كبشر، تطورت أجسامنا وأدمغتنا بطرق تساعدنا على الارتباط بالآخرين، فنحن، وعلى مدار حياتنا، نكوّن صداقات ونخلق علاقات حميمة من خلال أنشطة عديدة، مثل اللمس الذي يطلق هرمون الأوكسيتوسين ويزيد الثقة، الثرثرة التي تساعدنا على فهم مكانتنا في الشبكة الاجتماعية ومنع الشخصيات "البغيضة" من الدخول إليها، بالإضافة إلى التحرك بالتزامن مع الآخرين، ما يطلق الإندورفين ويزيد من الترابط، هذا ما كشفته كيت ليفر في كتابها The Friendship Cure الذي يغوص في الفوائد الجسدية والعاطفية للصداقة بجميع أشكالها.
ومن خلال قيام البعض بوضع الصداقة في سلّم الأولويات على حساب العلاقات العاطفية أحياناً، نلاحظ أن الأصدقاء، في مثل هذه الحالة، يحتلّون المساحات المخصصة عادة للشركاء الرومانسيين: يعيشون في منازل اشتروها معاً، يربون أطفال بعضهم البعض، يستخدمون بطاقات ائتمان مشتركة ويحملون توكيلات طبية وقانونية لبعضهم البعض، وفي الغالب تتسم هذه الصداقات بالعديد من مظاهر العلاقات الرومانسية باستثناء الجنس.
صداقات عميقة ومبهمة
غالباً ما تكون العلاقات الأسرية والعاطفية مصحوبة بجرعة من الذنب والالتزام، في حين أن الأصدقاء الحقيقيين قد يكونون "الدواء" لأعباء الحياة اليومية، فكيف إذا كانت هذه الصداقات حميمة وعميقة لحدّ الذوبان في الآخر والعجز عن العيش من دونه؟
على الرغم من التفاني الشديد، لا توجد فئة واضحة لهذا النوع من الصداقات، وتبدأ المقارنات وفق طبيعة الأشخاص، فالبعض يشبّهون أنفسهم بالأشقاء والبعض الآخر بالشركاء الرومانسيين.
غالباً ما تكون العلاقات الأسرية والعاطفية مصحوبة بجرعة من الذنب والالتزام، في حين أن الأصدقاء الحقيقيين قد يكونون "الدواء" لأعباء الحياة اليومية، فكيف إذا كانت هذه الصداقات حميمة وعميقة لحدّ الذوبان في الآخر والعجز عن العيش من دونه؟
والحقيقة أن الصداقات الحميمة لا تأتي مع نصوص اجتماعية توضح الشكل الذي ينبغي أن تبدو عليه هذه العلاقة، أو كيف ينبغي أن تتقدم، بل تكون هذه الصداقات مصممة خصيصاً من قبل الأطراف المعنيين.
ولكن يصرح الكثير من الأفراد الذين يجعلون الصداقة محور حياتهم، أن علاقتهم بأصدقائهم تبدو غير مفهومة للآخرين، مع العلم بأن هذه الصداقات يمكن أن تكون نماذج لكيفية قيامنا كمجتمع بتوسيع مفاهيمنا عن العلاقة الحميمة والرعاية.
الصداقات الرومانسية
في ظل غياب وجود معجم افتراضي، يقوم الأشخاص الذين لديهم صداقات قوية باستخدام مصطلحات تعبّر عن مدى عمق صداقتهم مع الآخر، مثل القول: أنت أفضل صديق/ة للروح، شريك/ة الحياة الأفلاطوني/ة، وغيرها من التسميات التي تخدم بالنسبة للبعض غرضاً مشابهاً لقلائد الصداقة المطابقة، فهي رموز مخصصة بشكل أساسي لشخصين في الصداقة، في حين يبحث آخرون عن "لغة" معيّنة يمكن أن تجعل علاقتهم واضحة للغرباء.
في مقالها الذي ورد على موقع The Atlantic، تحدثت الكاتبة رهاينا كوهين عن الأشخاص الذين يعطون الأولوية للصداقة على حساب الرومانسية، مشيرة إلى أن الفترة الممتدة من القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين شكلت ذروة الصداقات العاطفية من نفس الجنس، والتي تسمى "الصداقات الرومانسية".
فقد أوضحت الكاتبة أن النساء الأميركيات والأوروبيات وجهن في تلك الفترة رسائل عديدة تحت تسميات "حبي" أو "ملكتي"، كما وزعت النساء ألبومات صداقة، ففي ألبوم الصداقة للناشطة الأفريقية- الأميركية، إيمي ماتيلدا كاسي، والتي ركزت من خلاله على مواضيع عديدة، بدءاً من إلغاء الرق والعبودية وصولاً إلى الحب والصداقة، برز مقتطف من قصيدة تختتم بعبارة "الصداقة العادلة تربط الإطار السماوي بأكمله/ الحب في الجنة والصداقة هما نفس الشيء".
وفي الإطار نفسه، أشارت كوهين إلى أن المؤلفين ابتكروا خطوطاً أدبية حول مغامرات وتجارب الأصدقاء الرومانسيين، ففي رواية ديانا فيكتريكس الصادرة في العام 1897، رفضت شخصية أنيد عرض زواج لأن صديقتها تشغل مساحة في حياتها يطمح إليها الخطيب، وهكذا أخبرت أنيد الرجل أنه إذا تم الزواج "عليك أن تأتي أولاً، ولا يمكنك ذلك، لأنها هي الأولى".
وعلى أرض الواقع، برزت قصة جين أدامز وماري روزيت سميث، وهما امرأتان مشهورتان فضلتا الصداقة على الزواج، فبعد لقائهما في العام 1890 في المنزل الرائد الذي شاركت آدامز في تأسيسه، أمضت الصديقتان 40 عاماً مع بعضهما البعض، وأعربتا عن اللحظات التي أُرغمتا فيها على الانفصال قليلاً، ففي إحدى المرات كتبت آدامز إلى سميث: "يجب أن تعرفي عزيزتي، كم أتوق إليك طوال الوقت، وخاصة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية. هناك سبب في عادة بقاء الأزواج معاً".
وفي غرفة نوم آدامز، المعروضة حالياً في متحف جين آدامز هال هاوس في شيكاغو، كان من اللافت وجود صورة ضخمة لسميث معلقة فوق الوشاح، كانت آدامز تصطحبها معها عندما تسافر لوحدها. أما عند السفر معاً، فكانت آدامز تحرص على طلب سرير مزدوج، والمفارقة، بحسب الكاتبة رهاينا كوهين، أنه لم تنفجر أي فضيحة بشأنهما في الصحف. لم يتم الضغط على آدامز وسميث، بشكل مباشر أو ضمني، بشأن حياتهما الجنسية، ولم يشعرا أنه يتعين عليهما ابتكار تسمية لتوضيح علاقتهما للآخرين.
وشددت كوهين أن مثل هذه الصداقات لم تكن حكراً على النساء، فقد وصف دانيال ويبستر، وهو واحد من أكثر الشخصيات السياسية الأميركية تأثيراً في أوائل القرن التاسع عشر والذي أصبح وزيراً للخارجية، أقرب أصدقائه بالقول: "إنه صديق قلبي، شريك أفراحي وأحزاني ومشاعري، والمشارك الوحيد في أكثر أفكاري السرية"، وعندما غادر الرجلان كلية دارتموث لممارسة القانون في مدن مختلفة، واجه ويبستر صعوبة في التكيف مع العلاقة عن بعد، وكتب أنه بات "كالحمامة التي فقدت رفيقها".
أما فريدريك دوغلاس، وهو المفكر البارز في مجال إلغاء عقوبة الإعدام، فقد شرح بالتفصيل حبه العميق لأصدقائه في سيرته الذاتية، إذ كتب أنه عندما كان يفكر في الهروب من العبودية، "كانت فكرة ترك أصدقائي بلا شك أكثر الأفكار إيلاماً التي كان عليّ مواجهتها. كان حبهم هو نقطة ضعفي".
صداقات مع منافع جنسية؟
لعلّ أحد الأسئلة التي تثيرها هذه الصداقات العميقة للناس اليوم: هل مارس هؤلاء الأصدقاء الجنس؟ في الواقع، إن الكتابات من هذا الوقت، حتى تلك المتعلقة بالعلاقات الرومانسية، تفتقر عادة إلى أوصاف اللقاءات الجنسية.
من المرجح أن بعض الناس استخدموا الصداقة الرومانسية كغطاء لعلاقة جنسية، إلا أنه في معظم الحالات، لا يمكن للمؤرخين تقديم ادعاءات محددة حول ما حدث في غرف نوم هؤلاء الأصدقاء، كما أننا لن نعرف أبداً الطبيعة الدقيقة لكل علاقة.
واللافت، بحسب رهاينا كوهين، أن العلاقة الحميمة الجسدية بين النساء أيضاً لم تكن تُقرأ على أنها رواية إيروتيكية. حتى الرجال كتبوا باستحسان عن العلاقات العاطفية بين النساء، ويرجع ذلك جزئياً إلى اعتقادهم أن هذه الصداقات كانت بمثابة "أرضية تدريب" للزوجة.
ففي روايته "كافانا" الصادرة في العام 1849، وصف هنري وادزورث لونجفيلو الصداقة بين شخصيتين من الإناث على أنها "بروفا في الصبا للدراما العظيمة في حياة المرأة"، أما المقصود بالدراما العظيمة فهو الزواج من رجل.
وأوضحت رهاينا أن الرجال لم يشعروا بالتهديد من هذه الصداقات، لأن قلّة من النساء كنّ في وضع مالي يسمح لهنّ بتجنب الدعم الاقتصادي للزوج لصالح الرفيقة، أما بحلول أواخر القرن التاسع عشر، فقد بدأت الاستثناءات بالظهور، بحيث فتحت الكليات والمهن أبوابها أمام النساء من الطبقة الوسطى، الأمر الذي مكّن هؤلاء الخريجات من إعالة أنفسهنّ دون الحاجة إلى زوج.
قالت المؤرخة ليليان فادرمان إنه في هذه المرحلة بات بإمكان المرأة المتعلمة أن تعيش مع صديقتها تحت ما عرف باسم "زواج بوسطن"، مشيرة إلى أن هذه العلاقات الملتزمة سمحت للنساء بممارسة المهن والتهرب من الزواج بين الجنسين.
هل ينطبق هذا النوع من الصداقات على العالم العربي؟
لا شك أن الصداقة لا تتجزأ ولا تختلف وفق البلدان، ويحدث أن يفضل البعض أحياناً الصداقات على الحياة العاطفية، بحيث غالباً ما نسمع صبية تتعهد لصديقتها بأنها لن تسمح لأي شاب بأن يأخذ مكانها، في حين نجد أن عدداً كبيراً من الشبان يطمئنون بعضهم البعض، بالقول إن الصداقة القوية التي تجمعهم ستستمر حتى لو "دخلت صبية" على الخط.
في بعض الأحيان قد يكون من المغري العيش في "شهر العسل" على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وجعل الشريك/ة في طبيعة الأولويات، ولكن وعلى الرغم من "النعيم" الذي تجلبه العلاقة العاطفية الجديدة، فإن التنقل في المراحل المبكرة من الحب يمكن أن يكون أمراً مربكاً للغاية، بخاصة وأن الحب مثل المخدرات، يتسبب في تدفق الدوبامين، ما يخلق إحساساً بالنشوة، ولكن الخطر يبدأ عندما يصبح المرء مدمناً على الحب، ويبدأ بإهمال العلاقات الأخرى في حياته، من خلال تخصيص كل وقته للشريك/ة على حساب الأصدقاء الذين وقفوا إلى جانبه حين كان يشعر بالوحدة والحزن. كيف نمنع هذا من الحدوث؟ يبدو أن الأمر كله يتعلق بالتوازن.
"الحب ممكن يجي ويروح بس الصداقة القوية بتبقى لمدى العمر"
"لديّ أصدقاء أعرفهم منذ أكثر من 10 سنوات، يعرفونني أكثر من أي شخص آخر وقدموا لي كل ما أحتاجه: الدعم اللامحدود، تمضية لحظات رائعة، يتخللها نوبات من الضحك، الشعور بالدفء والحب"، هذا ما قاله إيلي (24 عاماً) لموقع رصيف 22، عند سؤاله عن أهمية الصداقات في حياته.
بالنسبة إلى هذا الشاب اللبناني الذي يعمل في برمجة الكمبيوتر، من المهم أن يحافظ المرء على صداقاته مهما اختلفت الظروف: "كتير بيزعجوني الأشخاص يلي أول ما يرتبطوا بيتغيروا وبيبرموا ضهرن لشخص كان واقف حدن كل الوقت. الزواج ما لازم يلغي الصداقات، بالعكس من المهم أنو الواحد منّا يشكي همومه لصديق مقرب بيوثق فيه ويوقف حدّو إذا كان عم بمرّ بمشاكل عائلية"، وأضاف: "الأصحاب الحقيقيين بيعطوا boost (دفع) للحياة".
وفي حين أكد أنه ليس ضد الارتباط الرسمي بالمطلق، إلا أنه شدد على ضرورة أن تكون شريكته متفهمة لأهمية الصداقات في حياته: "لهلق مش مفكر أبداً بالزواج لأنو ببساطة حاسس مش ناقصني شي، بس الأكيد أنو إذا ارتبطت ما رح يتغيّر شي. يمكن بالأول ما تفهم سرّ علاقتي بأصحابي المقربين، بس إذا حبتني مزبوط رح تعرف قديه أنا معلّق فيهن، هنّي اخواتي، ما بيمرق نهار واحد بلا ما نشوف بعضنا فيه ويلّي بيجمعنا سوا أكتر بكتير من كل شي، بس أكيد لازم يكون في Balance (توازن) بين الطرفين"، وختم بالقول: "الحب ممكن يجي ويروح بس الصداقة القوية بتبقى لمدى العمر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...