يجلس أحمد حسن في غرفة معتمة بمنزله الصغير في مدينة جرمانا بريف دمشق. بجانبه آلة التكبير Enlarger التي تسمح بطباعة الصور بتقنية الطباعة على ورق الفضة silver، وحوله أكوام من أشرطة الصور السالبة "النيغاتيف" القديمة. يقلبها ويتفحص كل واحدة منها على حدة، محاولاً معرفة محتواها قبل أن يبدأ عملية تظهيرها. ثم، يكرر الخطوات التي تعلمها وحفظها عن ظهر قلب منذ الصغر، لتصبح بين يديه بعد حوالى نصف ساعة صورة تشكل على الفور جزءاً من حياته. "كأني نفخت فيها من روحي"، يقول لرصيف22. كانت أولى تجاربه مع التصوير في استديو وحيد بقرية صغيرة في ريف دمشق، قبل أن ينتقل للعيش في جرمانا. وعلى رغم دراسة الرجل الأربعيني الطب وعمله فيه منذ أعوام طويلة، إلا أن شغفه بالتصوير لم يتوقف، بل تطور ليأخذ شكل هواية تجميع الصور السالبة وطباعتها في منزله منذ حوالى عشرة أعوام. أصبح اليوم حافظاً لصور دمشق القديمة، وكم تحتاج بلده في هذا الوقت من يحفظ صورها من نيران الحرب.
البداية...
وقع حسن مصادفة، قبل الحرب، على أرشيف لأحد مصوري دمشق كان ينوي بيعه، وهذه الظاهرة انتشرت في المدينة خلال العقد الأخير مع تراجع دور طرق التصوير التقليدية وأهميتها لمصلحة التقنيات الرقمية. "تخلى عشرات المصورين عن أرشيفاتهم الغنية لباعة يشترونها بالجملة ويعمدون إلى إتلافها واستخراج الفضة منها بهدف بيعها"، يقول حسن مضيفاً: "تعجبت من السهولة التي نستطيع فيها القضاء على ذاكرة مجتمعاتنا فقط بهدف الربح المادي". اندفع إلى شراء الأرشيفات وإنقاذها من الإتلاف، وشرع يطبع الأشرطة في منزله ليكتشف آلاف الصور القديمة لنشاطات مجتمعية وثقافية تظهر الوجه الحضاري لمدينة دمشق خلال خمسينات القرن الماضي وستيناته. "شعرت بأنني أبعث الروح في شخصيات وحوادث طواها الزمن، واعتباراً من تلك اللحظة تحول شراء أشرطة النيغاتيف والصور القديمة المعرضة للتلف والاحتفاظ بها، أكثر من مجرد هواية: إنها مهمة مقدسة يتعين عليّ القيام بها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذاكرتنا"، يقول لرصيف22.صور من أرشيف أحمد حسن
الحرب تهديد للذاكرة...
يرى حسن أن هذه الهواية، أو المهمة، اكتسبت طابعاً أكثر أهمية خلال سنوات الحرب التي تعيشها سوريا. "كل ما حولنا في خطر، بما فيه تراثنا الغير مادي. ذاكرتنا القريبة، ذاكرة والدي وجدي التي تشبهني مهددة بالزوال. هذه الذاكرة التي تصنع شخصياتنا وتشكّل هوياتنا وتسمح لنا بالمضي قدماً في حياتنا، والتي من دونها سنصبح بمثابة مجتمع فاقد الهوية"، يقول لرصيف22. تمكّن حسن خلال السنوات الماضية من إنقاذ آلاف الصور والأشرطة السالبة من التلف من طريق شرائها من مصادر مختلفة، كتجار "الأنتيكة" في المدينة القديمة، وبعض باعة الجملة في الأسواق الشعبية. وهو يمتلك اليوم عشرات الصور التي يعتبرها وثائق اجتماعية وتاريخية ذات مدلولات عميقة عن الكيفية التي تطور بها مجتمعنا خلال العقود الأخيرة. كما أنها ذات قيمة فنية وجمالية عالية، فالتصوير أيام زمان كان حرفةً تتطلب عناية وإتقاناً قلما نجدهما اليوم مع التقنيات الرقمية. "استطعت الحصول على صور يعود تاريخها إلى عام 1920 ولا تزال محافظة على جماليتها وشكلها وألوانها"، يضيف حسن. يأمل أيضاً بأن يتمكن من إحياء حرفة تحميض الصور وطباعتها وحمايتها من النسيان من طريق تأسيس كيان يُعنى بتعليم الشباب السوريين الحرفة ونقلها إليهم، ويتحول ما يشبه التجمع المعني بأرشيف الصور السوري، "علّنا نتمكن من الحفاظ على ذاكرتنا التي يهددها الإهمال والحرب، ونتعلم دروساً من تطور مجتمعنا".صور من أرشيف أحمد حسن
صور من أرشيف أحمد حسن
الأمان للصورة
على رغم أن أرشفة الصور والاحتفاظ بها لا تبدو أولوية في خضم الحرب التي تعيشها البلاد، إلا أن كثراً مثل حسن، يرون أن جمع الصور والنيغاتيف بمثابة وسيلة بالغة الأهمية لحفظ ذاكرة مهددة بالاندثار.قد لا تبدو أرشفة الصور والاحتفاظ بها أولوية في خضم الحرب السورية إلا أن كثراً يرون جمعها وسيلة لحفظ ذاكرة مهددة بالاندثار.
تخلى عشرات المصورين عن أرشيفاتهم الغنية بالصور لباعة يشترونها بالجملة ويتلفونها لاستخراج الفضة منها..
"تعجبت من السهولة التي نستطيع فيها القضاء على ذاكرة مجتمعاتنا فقط بهدف الربح المادي".محمود العدوي ومازن الرواس، الصديقان اللذان التقيا مصادفة في دمشق بعد غياب دام سنوات، ليوحدهما مشروع واحد يأملان بأن يتحقق هدفه عما قريب. "مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري" هو عنوان مشروع العدوي والرواس، والذي انطلق في بداية مشابهة لعمل حسن.
صور من أرشيف مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري.
صور من أرشيف مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري
عثر الرواس، وهو شاب سوري خريج كلية الفنون الجميلة ويعمل في مجال السينما الوثائقية التنموية، منذ حوالى عام، وبمحض المصادفة، على أكثر من خسمة آلاف صورة كانت معدة للإتلاف والتدوير في مكب النفايات بمنطقة باب شرقي الأثرية، والتي تقع شرق العاصمة السورية دمشق وتحمل اسم أحد أبواب دمشق القديمة. طلب من المسؤولين عن المكب الاحتفاظ بها، وقد عادت به الذاكرة إلى أيام الحرب اللبنانية التي عاش كثيراً من فصولها في بيروت، ورأى كيف قضت على جزء لا يستهان به من ذاكرة هذا البلد الصغير وهويته. "جمعت صوراً كثيرة في بيروت، ووضعت بعضاً منها في أحد المقاهي، وبعد سنوات عدة حضر عدد من أصحاب الصور لاستعادتها بعد التعرف إليها. كان شعوراً جميلاً بحق"، يقول الرواس لرصيف22. وحين أخبر الرواس صديقه العدوي، وهو شاب مصري الجنسية يعيش في سوريا منذ حوالى عامين بهذا "الكنز" الثمين، قررا أرشفة الصور والحفاظ عليها. من هنا، بدأت رحلتهما في تجميع كل ما يمكن أن تقع عليه أيديهما من صور مطبوعة أو سالبة، وأرشفته.
صور من أرشيف مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري
صور من أرشيف أحمد حسن
"المناطق الساخنة والآمنة في سوريا معرضة لضياع أرشيفات الصور فيها بسبب الحرب، وهو ما دفعنا إلى التفكير في دعوة الناس إلى إحضار ما يملكونه من صور تظهر أشخاص المجتمع السوري وحياتهم في فترة ما قبل التصوير الرقمي، كي نعمل على توثيقها والاحتفاظ بها"، يضيف العدوي لرصيف22. شهراً بعد آخر، بدأت ملامح العمل تتبلور ليأخذ شكل مبادرة أطلق عليها الرجلان اسم "الأمان للصورة Save Pics"، حيث تجمع لديهما حتى الآن أكثر من ثمانين ألف صورة حصلا عليها من مصادر مختلفة: فمنها ما أحضرته عائلات سمعت بالمبادرة أو زارت جناحها الصغير في معرض دمشق الدولي شهر أغسطس الفائت، ومنها ما حصلا عليه من سوق الحرامية في دمشق أو أسواق أخرى تبيع كل ما هو قديم ويرغب الناس في التخلص منه. يرى العدوي والرواس أهمية مبادرتهما في تعريف الجيل الحالي من الشباب والأطفال بتاريخ الأجيال السابقة وإمساك التاريخ والتشبث به. ويضيف في حديثه إلى رصيف22: "نسعى أيضاً إلى أن يكون المجتمع شريكنا في المبادرة، ليس فقط من طريق الحصول على صور شخصية ممن يهتم بعملنا، وإنما أيضاً من طريق رفع الوعي لأهمية الصورة في زمن الحرب، وهي أهمية لا تقاس بالنقود. نسعى إلى إيقاف الإتجار بالصور وتعريف الناس بأهمية ما يملكونه وإن كان مجموعة من الصور القديمة المهترئة، فلكل منها قصة وحكاية".
صور من أرشيف مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري
صور من أرشيف مبادرة الحفاظ على الهوية البصرية للمجتمع السوري
لمن هذه الصورة؟
لعل أسعد لحظات الرجلين كانت عند تعرّف بعض زوار معرض دمشق الدولي إلى صور تعود لهم ولرفاقهم، والابتسامة التي ارتسمت على وجوههم وهم يرون ذكريات طواها النسيان، وهو ما شجعهما على دعوة الناس عبر صفحة المبادرة في فايسبوك إلى التعرف بأصحاب الصور المنشورة ودعوتهم إلى مشاهدة صورهم القديمة وتذكّرها. كما يسعيان إلى ترخيص عملهما داخل سوريا، ليتمكنا بشكل قانوني من إنقاذ آلاف الصور من المناطق التي شهدت معارك طويلة الأمد بشكل خاص. "عند دخول الهلال الأحمر وغيره من فرق الإنقاذ المناطق الساخنة، يعثر عناصرها بين الركام على صور كثيرة لا يملكون حقاً في سحبها، والتي ربما ستطحنها الجرافات والآليات لدى مرورها فوق ركام المنازل"، يقول الرواس. "الوقت عدو لنا، وكل يوم يمر يعني خسارة صور جديدة. لن أنسى قدوم رجل إلينا واستعداده لدفع كل ما يملك لقاء أن نعيد إليه صوره الضائعة"، يقول العدوي لرصيف22. كما يأمل بأن يتمكن مع صديقه ومع المهتمين بالمبادرة من الضغط على الجهات التشريعية لإصدار قوانين تجرم إتلاف الصور. ويضيف: "من المفترض أن تعود ملكية الصور إلى المجتمع بعد 50 عاماً من التقاطها، وأن يصبح إتلافها أو بيعها بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون. وهنا لا يمكننا إنكار سعينا إلى نقل هذه الأفكار إلى بلدان أخرى تستعر فيها نار الحرب مثل ليبيا واليمن وحتى مصر، فالصورة تراث إنساني مهدد بالخطر".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون