بعكس الصداقة!
نقطع ورقة من أجندة المحضرات، ونكتب فيها عقدنا الأول، ويتطوع اثنين من الأصدقاء المقربين جداً للشهادة. وهكذا أصبحت زوجتي ولم تعد صديقتي المحبوبة أبداً.
لقد بدأت الغيرة تنهش في العلاقة، والتوتر والقلق والتطلع إلى مستقبل مجهول ومبهم، وبعد ثلاث سنوات أخرى من الدراسة، جاء التخرج وجاء معه الاصطدام بصخرة الواقع الأليم، فهذا الزواج لا يمكن أن يستمر، ويجب أن يكون شرعياً، خاصة من توافد العرسان لطلب يدها. وكأننا نعيش في فيلم "الزواج على الطريقة الحديثة"، ومواجهة الأهل بالحقيقة هلاك، على الأقل لها ولعلاقتنا.
كل هذا قبل أن تنتشر شرائط "عمرو خالد" الذي اكتسح عقول وقلوب جيلي، حينها حدث تحول فكري وعقائدي كبير بداخل حبيبتي، لتصبح لمسة اليد حرام والحب نفسه ممنوع... ما العمل إذن؟
وأنتقل أنا إلى شيوخ أكثر تزمتاً، مثل محمد حسين يعقوب ومحمد حسان ووجدي غنيم، ليصبح الزواج العرفي بلا قيمة، وتتبدل الأدوار فأرفض أنا لمسة اليد والقبلة الخاطفة والحضن الدافئ، وتؤمن هي بأنها تعيش في علاقة بلا أمل، فالظروف الاقتصادية تسير من سيئ إلى أسوأ.
تختفي، تغير رقم هاتفها، وترتبط بالعريس الجاهز صاحب الشقة والقادر على التأثيث ودفع المهر والشبكة.
وأعاني كما عانى صلاح – بطل فيلم الوسادة الخالية- وأقرر أنني سأفعل المستحيل كي أحصل على المال اللازم، والذي سيجعل مني عريساً تفضله الفتيات، لأنعم بالاستقرار والزوجة المطيعة والأبناء وعش الزوجية السعيد.
الزواج الشرعي: تزييف أسري
بعد عام واحد من تلك التجربة، ألتحق بالعمل بأحد مخازن الأدوية فتزدهر الحالة الاقتصادية. وعليه، أتقدم لفتاة أخرى، غير مدركٍ بأن الناس تتجمل بالكذب: أي عريس جديد سيندهش من كرم وذوق أسرته الجديدة، أي عريس قديم سيندهش بعد عام أو أقل من الزواج من التحول الرهيب.
كانت أمي تقول: "الجواز زي البطيخة يا طلعت قرعة يا طلعت حمرا"، فماذا لو بطيختك طلعت قرعة؟ أما سقراط – الذي عانى من زانيبثي- فله مقولة أكثر عمقاً: "تزوجوا... فالزوجة المحبة تجلب السعادة والزوجة المزعجة ستجعل منك فيلسوفاً". يبدو أن الفلسفة لم تقتصر على الدراسة فحسب، بل عشتها أيضاً من خلال تجربة مزعجة كدت أنال فيها ما ناله سقراط من قبل.
تقول الأسطورة المصرية القديمة، إن حرباً جرت قديماً، فانضم لها علية القوم من الرجال، وبعد غياب دام سنوات طويلة، اضطرت نساؤهم بأن ينزلن من مكانتهن العالية وأن يتزوجن من الرعية. وبسبب تلك الواقعة، توارثت النساء بمصر التعالي على الأزواج: "أنا كنت أستاهل أمير"، "مش عارفة إزاي اتجننت ووافقت على واحد زيك؟"، "اللي زي المفروض تعيش في قصر". جُمل يعرفها جيداً كل زوج مصري مغلوب على أمره، وأتحمل أنا هذا التعالي المنفر، وأتحمل أيضاً طلباتها التي لا تنتهي، وتذمرها الدائم من الحياة، وعدم قدرتها على حفظ أسرارنا التي أصبحت مشاعاً للجميع... كل هذا من أجل الأبناء.
غير أنه للصبر حدود – على رأي الست أم كلثوم- هناك أشياء لا يمكن التغاضي عنها أبداً، أشياء تمس الكرامة وتقتل التضحية. فأقرر أن أنفصل عنها، وتقرر هي أن تنتقم بطريقتها الخاصة، فتشحن الأبناء ضدي، تشوه صورتي أمامهم وتمنع عني رؤيتهم، ثم تستعين بالمحاكم، لأصبح بين ليلة وأخرى، مطارداً من الشرطة، محملاً بالديون والهموم ووجع الفراق على الأطفال. كنتُ أبحث عن الاستقرار والزوجة المطيعة والابن البار، لكني حصدت في النهاية الضياع والخطر والجحود.
أنا مدين لصديقتي بدعمها لي، ومدين لأخرى بقدرتها على تحمل خيباتي، ومدين لثالثة باهتمامها الدائم رغم مشاكلها التي لا حصر لها
الصداقة: دعم دائم ومحبة صادقة
مصطلح الـ girl friend أو الـ boy friend هو مصطلح غربي، غير أنه انتقل مع الوقت والتطور إلى العالم العربي ليقابله "صاحبي" أو "صاحبتي".
بالعودة للصداقة، والصداقة مشتقة من الصدق، فلا حاجة للكذب أو التزييف، بالعكس، فأنت تعرف عن صديقتك ما لا يعرفه الأهل، وهي بدورها خزانة أسرارك دون حسابات أو عواقب. تشاركك مشاكلك وطموحاتك بدافع من المحبة الصادقة، فالصديقات أجدع من الأصدقاء. وهذا عن تجربة، ففي ظل أزمتي الطاحنة، لم أجد مسانداً أو معيناً غير الصديقات.
حتى الجنس له مذاق خاص، وهو ليس عادة يومية روتينية أبداً، بل مغامرة شيقة ولذة مختلسة، تأتي بعد شوق واشتياق وحاجة مخلصة للجسد والروح.
الصداقة لا تأتي أبداً إلا لو كان هناك عوامل مشتركة بين الطرفين. أو كما يقول سيد حجاب: "ومنين بيجي الهوى؟ من ائتلاف الهوى". أجل لا بد من الائتلاف الذي يدعم الصداقة ويربطها بقوة التعري أمام الآخر بلا زيف أو منفعة.
أنا مدين لصديقتي بدعمها لي، ومدين لأخرى بقدرتها على تحمل خيباتي، ومدين لثالثة باهتمامها الدائم رغم مشاكلها التي لا حصر لها. ولولا أنه لا يوجد شُكر بين الأصدقاء لقلت لهن شكراً لكن، لقد عوضني الله بكن عن حسرتي الأولى وخيبة أملي الثانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...