عندما يسأل أحد أحداً: ما اسمك؟ يجيب باسمه المعرّف به في دوائر النفوس، على بطاقة الهوية والأوراق "الثبوتية"، إذا لم يكن "مراوغاً" ويجيب على طريقة أوليس: اسمي "لا أحد". هذا الاسم هو قناعه الذي نحته عبر حياته الخاصّة، اشتغل على مادته المصنوعة من التاريخ، تفاصيله، مزاجه عند الاستلقاء، نوعية شرابه ومأكله على موائد الجماعة، وسطه الاجتماعي الذي رمته فيه الصدفة أو الاختيار، أو، ببساطة، نسخة من أقنعة أخرى معلقة على المشجب، وراء الباب، نسخة تركها الوالد، الأخ الأكبر، الخوري، المؤذن أو زعيم العشيرة.
تقريباً مضى عام على انتشار الكمّامة، ولا يكاد يمضي يوم دون أن نقرأ خبراً أو رأياً أو مقالاً يتحدث عن ارتداء القناع هذا، كيف أن الحياة أصبحت صعبة بنصف وجه، إي بفقدان المدخل للتعرّف على البشر من خلال وجوههم، إلى إنتاج هوية جديدة مخفية تحت القناع والتلاعب بها وبوظيفتها، هوية مقنّعة، مبطنة، غير مُدْرَكة بالحواس جميعها، مخترعة ويتمّ التلاعب بها وتحويلها كل لحظة، لكن مهلاً... ألم يكن الأمر هكذا دوماً؟
أقنعة الوظائف الحية
ارتبطت الأقنعة قديماً بالطقوس الدينية والوثنية، سواء المهرجانات، الكرنفالات، احتفالات التنصيب، الحرب أو مجرد الذهاب إلى الصيد، كان للجميع أقنعة حقيقية يرتدونها عند أداء الوظيفة، لساحر القبيلة قناعه، للجندي، للزعيم، يرتديه حين يقوم بوظيفته. كانت أقنعة "حيّة" ترتبط بماهية صاحبها وبتعريفه لنفسه وبتعريف الآخرين له عبر فاعليته في المجتمع، كانت وجوهاً أخرى أو كانت تتطابق مع الوجوه بالتعريف الوظيفي.
تتضمن عملية ارتداء الأقنعة، أو تغيير الجلد، نوعاً من الحضور الذي يرغب في الاختفاء، أن ترتدي قناعاً، ملوناً، قاتماً، ضاحكاً، باكياً، يعني أن تنسحب من شخصيتك التي تمتلكها وتمتلك شخصية تريدها، أو تصنعها شيئاً فشيئاً
ولاحقاً تم الاستعاضة عن الأقنعة تلك بتسميات لها قوة القناع الوظيفية، أصبح القناع رمزاً غير مرئي لكنه فاعل فوق الوجه، له قوة الواقعي وسطوته وسلطانه المخيف. لم يعد الجندي بحاجة لقناع مخيف ليرهب أعداءه أو ليعلن الحرب عليهم، أخذت البزة العسكرية، الخوذة وهيئة المحارب هذا الدور، بقي القناع الوظيفي موجوداً لكنه اختفى كمادة، صار مفهوماً مضمراً، خفياً ومعلناً معاً، كذلك سمّاعة الطبيب وروبه الأبيض، نظارات المثقف وقلمه، لقب "الأستاذ" وعصاه الخيزرانية، لم يعد زعيم القبيلة يحتاج قناعه ذا الريش، تاجه أو قبعته العسكرية. صمم الإعلام قناعاً آخر يردده يومياً على هيئة اسم ووظيفة وسيادة.
كانت الأقنعة الأولى تمحي الوجه لصالح الوظيفة الاجتماعية، لكن الدول الحديثة احتفظت بالاثنين، القناع والوجه، وخلطتهما بحيث لم نعد نعرف الوجه من القناع، تلاصقا وتوحدا، وصنعا أثراً خفياً وحيّاً كالبكتيريا.يحكي بيير أوديون، وهو أحد المعاتيه الذين عرفتهم في باريس، عن قصة حصلت معه: كنت مسجوناً بتهمة السرقة وكان رجال البوليس المولجين ضبط أمن السجن يسرقونني أنا والسجناء الآخرين، لم يكن هناك فرق بيننا إلا في القناع الوظيفي الذي نرتديه: أنا سارق وهم بوليس.
بعد حين، كان من الطبيعي أن يرتكب بعض رجال البوليس أخطاء، فيدخلون إلى نفس السجن لكن هذه المرة كسجناء عاديين، بدون أقنعتهم الوظيفية، لم تسقط أقنعتهم تلك، بقينا كسجناء نتعامل معهم كرجال بوليس، رغم أنهم سجناء مثلنا وليس لهم أي حقوق مثلنا، لكن هذا القناع الذي كنا نراه سابقاً استمرّ واضحاً بالنسبة لنا وبالنسبة لهم، بقي هناك، كوجه آخر تحت وجوههم المعروفة.
أقنعة الله، أقنعة البشر
نزل الله على جبل سيناء وأمر موسى بزيارته على قمة الجبل، بقي موسى 40 يوماً مع الله في جبل سيناء، يطلب منه العفو عن أمته، ثم يعود موسى إلى أسفل الجبل، إلى عشيرته وأمته، بوجه يلمع وشديد الإشراق، "لم يعلم موسى أن جلد وجهه صار يلمع في كلامه معه"، سفر الخروج. وكان هذا مخيفاً لأخيه هارون والكهنة وبقية الناس، وجعلهم يخشون الاقتراب منه، فاضطر موسى لوضع قناع على وجهه، يزيله عندما يتحدث مع الله ويعيده عندما يتحدث مع البشر.
منح الله عبر رسائله التي أرسلها مع الأنبياء وجوهاً نيرة، مؤذية للعين البشرية، بحيث اضطر الأنبياء لحجبها بالأقنعة عن الغير
قالت عائشة: كنت في حجرتي أخيط ثوباً لي، فانكفأ المصباح وأظلمت الحجرة وسقط المخيط أي الإبرة، فبينما كنت في حيرتي أتحسس مخيطي، إذ أطل علي رسول الله بوجهه من باب الحجرة. رفع الشملة وأطل بوجهه.
قالت: فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد أضاءت أرجاء الحجرة من نور وجهه حتى لقد التقطت المخيط من نور طلعته، ثم التفتُ إليه فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، ما أضوأ وجهك! فقال: "يا عائشة الويل لمن لا يراني يوم القيامة". قالت: ومن ذا الذي لا يراك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: "الويل لمن لا يراني يوم القيامة".
لكن أي الأقنعة يحتاج الأنبياء لارتدائها؟
منح الله عبر رسائله التي أرسلها مع الأنبياء وجوهاً نيرة، مؤذية للعين البشرية، بحيث اضطر الأنبياء لحجبها بالأقنعة عن الغير، لكن ما قبل الرسالة يختلف عما بعدها، والأنبياء، إن كانوا حقيقيين، يختلفون الآن عما كانوه، فالرب منحهم "أقنعة النبوة" التي أصبحت وجوهاً، اضطروا لسترها من جديد بوجوه/أقنعة عن العامة. قناع النبوة أصبح وجهاً، منيراً، أصلياً، يؤذي ولا يشبه الوجه السابق للنبي قبل تبلّغه مضمون الرسالة، والقناع الجديد أصبح وجهاً قديماً، يشبه الوجه الذي امتلكه النبي قبل امتلاك الرسالة، ولا نبي بدون رسالة أي بدون قناع، إذ يصبح "عادياً" كما الآخرين، راعياً أو جامع ثمار أو نجاراً أو صياد سمك.
بالنسبة لزرادشت تمثل الأفعى رمزاً للتحول، كونها تبدل جلدها باستمرار، هي الحيوان الذي لا تستطيع تدجينه إذ لا يملك وجهاً ثابتاً، بل وجهها مليء بالتحولات التي لا يستطيع البشر استئناسها ولا القبض عليها لفترة طويلة، وفي هذا يقول هايدجر إن في حكمة الثعبان نلاحظ قوة المحاكاة والتحوّل، وليس الخداع والمراوغة، بل إتقان ارتداء القناع والسرية والدوافع الخفية.
تتضمن عملية ارتداء الأقنعة، أو تغيير الجلد، نوعاً من الحضور الذي يرغب في الاختفاء، أن ترتدي قناعاً، ملوناً، قاتماً، ضاحكاً، باكياً، يعني أن تنسحب من شخصيتك التي تمتلكها وتمتلك شخصية تريدها، أو تصنعها شيئاً فشيئاً، وليس بالضرورة أن تكره الشخصية السابقة، لكن توجّب عليك مغادرتها إلى الشخصية الأخرى، ربما لتصبح أكثر إقناعاً، كما عند الأنبياء، أو لئلا يتعرّف عليك أحد من الذين كشفوك سابقاً، لتتخلص من الهوية التي أرغمت أو اخترت أن تكونها وتصنع هوية جديدة بوجه جديد.
الأكثر مراوغة، هو من يمتلك 99 اسماً، أي 99 قناعاً، أيّ منها ليس ثابتاً أو معرّفاً، هو لا يريد أن يحصر نفسه في اسم واحد، صفة واحدة أو قناع واحد، هو يرغب بامتلاك كل الأقنعة الممكنة ليقول إني لا أمتلك تعريفاً أو هوية
الجميع يرتدي أقنعة في يومياته، الخبّازة المحتالة (جارتي)، ساعي البريد، المحارب، الحلاق، حتى الذين لا يحتاجون لإخفاء شيء يرتدون أقنعة للحصول على مكاسب صغيرة، لكن الأقنعة الكبرى، أو الأقنعة التي تستبدل دائماً وتصبح هي الأوجه الأقرب للحقيقة، نراها عند الأنبياء والفلاسفة، يسميها فوكو "أقنعة الفلاسفة"، إنها أقنعة متقنة للغاية لدرجة أنها "تشبههم أكثر من وجههم الحقيقي"، تخلّصهم من عبودية التعريف ومن ثبات الهوية.
في المقدمة قلت إن أوليس كان مراوغاً وقال اسمي "لا أحد"، ليهرب من مطاردة السيكلوبس، استخدم قناعاً لفظياً ليهرب من مطارديه، لكن الأكثر مراوغة، هو من يمتلك 99 اسماً، أي 99 قناعاً، أيّ منها ليس ثابتاً أو معرّفاً، هو لا يريد أن يحصر نفسه في اسم واحد، صفة واحدة أو قناع واحد، هو يرغب بامتلاك كل الأقنعة الممكنة ليقول إني لا أمتلك تعريفاً أو هوية، لا أحد يمتلك أسمائي لئلا يمتلكني، أنا بلا وجه، فقط بأقنعة متراكمة ومتزاحمة، تداخلت حتى بتّ أنا نفسي لا أكاد أعرف الحقيقي من الزائف منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 3 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...